• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

قدسية الدين ومهنية الزي الديني

قدسية الدين ومهنية الزي الديني

  • 28-04-2020, 12:14
  • مقالات
  • 833 مشاهدة
د. علي المؤمن

   هناك خلط متراكم في المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بموضوعات الدين، و التفقه فيه، ومرجعيته، مثل: الدين، الشريعة، العلم الديني، عالم الدين، الحاكم الشرعي، الفقيه، المفتي، المرجع الديني، ولي الأمر وغيرها. و منطلقات الخلط هو الجهل حيناً أو اللبس حيناً أخر أو التعمد حيناً ثالثاً.

   و كمدخل للموضوع؛ ينبغي توضيح المراد من بعض هذه المصطلحات والمفاهيم؛ لرفع اللبس وتوجيه الحديث نحو مقاصده المعرفية في فرز المقدس عن اللامقدس، والثابت عن المتغير، والملزِم عن غير الملزم؛ لأن خطورة الخلط لا تكمن في الجدل النظري في المفردات وحسب؛ بل في مخرجاته العملية أيضاً، والتي تقود الى تقديس اللامقدس وتصنيم المتغير والدعوة الى الالتزام بغير الملزِم.  

  

 باختصار شديد: "الدين" هو المصادر المقدسة أو الأصول الإلهية الثابتة، والمتمثلة في القرآن الكريم والصحيح من سنة رسول الله وآل بيته. أي أن أحكام الدين وقواعده العقدية والتشريعية القطعية اليقينية؛ هي الدين وخطابه حصراً. وهذه المصادر والأصول هو الثابت والمقدس، وقدسيتها تعني أنها ملزِمة للمسلم نظرياً وعملياً.

 

   أما "علوم الدين" فهي أدوات معرفية للوصول الى قراءة للدين و الكشف عن خطابه العقدي و تكليفه العملي. ومخرجات هذا الفهم ليست مقدسة، و إلزامها ليس مطلقاً؛ إلّا بمقدار ما تحتويه من أصول تشريعية. و ما عدا هذه الأصول هي مخرجات تعبر عن فهم بشري؛ كونها أحكاماً ظنية لا نص فيها، وتعتمد على الإجتهاد، وتستند الى مدارك ليست قطعية الصدور أو ليست قطعية الدلالة. وبالتالي؛ فالعلم الديني أو العلم الشرعي هو كأي علم آخر في مخرجاته. و لكن هناك قدسية نسبية أو مكتسبة تتعلق بالإلزام؛ كإلزام فتوى الفقيه بالنسبة لمن يقلده، و إلزام الحكم الثانوي والحكم الولائي للحاكم الشرعي لمن يخضع له زماناً ومكاناً.  

   و "عالم الدين" هو المتخصص في العلم الديني أو معارف الدين. و مقتضى التخصص أن لا يُطلق مصطلح عالم الدين على كل من يرتدي الزي الديني، أو من حاز قسطاً من العلم الديني؛ بل ينبغي أن يطلق ــ حصراً ــ على الفقيه المتكلم المحدِّث، أي الذي يجمع بين الإجتهاد في الفقه والتخصص في علم العقيدة والإجازة الروائية؛ لأن مفهوم العالِم مفهوم مركب وعميق في دلالاته الإصطلاحية.

 

 و "التفقه" في الدين و رواية الحديث وطلب العلم الديني ليس مهنة بالأساس؛ بل هو واجب كفائي على المسلمين؛ لأن المهنة هدفها التكسّب وطلب الرزق، وهذا الهدف غير منظور في مهمة التفقّه و طلب العلم. كما لا يوجد في الإسلام رجال دين و لا كهنوت ولا "إكليروس" و لا حراس معبد؛ بل يؤكد الإسلام ـــ كما جاء في النصوص القرآنية والحديثية ـــ على أن المتخصصين في علومه هم فقهاء و علماء ومجتهدون و محدِّثون. و حتى لو كان تطور الحياة ومتطلبات العصر وتوسع العلوم الدينية و ثقل اختصاصات عالم الدين الموزعة بين الدراسة والتدريس والتبليغ والخطابة والإقتاء والتأليف والتحقيق ورعاية النظام العام؛ قد فرضت بمجموعها تحوّل طلب العلم والتفقّه في الدين الى سلك مهني بحاجة الى تفرغ كامل، لكنها لا تحوِّل طالب العلم وعالم الدين الى كاهن أو رجل دين؛ بل يبقى عنوانه طالباً أو أستاذاً أو عالماً أو فقيهاً أو مجتهداً.

   والفرق بين عالم الدين الإسلامي والعالم في العلوم الوضعية، بكل فروعها، هو أن عالم الدين يجمع بين التخصص العلمي والعمل الديني، ومايترتب على العمل الديني من مهام تبليغية، وتحكيمية وحسبية، ومرجعية اجتماعية وسياسية. بينما عالم القانون أو عالم الإجتماع أو عالم الفيزياء؛ متخصص لا أكثر، ولايترتب على مهنته وظائف اجتماعية وعامة أخرى.

أما الفرق بين عالم الدين الإسلامي و الكهنة والرهبان والقساوسة في الأديان الأخرى؛ فهو في المهام أيضاً؛ إذ تقتصر مهمة رجل الدين المسيحي أو اليهودي أو البوذي أو الهندوسي على الجانب الديني المحض. بينما تجمع مهمة عالم الدين الإسلامي بين الجانبين الديني والدنيوي. و هذا الجمع يختص به العلماء الشيعة دون السنة أيضاً؛ لأن علماء الدين السنة هم ـــ عادة ـــ موظفون في الدولة، ويعيشون على رواتبهم الوظيفية، وأن كبيرهم هو مفتي الدولة أو شيخ الإسلام التابع لرئيس الدولة. فضلاً عن أن المنظومة الدينية السنية هي جزء لا يتجزء من النظام السياسي للدولة؛ سواء كان النظام إسلامياً أو علمانياً. على عكس علماء الشيعة، المستقلون بمنظومتهم الدينية الإجتماعية ومواردهم المالية وإدارة حوزاتهم. بل حتى لو كانت الدولة إسلامية ونظامها ديني ويرأسها فقيه ومرجع ديني، كما هو الحال مع ايران بعد العام 1979؛ فإن المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية بقيت محتفظة باستقلاليتها الإدارية والمالية والعلمية.

 

   كما يمارس علماء الدين الشيعة واجبات الحسبة و رعاية النظام العام للمجتمع أو الدولة؛ انطلاقاً من مهامهم الدينية الأصلية، وليس بصفتهم الشخصية. أما رجال الأديان الأخرى أو العلماء السنة الذين يمارسون عملاً عاماً أو سياسياً؛ فإنما هي ممارسة شخصية مدنية لا علاقة لها بمهامهم الدينية الأصلية. وهذا هو الفرق البنيوي الأساس بين المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية والمنظومات الدينية الأخرى في جميع الأديان والمذاهب.

 

  و حيال هذا الفرق البنيوي؛ يكمن خطأ دعاة العلمانية المحليين، حين يطالبون بعدم تدخل الدين في الشأن العام، وعدم تدخل عالم الدين في قضايا السياسة والدولة. إذ يقيس العلمانيون المنظومة الدينية الأجتماعية الشيعية وفقهاءها بباقي المنظومات الدينية والمذهبية الأخرى ورجالها؛ فيقعون في أخطاء معرفية فادحة؛ بسبب عدم معرفتهم بخصوصية عمل الفقية الشيعي و مهام المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية، ويتخيلون أن بالإمكان أن تتحول هذه المنظومة الى منظومة شبيهه بالفاتيكان أو مشيخة الإسلام أو دار الإفتاء، وأن يكون الفقيه الشيعي كأي عالم دين سني أو قس مسيحي أو كاهن بوذي.        

 

   و حيال دعوات العلمانيين الى أن يكتفي عالم الدين بالعمل داخل المسجد فقط؛ لأنه مكانه الطبيعي الوحيد؛ أسوة بالقس الذي يحصر عمله في الكنيسة؛ فهناك دعوات مضادة تقابلها، تضع كل من يرتدي الزي الديني الشيعي في مقام وهمي غير مقامه الحقيقي. وهنا يقع الواقع الشيعي بين الإفراط والتفريط في موضوع صلاحيات عالم الدين. لذلك ينبغي التأكيد على أن المعني بصلاحيات الحاكم الشرعي و الولي على الفتوى والقضاء و رعاية الشأن العام؛ إنما هو المجتهد العادل الكفء حصراً، وليس كل علماء الدين أو كل من ارتدى العمامة والصاية و الجبة. وقد خلق التفريط و الإفراط المضاد رؤى وهمية متعصبة بعيدة عن الأصول الشرعية؛ كرّستها الظروف الاجتماعية التراكمية القاسية التي عاشها الشيعة قرون طويلة، وفي مقدّمها وهم قدسية الزي الديني وقدسية من يرتديه، وأن كل من يرتديه هو ــ بالضروة ــ مشروع زعيم ديني وقائد اجتماعي، وأنه الوحيد المخول بممارسة العمل التبليغي والتربوي الديني، و أن الزي الديني مدعاة للتمايز الديني و الاجتماعي.

 

   و الحال أن الزي الديني لايخلق عالماً دينياً، ولا يخلق إنساناً عادلاً ومتقياً وزاهداً ومستقيماً و واعياً؛ فهناك منحرفون فكراً وسلوكاً يرتدون الزي الديني؛ بل يدّعي بعضهم الإجتهاد والمرجعية. وليس الزي الديني أكثر من زي اختصاص؛ كأي اختصاص آخر، وهو ما يفرض احترام هذا الإختصاص من قبل غير المتخصص، فكما يجب احترام اختصاص الطبيب والمهندس و عالم الإقتصاد، والإستماع الى توجيهاتهم و الإلتزام بها في حدود اختصاصهم، فإن الزي الديني كذلك؛ يفرض احترام تخصص من يرتديه، والالتزام بتوجيهاته في حدود اختصاصه.

     و كما أن من يرتدي الزي الديني ليس بالضرورة أن يكون عالم دين؛ فليس بالضرورة أيضاً أن يكون كل عالم دين عادلاً ومتقياً وكفئاً؛ بل يمكن لأي غير متدين وأي علماني وأي غير مسلم أن يكون مجتهداً و عالماً متخصصاً في الدين الإسلامي، أي يمتلك القدرة على استنباط الحكم الشرعي من مصادره. وهناك مجتهدون ظلوا يرتدون الكوفية أو البدلة الحديثة؛ لأن الاجتهاد مرتبة علمية وليس مرتبة دينية، مثلها مثل درجة الدكتوراه والأستاذية. لكن مرتبة الإجتهاد تتحول الى رتبة دينية تؤهل حاملها لممارسة القيادة الإجتماعية الدينية؛ إذا توافرت فيه الشروط والمعايير المتعارفة، كالعدالة والتقوى وطهارة المولد والذكورة و الإيمان (بمعناه الخاص، أي التشيع) وغيرها.

و مهما بلغ الفقيه من العلمية والتقوى والكفاءة؛ فإنه لا يكون وكيلاً عن الله و ممثلاً للدين ومعصوماً، أو يكون خطابه و سلوكه هو الدين ذاته؛ بل أنه يمثل امتداداً موضوعياً لمنصب إمامة المعصوم، و أنه معين تعييناً نوعياً من الإمام، و لا يمتلك أية صلاحيات إلّا التي حددها المعصوم، كما في حديث التحكيم وحديث التقليد وحديث الرجوع وحديث ورثة الأنبياء، وهو ما يجعله على المستوى الشخصي ليس مقدساً.

    ولذلك؛ إذا أخطأ عالم الدين أو أخطأت مجموعة من علماء الدين؛ فإنما هي أخطاء بشرية، وليس خطأ الدين أو خطأ المنظومة الدينية. وفي هذا المجال يلعب نوعان من الناس تزييفاً خطيراً، الأول: معمم؛ يوحي للناس بأنه يمثل الدين وأن كلامه هو كلام الدين؛ من أجل أن يدلس عليهم ويبتزهم. و الثاني: خصم للدين؛ يوحي بأن المعمم يمثل الدين، و أن ما يفعله هو تعبير عن فعل ديني؛ ليحقق الخصم من خلال ذلك هدف تشويه قدسية الدين والتمهيد لإسقاط المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية.

 

  وينعكس هذا الأمر على موضوع الطاعة لعالم الدين، وهي طاعة نسبية خاصة بالفقيه العادل الجامع لشرائط التقليد، وبالمرجع الأعلى المتصدي، و بالولي الفقيه الحاكم، وهم من تجب طاعتهم في حدود مساحة ولايتهم وصلاحياتهم.

  

   النتيجة؛ أن الزي الديني وطلب العلم وبلوغ درجة الاجتهاد لا تمنح بمجموعها القدسية لصاحبها، و لا التميز الديني والاجتماعي و لا المرجعية الدينية و لا الطاعة؛ بل أن القدسية هي للدين أولاً، ثم للفتوى والحكم الشرعي وفق شروطهما الموضوعية تانياً. كما لا يمثل الدين أي مخلوق غير المصادر والأصول التشريعية المقدسة، وأن تمثيل مرجع الدين للدين وللشريعة إنما هو تمثيل نسبي، ينحصر في الكشف عن موقف المكلف تجاه الدين، و أن العدالة والتقوى والكفاءة هي شروط أساسية لكي يكون المجتهد مرجعاً دينياً، وإن شرط التصدي يضاف الى الشروط الآنفة؛ لكي تمنح من يتمتع بها صلاحيات الولاية على الشأن العام، وهي التي تفرض على المؤمنين طاعته بقوة الفتوى والحكم الشرعي، أو بقوة القانون في حالة الولي الفقيه الحاكم.

أخر الأخبار