في ذكرى مأساة ما بعد ثورة العشرين
"Today News": بغداد
كانت ثورة العشرين، التي قادها شيعة العراق ضد الاحتلال البريطاني، حركة عظيمة ومهمة بحد ذاتها، ورد فعل تاريخياً طبيعياً، عبّر عن تمسّك الشيعة بالثوابت الدينية والوطنية، وعن التزامهم بقرارات مرجعيتهم الدينية. لكن المشكلة الكبرى تمثّلت في المآلات المأساوية للثورة، وذلك للأسباب التالية:
1- لم يكن لدى الثوار، وعموم الشيعة، برنامج سياسي واضح لمقاومة الاحتلال، أو لاستثمار نتائج الثورة، ولا خطة استراتيجية لمرحلة ما بعدها.
2- غياب التنسيق بين مكونات الطيف الشيعي؛ فلم يكن هناك توزيع واضح للأدوار بين من يعتمد المرونة، أو يلتزم بالثبات، أو ينتهج التشدد أو البراغماتية، أو بين من يقاتل ومن يفاوض.
3- وقع الشيعة ضحية شعارات الوطنية والتضحية من أجل الوطن، فكانت مهمتهم تقتصر على إنقاذ العراق من الاحتلال، دون أن تكون السلطة موضع اهتمامهم.
ويرجع هذا التفكير المحدود والسلوك الضعيف إلى ما يلي:
1- ثقافة موروثة تقوم على ابتعاد الشيعة عن السلطة ومشكلاتها، وعدم تحمل مسؤوليتها وتبعات الصراع عليها.
2- الافتقار إلى الخبرة السياسية، وإلى روح المبادرة، لا سيما فيما يتعلق بلعبة السلطة، والتنافس عليها، وسبل اقتناصها، كون شيعة العراق مواطنين عثمانيين من الدرجة الثالثة، لم يكن يُسمح لهم بممارسة العمل السياسي ضمن أجهزة الدولة العثمانية.
3- شعور النخب الشيعية بانعدام الوزن السياسي، وضعف الثقة بالنفس، وقلة الحيلة، نتيجة ما تعرض له الشيعة من استلاب نفسي، وقمع، وتهميش، وعزل على يد الدولة العثمانية.
4- عمق المخطط البريطاني، واستباقه للأحداث منذ العام 1916، حين اتفق البريطانيون مع الشريف حسين، حاكم الحجاز، على تسليم حكم سوريا والأردن والعراق لأبنائه علي وعبد الله وفيصل، مقابل تحالفه معهم وإعلانه الثورة على الدولة العثمانية.
وبعد انتهاء ثورة العشرين، خدع البريطانيون النخب الشيعية مرة أخرى، من خلال سلسلة من المسرحيات السياسية، أوهموا عبرها تلك النخب بأنها شريكة في تقرير مستقبل العراق الجديد، وبأن بإمكانها اختيار شكل الحكم وتحديد هوية الحاكم. في وقت كان البريطانيون قد رتبوا كل شيء مسبقاً مع الشريف حسين منذ العام 1916، ثم فرضوا عميلهم فيصل، السني غير العراقي، حاكماً على العراق، رغماً عن إرادة شيعة العراق ونخبهم السياسية والدينية.
ومن المفارقات أن بعض الشيعة لا يزالون يعتقدون أن النخبة السياسية الشيعية، برئاسة الشيخ محمد رضا الشبيبي، هي من اختارت فيصل بن الحسين لحكم العراق. ما يعني أن آثار أكبر عملية استغفال للنخب الشيعية العراقية في التاريخ الحديث، لا تزال قائمة.
أما نخب السُّنة في العراق، من الضباط والسياسيين العثمانيين المتجذرين في الدولة العثمانية، فقد كانت تحركاتهم وخياراتهم على النقيض تماماً. ويمكن تلخيص سلوكهم السياسي بما يلي:
1- عقدت النخب السنية تحالفاً مذلّاً وارتزاقياً مع البريطانيين، حوّل عناصرها من موظفين في أجهزة الدولة العثمانية إلى عملاء تنفيذيين بيد الاحتلال البريطاني.
2- انقلبت النخب السنية على الدولة العثمانية، التي كانت وليّ نعمتها وسيدتها لأربعة قرون، بمجرد أن لاح لها ضعف العثمانيين واقتراب نهايتهم.
3- حاربت النخب السنية ثورة العشرين بضراوة، من خلال الانخراط في الجهد العسكري أو الاستخباري البريطاني، وبثّ الإشاعات والدعايات، وإثارة الانقسامات بين الشيعة والثوار، واستصدار فتاوى من بعض مشايخ السنة ضد الثورة.
4- تحركت النخب السنية في سبيل الاستحواذ على السلطة ببراغماتية مطلقة، دون اعتبار للثوابت الدينية أو الوطنية. وظلت تمارس لعبة السلطة بإتقان، مستثمرة الدعم البريطاني الحصري المباشر لها، وتمتعها بالخبرة السياسية المتراكمة، نتيجة خدمتها الطويلة في مؤسسات الدولة العثمانية، وتربيتها في أحضانها.
لذلك؛ كان (الوطن) بالنسبة للنخبة السنية يعني (السلطة) فقط؛ فهي لا تؤمن بوطن لا تحكمه، وشعارها: «لا وطن بلا سلطة»، أو باللهجة العراقية: «ماكو سلطة.. ماكو وطن». فإذا لم تكن ممسكة بزمام السلطة، فلا يعنيها إن احترق الوطن. أما شعارات الوطن والوطنية، فلم تكن سوى سردية دعائية تلقِّنها للشيعة لاستدراجهم إلى التضحية، وتوظيفهم خدماً في وطن تحكمه، وحطباً لحروبها ضد أبناء الوطن أو جيرانه، تحت لافتة (الوطنية).
ولا شك في أن بريطانيا، لو كانت قد سلّمت السلطة في العراق إلى الشيعة آنذاك، لعادت معظم النخب السنية إلى مواقعها في تركيا، وظلت على تبعيتها للعثمانيين، بل لحاربت العراق بضراوة.
ولم يكن من الممكن أن تفكر النخب الشيعية بأسلوب تفكير النخب السنية، ولا أن تمارس سلوكياتها، ليس بسبب ضعف خبرتها السياسية أو عدم اهتمامها بموضوع السلطة؛ وإنما لأن ثوابتها الدينية والوطنية كانت تمنعها من ذلك. كما أن بوصلتها غالباً ما كانت تتجه نحو المرجعية الدينية، التي تمثل ضمانة التزام الشيعة بتلك الثوابت.
لكن، في المقابل، كان يمكن للنخب الشيعية أن تعتمد التفكير الاستراتيجي والتكتيك المرحلي، وأن تخطط لما بعد كل معركة، بدل أن تخوضها بلا رؤية واضحة لما بعدها. لقد كان عليها أن تستثمر الثغرات والفرص، وأن تضع عينها على السلطة في كل خطوة، بدل أن تظل أسيرة أوهام (الوطن)، وهي محرومة من أبسط الصلاحيات أو الأدوار، وتحت وطأة التهميش والقمع. ولذلك، لم يكن مستغرباً أن تفوز النخب السنية بكل شيء، وأن يخسر الشيعة كل شيء.
اليوم, 13:04 لماذا يذعن الكيان بخسائره بينما المرندي ينكرها؟!!
د.رعدهادي جبارةاليوم, 11:31 في ذكرى مأساة ما بعد ثورة العشرين
د. علي المؤمنأمس, 18:34 الأبعاد الإنسانية والتربوية لنهضة الإمام الحسين(ع)
وليد الحليأمس, 10:42 ما بعد الحرب على إيران
إبراهيم العبادي