• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

سينما المقاومة في مواجهة الحرب

سينما المقاومة في مواجهة الحرب

  • 3-06-2020, 17:33
  • مقالات
  • 710 مشاهدة
خليل الطيار

 

مرت السينما العراقية منذ ولاتها القيصرية ، بمخاضات صعبة طوال تاريخها، شهدنا خلالها مراحل ازدهارعلى المستوى النوعي لا الكمي، وتدهورت في مراحل اخرى حتى كادت تندثر بفعل اهمال ذوي الشأن لدورها . وذلك له اوجه اسباب عديدة ليس من اهداف مقالتنا هذه التعرض لها.... 

لكن الاصرارعلى ابقاء استمرار دوران عجلة السينما العراقية، ظل رهين حلم ومسؤولية جهود فردية نهض في حملها مجموعة من الشباب وبعض من رواد الحركة السينمائية في العراق ،ممن لا يزال يؤمن ان السينما احد فنون التنويروالتغيير،وقادرة على النطق الفاعل والمعبرعن هموم الجماهير ومحاكاة اوجاعها وتطلعاتها .

ولان فن السينما يدخل في ابجديات الصناعة، فهي تخضع لقانونها الذي يشترط،ضمانا لديمومة الانتاج وتحسينه،توفرسيولة رأس المال،وهوكثيرا ما يقف حائلا امام تحقيق حركة سينمائية ترتكزعلى مقومات انتاجية توفرارضية خصبة لتنفيذ العديد من السيناريوهات والقصص الرائعة التي كتبت عن سفرهذا الشعب المعطاء. لكنها عطلت وركنت على الرفوف تواجه محنة الانتاج بجانب افتقارالمؤسسات المعنية لاي ستراتيجية اوخطط لانشال السينما العراقية من واقعها المرير.

 يمكنُ القولُ إن الميزانيات الضخمة والبنى التحتية لصناعة السينما، ليست كافية لإنتاج أفلام ناجحة، تستحق أن تسجل في ذاكرة الارشيف السينمائي لأي بلد كان، إن لم تتعكز على مضامين وقصص رائعة، يتم تقديمها برؤى سينمائية وحرفية عالية، تحقق نجاحا فنيا وجماهيريا مهما تواضعت ميزانية انتاجها، بجانب توفر كوادر تتفهم مسؤولية وأهمية الرسالة المتحققة، من نجاح نتاجهم السينمائي، شريطة تقديمه بمضمون وشكل فني ناجحين، وهذا ما وجدناه جليا في فلم "جاري الاتصال" الذي قدمه المخرج الشاب بهاء الكاظمي، واشترك معه في كتابة القصة والسيناريو احمد ابراهيم السعد، وأنتجه مركز الامام الكاظم للثقافة والإرشاد في مدينة البصرة.

موضوعة الحرب

ثمة سؤال يتبادر الى الذهن، مفاده: كيف تنجح لغة السينما، كإحدى ادوات المقاومة الفنية، في قراءة موضوعة الحرب؟ لتغطي وتستوعب مساحة القصص والمشاهد العظيمة والكبيرة، التي واجه بها العراقيون حجم موضوعة الحروب وآفة الارهاب، إذ قدموا خلالها صورا ومآثر عظيمة في المقاومة والاستبسال، مكنتهم من استئصال شأفة الارهاب، ليخرجوا منتصرين بتضحيات كبيرة، ستندثر ويطوي التاريخ صفحاتها لو تم الاكتفاء بتدوين صورها عبر اجناس السرديات الادبية، ما لم يتم استثمارها في لغة وادوات الجماليات المرئية، الأكثر قدرة على الانتشار والتأثير بالمتلقي، ومن أبرزها الدراما السينمائية، التي تتمكن عناصرها ومؤثراتها البصرية، من تقديم النموذج الامثل والاقوى تأثيرا في اختزال المساحة الواسعة لحكايات ومآثر التضحيات والبطولات، التي سطر فيها رجال العراق وشعبه أروع صور المقاومة والصمود .

و"جاري الاتصال" من الافلام الروائية القصيرة التي يمكن تصنيفها ضمن محور سينما "المقاومة"، التي بدأت معالمها تتضح بإنتاج سلسلة من الافلام، صنعت بجهود فردية من السينمائيين الشباب، تناولوا فيها موضوعة (الحرب)، واشتغلوا على قراءة نتائج انعكاساتها المجتمعية، وتوقفوا عند قيم التضحيات الكبيرة التي قدمها ابناء العراق بكل صنوفهم في ساحات المعارك، فاستحقت قصصهم أن تسوق بلغة سينمائية مؤثرة، وبهذا نجح فلم المخرج بهاء الكاظمي في أن يكون أنموذجا ناجحا من بينها.

اعتماد الفيلم على قصة حقيقية، لمقاتل يسجل بهاتفه قبل أن ينال شرف الاستشهاد، رسالة صورية وهو في ساحة المنازلة، اذ يبعث بها لأمه قبل ان يواجه مصيره المحتوم، لتبقى هذه الرسالة هي الرابط المتبقي، لأمل انتظار الام لعودة ابنها من جبهات القتال والتشبث بحلم التواصل معه، رغم وجود يافطة استشهاده المعلقة في واجهة الدار، في اشارة ذكية الى ان الشهداء لا يموتون، بل هم احياء يرزقون في قلوب وضمير ذويهم، وقد ينهضون ويعودون من جديد..

وحمل "جاري الاتصال" بزمنه القصير، الذي لا يتجاوز 15 دقيقة، بسبعة مشاهد رئيسة، رسائل ومحتوى وجدانيا كبيرين، قدم خلالها المخرج والممثلون وكادره الفني، لغة سينمائية استندت الى مبدأ الايجاز وتكثيف الصورة لتجسيد فكرة الفلم، وترك فيها المخرج كاميرته اسيرة رؤيته المكثفة، اذ لم يدعها تنبهر في اطالة زمن اللقطات والبذخ الزائد فيها، ليتمكن من احتواء وتكثيف حزمة مشاعر وجدانية، فجرت بوجه ما خلفته الحرب من مآسٍ استدعت تقديم تضحيات جسيمة، استثمرت فيها كل جبال الصبر وصور الصمود لمنع الهزيمة الميدانية والمعنوية فيها.

وحتى لا يترك فلمه يقع اسير الجزع الميلودرامي المفرط، كان الكاظمي منتبها الى ترك رسالة فلمه الأخيرة، تستشرف قيمة وثمرة الشهادة، جسدها في مشهد أخير، بعث خلاله على لسان بطله الشهيد الحاضر، رسالة اطمئنان لراحة واستقرار أرواح الشهداء الابطال، حيث استقرت في ملكوت جنان الخلد، لينزل السكينة والراحة ويطبع وسام العزة على قلوب الامهات المفجوعات بفقد الأحبة.

المؤشرات الفنية

الفلم بسبب قلة الإمكانات المتوفرة له، تم انتاجه بأسلوب افلام السكرين، ولهذا السبب كاد أن يكون أقرب الى اسلوب الدراما التلفزيونية منه الى لغة السينما، لولا حرفية وفطنة المخرج والمونتير الناجح ياسر سعد، اللذين أسهمت جهودهما بتخليص الفلم من رتابة ونمط الايقاع التلفزيوني، وحافظ المقص على تشذيب اللقطات من الاطالة، وعدم ترك مشاهد الفلم القصيرة تستغرق زمنا طويلا، لتنمية تسلسل احداثه بلا افراط..

بجانب نجاح مدير التصوير (حسين كولي) باختياره منطقة (نظران) في مدينة البصرة القديمة، التي وفرت للفلم بيئة ونسقا مكانيا ملائمين لأحداثه، ونجحت اضاءة محمد العلي في رسم اجواء زمنية ملائمة لمشاهده، اذ سهلت على المخرج تقديم لغة سينمائية سلسة قاومت تصحر الامكانات وضعفها، وقدمت مادة سينمائية سهلة ممتنعة حققت نجاحا جماليا باعتماد لغة الايجاز والتكثيف من دون اسراف، وعلى الرغم من تعدد الانتقالات التي كانت تحتاج الى التخلص من تكرار طريقة (Black fade) واستبدالها بانسيابية الربط المباشر، للمحافظة على تدفق نمو الاحداث، التي كانت في بعض نهايات مشاهدها تحتاج الى ان تترك مؤثرات (محمد الرسام) مساحة الصمت تأخذ مكانها، لتنجح في احداث قوة شحن انفعالي اقوى اثرا من اقحام اصوات الآهات المتكررة.

 

الأداء التمثيلي

 جسد الفيلم من خلال نجاح اداء أدوار ممثليه، المقولة التي تقول: ليس هناك دور كبير ودور صغير، بل هناك ممثل كبير واخر صغير، فالممثلة القديرة عواطف السلمان بدور الام كانت بكبرياء ادائها وروعته قد تجاوزت كل معايير التقييم الفني، إذ تألقت الى الحد الذي استحقت فيه ان تتربع على قمة تجسيد انموذج الام العراقية، بكل ما تحمله من صفات واحاسيس الايثار والصبر، إذ استفرغت فيه كل طاقة التحمل البشري لمأساة فقد الامهات لأبنائهن، وجسدته في اروع اداء بتاريخها الفني على الاطلاق، وقدمت بمشهد تلقيها اتصال من ابنها اداءً احترافيا اختزل وجع ملايين الامهات، استحقت به نيل شهادة الاداء النبيل الذي تشترطه الدراما في تعريفاتها، وسيخلدها ممثلة كبيرة تستحق التقدير. توازن قباله اداء مجموعة ممثلين شباب، كشف عن قدرات وامكانات ممثلين أكاديميين محترفين، هم: منهل عباس، وحيدر حميد، وشمس خالد، وهاني القريشي، ومؤيد عبد سلام، وتواجد معهم في ادوار مساعدة عمار مشتاق، وعمار امين، وأمجد كاظم.

فلم (جاري الاتصال) صنع خارج دعم مؤسسات الدولة وانتج بدعم متواضع من مركز ديني للثقافة والارشاد في مدينة البصرة وتخلى فيه كادره عن النفع المادي ليربحوا النفع والاثرالفني الاثمن بعد ان حصد الفلم بمشاركاته العالمية عدة جوائزمهمة في المهرجانات السينمائية استحق معها بان ترفع لكادره قبعات التقديروالاشادة والاستحقاق ليخلد فلمهم في سفر نتاج سينما المقاومة التي يكافح على ديمومة انتاجها جيل من السينمائين الشباب من بينهم المخرج الشاب (بهاء الكاظمي)الذي كشف عن امكانية سينمائية واعدة ستمكنه من تقديم عطاء مثمرمستقبلا اذا ما توفرت له الامكانات والادوات المطلوبة لصناعة وتقديم سينما عراقية تقاوم حالة الجدب الذي تمرفيه .

أخر الأخبار