• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

المعركة القادمة .. من يمتلك التكنولوجيا يكتب النصر

المعركة القادمة .. من يمتلك التكنولوجيا يكتب النصر

  • أمس, 20:22
  • مقالات
  • 27 مشاهدة
د. محمد عصمت البياتي

"Today News": بغداد 

في عالمنا المعاصر، تتزايد الصراعات الجيوسياسية وتتعقد أدواتها بشكل لم يسبق له مثيل، فلم تعد الحروب تُخاض بالأسلحة التقليدية وحدها، بل أصبحت تعتمد على شبكات الألياف البصرية، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة، وأجهزة تحليل البيانات الضخمة، والأقمار الصناعية التي ترصد وتوجه وتنفذ العمليات الحربية بدقة متناهية. التكنولوجيا اليوم لم تعد مجرد عامل مساعد بل تحولت إلى القوة الحاسمة التي تحدد مَن ينتصر ومَن يُهزم، مَن يفرض شروطه ومَن يُستهدف.

*مواجهة إيران وإسرائيل – التكنولوجيا في قلب المعركة*
شهد العالم  واحدة من أكبر المواجهات التقنية العسكرية في الشرق الأوسط بين إيران وإسرائيل، إذ أطلقت إيران أكثر من 300 هدف هجومي متنوع بين طائرات مسيّرة انتحارية، وصواريخ كروز، وصواريخ باليستية طويلة المدى، في عملية وصفت بأنها "الهجوم الصاروخي الأعقد في تاريخ المنطقة". اعتمدت إيران في هذه العملية على نظام قيادة وتحكم إلكتروني معقد يجمع بين الرصد الميداني والتوجيه الفضائي باستخدام شبكات مشفرة. في المقابل، لجأت إسرائيل إلى منظومة دفاع متعددة الطبقات تضمنت القبة الحديدية، مقلاع داوود، وحيتس-3، بالإضافة إلى توظيف الذكاء الاصطناعي لتحليل وتتبع المسارات واعتراض الأهداف في الزمن الحقيقي. برزت هذه المواجهة كدليل قاطع على أن الحروب الحديثة لم تعد بحاجة إلى التوغل البري، بل إلى تكامل رقمي-عسكري يحقق الأثر المرجو بأقل تكلفة بشرية مباشرة.

*الأرقام لا تكذب – أين يقف العالم من التكنولوجيا العسكرية؟*
تكشف الإحصائيات أن العالم يسير بثبات نحو عسكرة التكنولوجيا، حيث توجه اليوم أكثر من 60% من موازنات الدفاع العالمية إلى تطوير التكنولوجيا بدلًا من الأسلحة التقليدية، وفق تقرير مؤسسة "ستراتفور" لعام 2023. وتُظهر توقعات أخرى أن الإنفاق العالمي على الذكاء الاصطناعي العسكري سيصل إلى 21 مليار دولار بحلول عام 2025. أما سوق الطائرات المسيّرة العسكرية فيتوقع أن يتجاوز حجمه 120 مليار دولار بحلول عام 2030، مع معدل نمو سنوي يزيد على 12%، بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي. وعلى صعيد الأمن السيبراني، تُقدّر الخسائر السنوية الناتجة عن الهجمات الرقمية بأكثر من 8 تريليونات دولار عالميًا في عام 2023، مما يجعل تأمين الفضاء السيبراني أولوية قصوى لأي دولة حديثة تسعى للحفاظ على أمنها القومي. هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات على سباق تسلح تقني، بل تعكس تغيّرًا جذريًا في فلسفة الحروب ومفاهيم السيادة الوطنية.

*الدروس المستخلصة – لا أمن دون تفوق علمي*
أبرز ما برز في المواجهات الحديثة أن الأمن لم يعد يُبنى فقط على الردع العسكري التقليدي، بل على القدرة التقنية والعلمية للبلد. فالتفوق في التكنولوجيا يعني القدرة على فهم التقنيات الحديثة وابتكار حلول مستقلة، وتوطينها داخل حدود الدولة بحيث لا يعتمد الأمن الوطني على الخارج. بالإضافة إلى ذلك، يجب امتلاك قاعدة بشرية مؤهلة تستطيع تشغيل وتطوير هذه التقنيات الحديثة. لذا، تنبع ضرورة بناء مراكز علمية متخصصة تركز على مجالات الذكاء الاصطناعي، والحرب السيبرانية، والروبوتات القتالية، والطائرات المسيّرة، والتشفير العسكري. يجب أن تكرّس هذه المراكز ميزانيات مستقلة وتُمنح حرية أكاديمية واسعة للبحث والتطوير. كما يجب إعداد برامج تدريب وطنية متخصصة تستهدف الشباب في تخصصات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي في المجال الدفاعي، أمن الشبكات، تحليل البيانات الاستخبارية، وأنظمة القيادة والتحكم. ولا يقل أهمية عن ذلك فتح قنوات التعاون والشراكات مع مراكز البحث العالمية لنقل المعرفة وتوطين التكنولوجيا. ومن الناحية المالية، تُظهر بيانات مقارنة بين دول العالم أن رفع الإنفاق على البحث والتطوير إلى 1.5% من الناتج المحلي يمثل خطوة ضرورية، خاصة أن أغلب الدول العربية لا تتجاوز نسبة الإنفاق على البحث العلمي فيها 0.3%، وهو رقم يحتاج إلى تحسين جذري لضمان الاستقلالية التقنية.

*نحو استراتيجية وطنية للتمكين التكنولوجي*
تحتاج الدول ، ومنها العراق، إلى صياغة استراتيجية وطنية شاملة تستند إلى عدة محاور رئيسية. أولها إنشاء هيكل مؤسسي وطني مستقل مكلف بإدارة البحث والتطوير التكنولوجي في المجالات الدفاعية والمدنية، بحيث يتمتع بصلاحيات تخطيطية وتنفيذية واضحة. ثانياً، لا بد من دمج مناهج الثورة الصناعية الرابعة في جميع مستويات التعليم العالي والمعاهد التقنية، لتأهيل أجيال جديدة قادرة على مواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة. كما يجب العمل على بناء الكوادر البشرية من خلال توفير منح دراسية داخلية وخارجية ضمن تخصصات تكنولوجية استراتيجية. ويجب أن تصاحب ذلك جهود تمويلية عبر إنشاء صناديق سيادية أو دعم حكومي مخصص للابتكار والبحث العلمي. بالإضافة إلى ذلك، لابد من تطوير أطر تشريعية وأمنية متينة لحماية البنية التحتية الرقمية من التهديدات والهجمات السيبرانية التي باتت تشكل خطراً وجودياً على الدول. فالعقل المتقدم الذي يتحكم في التكنولوجيا هو أقوى من أي سلاح، ومن يملك العلم يملك القرار، ومن يملك القرار يحمي سيادته وكرامته.

*الخاتمة: العلم حصن الوطن الحديث*
في ختام الأمر، يمكن القول إن الأمن الحقيقي لأي دولة في القرن الواحد والعشرين لم يعد يرتكز فقط على الحدود المرسومة أو الجيوش التقليدية، بل يعتمد بشكل متزايد على امتلاك بنية تحتية تكنولوجية متينة وعقول متمكنة واستراتيجية وطنية واضحة تُعطي أولوية قصوى للتمكين التقني. إن كل دولار يُنفق على البحث العلمي والابتكار هو استثمار مباشر في الأمن الوطني والسلم الاجتماعي، وكل تأخير في هذا المجال يعرض الدولة لمخاطر متزايدة من الهجمات الإلكترونية والتحديات الأمنية. لذلك، لا بد من اتخاذ خطوات جريئة ومنهجية لبناء مستقبل آمن مزدهر.

أخر الأخبار