• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

خارطة المعارضة عند الامام علي(ع)

خارطة المعارضة عند الامام علي(ع)

  • 8-03-2020, 21:22
  • مقالات
  • 782 مشاهدة
جهاد العيدان


سيرة الامام علي بن ابي طالب (ع) مازالت مجهولة او ربما ضبابية رغم الكم الهائل والكبير من الدراسات والكتابات والمجلدات التاريخية , حيث اهتمت هذه الدراسات بجوانب ومعالم  معينة , فيما ظلت العديد من المساحات والفضاءات والجوانب من سيرته وعطاءاته وعلاقاته السياسية وافكاره الحضارية والمدنية في الظل اوحتى بعيدة عن القراءة والتسليط الاعلامي الا ماندر , فالرسول الاكرم (ص) تميّز عصره بادارة العلاقات الخارجية للمسلمين مع المشركين واليهود والمسيحيين، اما فترة حياة الإمام علي (ع) فتعتبر فترة غنية وثرية في مساحة العلاقات الداخلية والبينية بين المسلمين أنفسهم، سواء حين كان معارضاً أو حاكماً,فقد مارس (ع) عملية معقدة من العلاقات الموجهة الجديدة في الفكر والممارسة السياسية للمجتمع الاسلامي الجديد , عبر علاقات معقدة ومميزة, وفي ذات الوقت استطاع ان يجمع المتناقضين معا حيث ادارتلك العلاقات في الحكم وفي المعارضة معا بحيث كان هو الحاكم المعارض والمعارض الحاكم , وهي علاقة جدلية مذهلة لم تتات لاحد غيره رغم كل ماقيل ويقال عن الاخرين , فالامام علي (ع) ورغم قربه الشديد من الرسول الاكرم(ص) , لم يلجأ الى الاساليب الملتوية في ادارة الصراع مع الاخرين بعد انقلاب الامور لصالح فئة معينة بل انفتح على الواقع الجديد بصدر رحب وبفكر وقّاد وحاكمية رشيدة  حتى ان اعتراضه على نتائج السقيفة كان بحقائق علمية ومنطقية بل كان اعتراضا نابعا من القلب وللمصلحة العامة , ولم يكن لانتقام او حسد او رفض بالمطلق بل كان انتقادا شفافا برمزيته وشخصيته النافذة والعاقلة ، لم يكن اعتراضا لمصلحة او لهدف دنيوي رخيص مما قد يرشح الاختلاف لأن يتطور ليصل لمديات أكبر وأكثر تعقيداً.
لقد كانت معارضته (ع) إصلاحية في هدفها وليست انقلابية، فهي لأجل مصلحة الأمة، لا بحثاً عن ملك ودنيا، فالإمام كان يبحث عن إصلاح الأوضاع، ولم يسع إلى استلام الحكم كهدف لمعارضته, يقول الإمام علي (ع): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك)1, كما ان معارضته بالخط العريض مبدئية هادفة حيث لم ينطلق في معارضته من خلال اجتهاداته الشخصية،او مواقفه الانية او المرحلية بل من مرجعية مبدئية هي القرآن والسنة النبوية. فمتى ما وجدت فجوة بين النظرية الإسلامية من جهة والواقع الذي يديره الحاكم من جهة أخرى، كانت هنالك معارضة بمقدار تلك الفجوة، وكلما اتسع مقدار الفجوة ازدادت نسبة المعارضة.
ان مواقف الامام علي (ع) سواء في الحكم او المعارضة ثابتة ومتجذرة وراسخة لاتتغير او تتلون او تماري او تجانب الحقيقة بل كانت وليدة المبدأ والعقيدة وابنة الحقيقة ورائدة المستقبل مما جعلها شامخة ودليلا للاحرار والهاما للباحثين عن المستقبل الانساني السليم والوضاء , فكانت عملية المعارضة التي ادارها (ع) تتسم بالحكمة والبصيرة وبالرؤية التي لا تتغاضى عن المصلحة الإسلامية العليا والظروف الداخلية والخارجية المحيطة بالدولة الإسلامية الفتية، وخصوصاً في تلك الفترة العصيبة التي تلت رحيل رسول البشرية محمد بن عبدالله (ص).
لقد فسح (ع) المجال أمام الحاكمين لان يدلوا برايهم في الحكم وفي السياسة ولكنه كان بالمقابل يطرح الحقيقة ويدافع عنها بشدة وبالدليل والبرهان الساطع , كما انه فسح المجال بالتوازن مع المعارضين له لإبداء رأيهم ومناقشة أفكاره أو نقدها بصورة لاذعة وربما خطيرة لانه بهذا وذاك اراد ان يقدم لنا صورة الواقع الاسلامي الحقيقي باعتباره المترجم للرسالة والقران الناطق والوعد الصادق , انه اراد بهذه الطريقة أن يعطينا صورة واقعيّة عن الحاكم المسلم وحق الطرف الآخر في معارضته ومحاسبته، وإنّ الآراء والأفكار يجب أن تطرح في ساحة الحوار والمناقشة لبيان السقيم منها أو السليم لان الحاكم الحق .. لا المتسلط على الرقاب ،سيحكم على العقول والقلوب فيربي ويعلم ويهذب ويمنح شعبه الأمل والحرية والرفاه .ان الامام لم ياخذ بالظن او بالشبهة او حتى بالعلم الغيبي لمؤاخذة او معاقبة الاخرين , بل كان ياخذ بالجناية والجرم المشهود ويطبق الامور بالعدل والانصاف وكثيرا بالاحسان والرافة وهي صفات لم تتوفر لكل الرجال المعاصرين له او السابقين او الاتين من بعده , لانه رجل يصفه الرسول باخيه وبنفسه وبامينه ووصيه , والامام علي لو كان في امم اخرى لكانوا قد وقروه واحترموه وقدسوه .
 لقد مارس (ع) المعارضة وفق اخلاقيات واليات ومفاهيم نبيلة طوال السنوات الخمس والعشرين التي قضاها معارضاً ولنقل حاكماً في الظلّ يراقب الأوضاع عن كثب، كما يقول الكثير ممن تابعوا سيرته العطرة, فغضبه لم يخرجه يوماً عن الحق، كما لم يدخله رضاه في باطل، فنصح بصدق، وقاطع بحزم، ووقف أمام حملات التزييف ودعاة التحريف بشدّة، ليس حبّا في جاه أو طمعاً في منصب وإنما أراد أن يكون البديل الحضاري المتكامل الذي ستحن إليه أمته والأمم القادمة بعد أن تفيق من غفوتها وهكذا كان بعد اغتيال عثمان وهجوم الناس عليه للمبايعة. والملفت للنظر أن بعضا ممن كانوا معارضين ووصلوا إلى الحكم بقيت عندهم حالة المعارضة وعدم تقبّل الآخر ولم يكتفوا بهذا الحد بل نكلوا بمخالفيهم ومعارضيهم اشدّ التنكيل، في حين نشاهد الإمام(ع) أعطى صورة نقيّة للمعارض الملتزم والحاكم المنفتح على معارضيه. فهو يرى أن المعارضة حق طبيعي لكل فرد يرضاها لنفسه ويطلبها لغيره، وعندما كان في السلطة عمل على تركيز هذا المنهاج وتثبيته وذهب إلى أبعد من ذلك عندما عفى وصفح عن الناكثين للبيعة والخارجين عن الطاعة -2,حتى ان  السيد محمد الحسيني الشيرازي نقل في كتابه السبيل ، إلى إنهاض المسلمين ,مانصه (أن حرب الجمل التي قادها طلحة والزبير وعائشة ضد الإمام أمير المؤمنين(ع) عندما انتهت ذهب الإمام(ع) عندها في جولة تفتيشية إلى بيت واسع قيل للإمام أن النساء قد اجتمعن فيه يبكين قتلاهن من الجيش المنهزم وهنّ يسبّن الإمام(ع) وأصحابه، فدخل الإمام(ع) وقال لأصحابه: لا تتعرّضوا لهنّ وإن سببن امرائكم وشتمن أعراضكم، ولمّا رأت النسوة الإمام(ع)، قلن: هذا قاتل الأحبة! فقال(ع): لو كنت قاتل الأحبة لقتلتُ من في هذه الغرف - وكان في الغرف جماعة من محاربيه -. وإذا بالنساء يسكتن فجأة وكأن على رؤوسهنّ الطير, فتعجب الناس من ذلك! ماذا قال الإمام(ع)؟ وما الذي دعا هؤلاء النسوة إلى السكوت؟ وبعد ذلك انكشف الأمر لأصحاب علي(ع) حيث عرفوا أن رؤساء الجيش المنهزم كانوا قد اختفوا في تلك الغرف، وإن النساء قد اجتمعن هناك للتعمية والتضليل، ولمّا أشار الإمام للموضوع خفن وسكتن!-3
ورغم كونه (ع) وكما يوصف معارضاً صلباً لا ينافي أن يكون في الوقت ذاته الملاذ الذي يأوي إليه الخلفاء لرد الشبهات ودحض الأباطيل وحلّ المعضلات، وتحديد الأولويات الحكومية مادامت تتفق مع مصالح الإسلام، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على صدق معارضته واخلاصه لعمله.
قد كانت معالم المعارضة عند الإمام علي (ع) تتسم: أولاً بالإصلاح كهدف، وثانياً بالمبدئية في المنهج، وثالثاً بالعلنية في التحرك، ورابعاً بالسلم كطريق، وخامساً بالإيجابية في التعاطي مع الحكام دون الخروج عن العقيدة او التجني على الرعية ، وسادساً بالأخلاقية وحسن التعامل مع الأعداء والمنافسين، وسابعاً بالإيمان بالتعددية السياسية، والقبول بالاخر وثامناً بالصبر الاستراتيجي والنفس الطويل لتحقيق الأهداف , لدرجة ان الامام علي (ع) في زمن حكمه آمن بوجود تعددية سياسية ولم يجبر أحداً على السير بطريقته أو على مبايعته؛ فكان هنالك فريق من الصحابة لم يبايع الإمام علياً(ع)، كعبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، فتركهم ولم يعترض لهم بسوء، وكان هنالك الخوارج الذين كانوا يوجهون أشد التهم والسباب لأمير المؤمنين(ع)، ويعملون ضده كحزب منظم، ويحرضون الناس عليه، إلا أنه لم يكن يواجههم ويصادر حريتهم في معارضته، بل أعطاهم ثلاثة حقوق قبل أن يخرجوا لقتاله، فقال(ع):- 4 (إن لكم علينا أن لا نبدأكم بقتال أي لكم حق العمل المعارض ما دمتم لا تبدأون بالقتال وأن لا نقطع عنكم الفيء أي إن نصيبهم من المال العام كنصيب غيرهم وأن لا نمنعكم مساجد الله أي حق التجمع والاجتماع مع الناس)، وإنما قاتل الإمام علي (ع) أولئك الذين خرجوا بالسيف وقتلوا العباد وأفسدوا في الأرض, هذه هي معالم مدرسة الامام علي في المعارضة وفي الحكم ,اي هناك تبادلية في هذين العنصريين فهو معارض يحكم في الظل وهو حاكم ولكن يعارض بعض الجماعات المخالفة ويعارض بعض السلوكيات الخارجة عن النسق الديني , وبمثل هذه المعارضة الرسالية الهادفة النقية الخالصة لوجه الله، والقائمة على اسس العلم والمبادئ والايمان والطوية المخلصة ، والباحثة عن خلاص الناس وتحقيق السعادة ، استطاع الإمام علي (ع) أن يستحوذ على قلوب وعقول الناس , فنادوا به حاكماً وأميراً عليهم، فبرز سلام الله عليه كأعظم معارض وأعظم خليفة لرسول الله (ص) ورسم للمجتمع البشري تلك الخارطة العملية لانسان الحضارة وانسان الابداع وانسان الخير .
وبالتالي يمكن القول إن المعارضة الرسالية في أي زمن أو اي بلد ينبغي أن تستفيد من المعالم والدروس العالية والمنتجة التي اختطها سيرة الإمام علي (ع)، وان تضعها كخارطة عمل بها تبتدأ واليها تنتهي من اجل مستقبل وضاء ومشرق وايماني .
========================================
1- نهج البلاغة للامام علي (ع)
2- علي عبد الرضا- الامام علي المعارض والمعارض مجلة النبأ العدد 50 تشرين الاول 2000
3- السبيل ، إلى إنهاض المسلمين  ط2، ص208
4-  أخلاقيات أمير المؤمنين: ص298.

أخر الأخبار