• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

المرجعية الدينية وإشكالية الخطاب القومي والمناطقي

المرجعية الدينية وإشكالية الخطاب القومي والمناطقي

  • 2-05-2020, 00:43
  • مقالات
  • 735 مشاهدة
د. علي المؤمن

    عند الحديث عن المرجعية الدينية الشيعية ينصرف ذهن بعض الشيعة الى حدود بلادهم الجغرافية، متناسين أن المرجعية معنية بكل شيعة العالم، ولاتخص بلداً دون آخر. وتبرز هذه الظاهرة في أوساط بعض العراقيين والإيرانيين أكثر من غيرهم من شيعة  البلدان الأخرى؛ فيطالب بعض العراقيين بمرجعية عربية أو مرجعية عراقية، ويطالب بعض الإيرانيين بأن يكون تقليدهم لمراجع قم دون غيرهم. و منطلق هذا الخطاب النزعة القومية والمناطقية، أو دفع خصوم خارجيين، أو الجهل بطبيعة عنوان المرجعية.

    وبرغم أن هذه الخطاب العنصري والمناطقي لايشكل ظاهرة عامة وليس له عمق نوعي أو عددي؛ لكنه تحول بعد العام 1980 الى موجة إنحرافية خطيرة ذات صوت عال؛ تزامناً مع التحولات السياسية في العراق وإيران؛ بل بات جزءاً من أجندة نظام البعث بعد العام 1991، وأخذ بعض علماء الدين يتبنونه جهاراً لأول مرة في تاريخ الشيعة؛ برغم الرفض العام له من الأغلبية الساحقة لشيعة البلدين.

    ويغفل أصحاب هذا الخطاب أن شيعة الهند وباكستان ــــ مثلاً ـــ يبلغون حوالي (110)  ملايين نسمة؛ أي أنهم يشكلون كتلة عددية تفوق عدد شيعة العراق وايران وجميع الدول العربية مجتمعة. فلماذا لا يطالب هؤلاء بمرجعية هندية أو باكستانية تحصر مهامها في شبة القارة الهندية فقط؟!، و لاسيما أن هناك فقهاء مرموقين ومراجع تقليد هنود وباكستانيين يقيمون في الهند وباكستان وقم والنجف. لكن وعيهم بعنوان المرجعية يجعلهم لا يقيمون وزناً للتمايز القومي والوطني، ولذلك تجد أن 80 بالمائة منهم يرجعون في التقليد الى السيد السيستاني في النجف والسيد الخامنئي في طهران.

    و إذا كان مبنى هذا الخطاب أن يكون المرجع عراقياً إلزاماً؛ فهل سيتم إضافة شرط القومية والجنسية الى شروط المرجعية الأخرى؛ كالإجتهاد والعدالة والكفاءة؟ ويكون التقليد حينها للمرجع العربي العراقي وليس للمرجع الأعلم؟ و ماهو تكليف باقي شيعة العالم؟ و هل سيكون لكل بلد مرجعاً دينياً؟. هذه الأسئلة الواقعية وغيرها تؤكد أن الأمور الدينية العلمية لاتؤخذ بالعواطف والنزعات الذاتية.

    إن المرجعية المناطقية التي يحاول مروجوها تمرير مصطلح المرجعية العراقية والمرجعية العربية والمرجعية الهندية والمرجعية الإيرانية والمرجعية اللبنانية؛ ليس لها أي أصل ديني تشريعي، وليس لها سابقة في تاريخ المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية؛ لأن هذه المنظومة تشكل نسيجاً مذهبياً وعلمياً واجتماعياً ومالياً واحداً، وأن المرجع الديني الأعلى هو مرجع غالبية شيعة العالم، من أستراليا واندونيسيا والصين وتايلند والهند وباكستان وأفغانستان وروسيا، مروراً بآذربيحان وإيران وتركيا وسوريا ولبنان والكويت والسعودية والبحرين وعمان ومصر، وصولاً الى نيجيريا والمغرب والجزائر و أوربا و أمريكا. و في أغلب هذه البلدان يمتلك الشيعة مؤسسات دينية وعلماء دين، ومن حق المجتهدين ذوي الخبرة منهم أن يكون لهم دور في فرز مراجع التقليد و المرجع الأعلى.
 
   في العراق ـــ مثلاً ــــ يتحدث بعضهم عن ضرورة عرقنة المرجعية وقومنتها، و وجوب أن يكون المرجع الأعلى عراقياً عربياً؛ وإن كان هذا المرجع لايقلده حتى شيعي واحد خارج العراق. و يتهم آخرون السيد الشهيد محمد الصدر بأنه كان يدعو الى مرجعية عراقية أو عربية، وهو تقوّل غير صحيح، و الدليل أنه أوصى قبل استشهاده بالرجوع الى مرجعين غير عراقيين، هما الشيخ الفياض (الأفغانستاني) في النجف، و السيد الحائري (الإيراني) في قم، واللذين كان السيد الشهيد محمد الصدر يعتقد بأعلميتهما من بعده. كما ينقل بعض ملازميه أنه قال: لو بلغ أحد تلاميذي مرحلة الإجتهاد؛ لكان هو الأعلم، ولم يقل لأن تلميذي هذا عربي و عراقي الجنسية؛ أي أنه استند الى شرطي الأعلمية والعدالة، وليس الى شرطي القومية و الجنسية، وهو دليل وعيه العميق بمفهوم المرجعية.

ويسيء الخطاب العنصري والمناطقي إساءة شديدة لمركزية النجف؛ بوصفها العاصمة الدينية التقليدية لكل شيعة العالم، وليس لشيعة العراق وحسب، وأن مرجعها هو مرجع شيعة العالم، وليس شيعة العراق وحسب. وبالتالي؛ فإن المطالبة بعرقنة المرجعية وقومنتها سيؤدي الى ضرب النجف في صميم عالميته وزعامته العابرة للحدود والقوميات؛ لأنه سيُفقد النجف مركزيته في المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية، ويقزِّمها ويحولها الى مؤسسة دينية محلية، كما سيقود الى تأسيس مركزية ومرجعية في كل بلد؛ الأمر الذي يقوِّض أسس المنظومة الشيعية الدينية الإجتماعية التي وضعها أئمة آل البيت، وبنيت بجهود و أقلام وعقول ودماء مئات آلاف المراجع و الفقهاء والمحدثين و المحققين والباحثين والشهداء، طيلة 1200 عام.

    و سيؤدي هذا الخطاب أيضاً الى أن يكون للشيعة أكثر من (100) مرجع أعلى؛ على عدد الدول التي يتواجد فيها الشيعة؛ بل على عدد القوميات؛ إذ سيكون لشيعة العراق مرجع عربي ومرجع كردي ومرجع ايراني ومرجع شبكي ومرجع فيلي ومرجع تركماني. وحينها سيظهر مفهوم جديد أكثر خطورة، هو مفهوم التشيع العراقي والتشيع الباكستاني والتشيع إيراني والتشيع اللبناني والتشيع البحراني. وهو الخطاب الذي تعمل قوى طائفية وعنصرية واستعمارية إقليمية و دولية على الترويج له بكل الوسائل؛ بهدف تمزيق النسيج الديني الإجتماعي الشيعي.

    إن من أهم القواعد الوجودية للمنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية التي تقف المرجعية على رأسها، هو وحدتها وعالميتها واستحالة تجزأتها، و إذا ما انهارت هذه القاعدة؛ فإن المنظومة الشيعية ستنهار برمتها؛ لأن عالمية الإسلام وعالمية مذهب آل البيت يقتضي عالمية المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية. أما خطاب الإنتماءات القومية والمناطقية فهو يدل على أن أصحابه ومروجيه غافلون عن حقيقة التشيع ومنظومته، ومساحة قيادته المرجعية، أو أنهم مدفوعون بأجندة خارجية؛ لأن الخطاب العنصري والمناطقي يستهدف نقظة القوة الأساسية للمنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية، والمتمثله بنسيجها المتراص العابر للحدود و الأوطان والقوميات. وبالتالي؛ فإن من يقلد مرجعاً دينياً على أساس جنسيته وقوميته، فعليه أن يراجع انتماءه لمذهب آل البيت.

    وينظرة سريعة الى المسار التاريخي لتأسيس المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية في عصر الغيبة الصغرى؛ سنجد أن ثلاثة من السفراء الأربعة للإمام المهدي كانوا عرباً عراقيين، و واحداً فارسياً إيرانياً هو الشيخ النوبختي، وأن إثنين من الزعماء الأربعة المشاركين في التأسيس (السيد المرتضى و الشيخ المفيد) كانا عربيين عراقيين، والإثنين الآخرين (الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي) كانا فارسيين إيرانيين؛ أي أن الثمانية المؤسسين لهذه المنظومة؛ كانوا خمسة عراقيين وثلاثة إيرانيين، وأن حاضرة النجف العلمية أسسها فارسي ايراني مشهدي، هو الشيخ الطوسي، المعروف بشيخ الطائفة، و أن مرجعية قم أسسها عربي عراقي كوفي، هو الشيخ محمد بن عيسى الأشعري، المعروف بشيخ القميين، ثم كان زعماء الشيعة في العالم عرباً عراقيين يقيمون في مدينة الحلة، كابن ادريس والحلي والمحقق، كما كان (الشهيد الأول) العاملي اللبناني المقيم في جنوب لبنان هو زعيم شيعة العالم، ثم في مرحلة لاحقة ثنبت وسادة الزعامة والمرجعية للوحيد البهبهاني والمقدس الأردبيلي والأنصاري، وهم فرس إيرانيون يقيمون في النجف.

    و كان أغلب مراجع الدولة الصفوية الإيرانية، بمن فيهم من شغل منصب شيخ الإسلام الرسمي، من العرب العراقيين واللبنانيين والبحرانيين، و كان الشيخ جعفر كاشف الغطاء بمثابة الولي الفقيه في عهد الدولة القاجارية الإيرانية. و وصولاً الى العصر الحاضر؛ إذ كان السيد عبد الله البهبهاني الغريفي، البحراني أصلاً و النجفي مولداً ، هو قائد ثورة المشروطة الإيرانية، وكان يلقّب بــ (الشاه الأسود) لأنه حكم إيران أكثر من سنة (خلال العامين 1908 و1909)، ولأن سحنته البحرانية العراقية كانت سمراء غامقة. و في مرحلة لاحقة تبوّء السيد حسين البروجردي، الإيراني المقيم في قم مقام مرجع الشيعة الأعلى، ورجع إليه أغلب العراقيين بالتقليد، وأعقبه السيد محسن الحكيم، العراقي النجفي، في موقع مرجعية الطائفة؛ فرجع أغلب الايرانيين اليه بالتقليد؛ بل كانت له دالة على الدولة الايرانية.

و إذا كانت ظروف المواصلات والإتصالات، و تبادل الرسائل والفتاوى والتأليفات والتوجيهات الدينية والسياسية والأموال الشرعية، غاية في الصعوبة في السابق؛ أي منذ نشأة المنظومة الشيعية الدينية الإجتماعية و حتى بدايات القرن العشرين الحالي؛ فإن ذلك لم يمنع أن يكون الشيخ الصدوق الساكن في قم هو مرجع شيعة العالم، ثم الشيخ المفيد الساكن في بغداد هو زعيم الشيعة، كما كان الشيخ الطوسي المقيم في النجف هو شيخ الطائفة المطلق، وكان الشيخ العاملي الساكن في جنوب لبنان يقود شيعة العالم، وصولاً الى السيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء والشيخ مرتضى الأنصاري الساكنين في النجف، ثم الميرزا الشيرازي الساكن في سامراء، والشيخ محمد تقي الشيرازي الساكن في كربلاء. كان هؤلاء يقودون شيعة العالم دون تبعيض؛ في ظل الصعوبة البالغة لوسائل الإتصالات والمواصلات والإعلام؛ فكيف الأن و قد أصبح العالم قرية واحدة؛ بل بيتاً واحداً؟!.

    ولعل بعض من يتنبى الخطاب المناطقي؛ يتذرع بوجود مسطرة عنصرية يمسك بها من يرشح مرجعيات النجف وقم. لكن هذه الذريعة لا تملك حظاً من الواقعية؛ لأن للحوزة معاييرها العلمية والدينية وسياقاتها الخاصة خارج التأثيرات القومية والمناطقية و الحكومية، والتي تتسبب في بقاء مئات المجتهدين الايرانيين والعراقيين في قم والنجف، خارج التصنيف المرجعي أو خارج المنافسة على موقع المرجعية العليا؛ ليس بسبب جنسيتهم أو قوميتهم؛ بل لأن معايير الرأي العام الحوزوي هي الحاكمة، وليس الترجيحات القومية والمناطقية لهذا اللوبي وذاك، أو هذا الحزب وتلك الجماعة.

    ولعل من الخطوات المهمة التي ينبغي أن تتخذها جماعات أهل الخبرة في قم والنجف؛ لسد ذرائع الخطاب المناطقي، هو الإنفتاح على مرجعيات الحوزتين؛ فلا تقتصر جماعة مدرسي الحوزة في قم على ترشيح فقهاء قم للمرجعية، وتنفتح على فقهاء النجف، كما فعلت حيال السيد السيستاني؛ حين طرحت مرجعيته الى جانب مراجع قم؛ بل تنفتح أيضاً على المراجع العراقيين والعرب والباكستانيين والأفغانستانيين. وفي المقابل لا يقتصر أهل الخبرة في النجف على الترويج لمراجع النجف فقط، ويغفلون مراجع  قم الكبار وغيرهم. فلطالما أن شروط المرجعية هي الأعلمية والعدالة والكفاءة؛ فلا بد من شمول جميع الفقهاء بعملية الغربلة والترشيح والترجيح.    

    و لا تزال أغلبية شيعة العالم ـــ منذ تأسيس المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية قبل حوالي 1200 سنة ــــ تعي بعمق معنى المرجعية الدينية و عالميتها؛ برغم كل المحاولات الحثيثة لقومنة المرجعية و منطقتها، و التي ظهرت خلال القرن العشرين الماضي، و تكرست بقوة بعد العام 1980، ثم بعد العام 2003، بدعم مالي وتخطيطي ودعائي ومخابراتي هائل من حكومات البعث والسعودية وإسرائيل وبريطانيا وأمريكا؛ بهدف تمزيق نسيج المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية وضرب أهم دعائم قوتها و سر ديمومتها وصعودها الجديد. و لعل توجهات شيعة العالم في مجال التقليد؛ دليلٌ واقعي ميداني على إمتناع تحقق ذلك الهدف؛ فالإحصاءات التقريبية تشير الى أن 80 بالمائة من شيعة العالم يقلدون السيد السيستاني و السيد الخامنئي، وهما سيدان حسينيان عربيان، أحدهما يمثل حوزة النجف ويقيم فيها، والآخر يمثل حوزة قم ويقيم في طهران؛ دون أن يلتفت أي شيعي الى جنسيتهما وقوميتهما؛ ما يدل على عدم وجود توجه شعبي لقومنة المرجعية ومنطقتها؛ كما تزعم أقلية مدفوعة بعواطفها و نزعتها القومية من أنصار بعض المراجع العراقيين والإيرانيين واللبنانيين.

     و إذا أخذنا العراق مثالاً؛ سنجد أن حوالي 70 بالمائة من شيعته يرجعون بالتقليد الى السيد السيستاني، و10 بالمائة الى السيد الخامنئي، و5 بالمائة الى السيد كاظم الحائري والسيد صادق الشيرازي والسيد محمد تقي المدرسي وغيرهم من المراجع الذين يحملون الجنسية الإيرانية، و5 بالمئة يقلدون الشيخ بشير النجفي و الشيخ اسحق الفياض والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم من المراجع الذين يحملون جنسيات أخرى. أما المراجع العراقيين، وفي مقدمهم السيد محمد سعيد الحكيم، إضافة الى السيد علاء الدين الغريفي و الشيخ محمد اليعقوبي والسيد كمال الحيدري وغيرهم، فيبلغ مقلدوهم 10 بالمائة من شيعة العراق. و هو مايعني أن 90 بالمائة من شيعة العراق يقلدون مراجع غير عراقيين.

    ولكن في حال رحيل السيد السيستاني وتبوء السيد محمد سعيد الحكيم مقام المرجعية العليا؛ فإن هذه النسية ستتغير، وستكون أكثرية شيعة العراق تقلد مرجعاً عراقياً، ولكن ليس من منطلق كونه عراقي؛ بل لأن المعايير الحوزوية التقليدية ستفرزه، وهي المعايير التي يؤمن بها غالبية العراقيين، وليس بينها معيار الجنسية والقومية.

أخر الأخبار