• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

انتخابات العراق .. فقر الأفكار والبرامج 2

انتخابات العراق .. فقر الأفكار والبرامج 2

  • أمس, 21:56
  • مقالات
  • 31 مشاهدة
إبراهيم العبادي

"Today News": متابعة 

على قناته في منصة تلغرام، كتب المفكر السياسي الإيراني محمود سريع القلم مقالة مهمة بعنوان «لماذا لا نستطيع أن نكون دوليين؟» أثارت اهتماماً واسعاً، لأنها تلامس جوهر المعضلة التنموية والسياسية في مجتمعاتنا. فالرجل، بخلاف كثير من الباحثين الذين يردّون أسباب التردي الاقتصادي والفساد والمشكلات السياسية والأمنية إلى ضعف الديمقراطية أو التدخلات الخارجية، يرى أن الاقتصاد الريعي وهيمنة الدولة على النشاط الاقتصادي هما أصل الداء ومصدر الأزمات الممتدة في العالمين العربي والإيراني على السواء. سريع القلم لا يطلق أفكاره من برج أكاديمي معزول، بل يسعى منذ سنوات إلى توسيع نطاق تأثير نظريته حول التنمية السياسية والاقتصادية، وإلى بلورة فكر إصلاحي يعزّز قدرة بلاده على مواجهة التحديات بعد حرب الاثني عشر يوماً الأخيرة. ويجادل بأن الفشل الاقتصادي وضعف التنمية الشاملة هما السبب الأكبر لعدم الاستقرار والعزلة الدولية وتراجع النفوذ الإقليمي، بل هما المحرك العميق للاحتجاجات والسخط الشعبي. في مقاله الذي يحلل فيه عجز بلاده (إيران) عن التحول إلى قوة ذات حضور دولي مؤثر في عالم التجارة والمال والعلاقات الدولية، رغم وفرة الموارد والموقع الجيوسياسي المميز، يستعرض سريع القلم تجارب عالمية ناجحة وأخرى فاشلة، ليخلص إلى نتيجة حاسمة مفادها أن الديمقراطية وحدها لا تكفي لتحقيق التنمية والاستقرار ما لم يتحرر الاقتصاد من قبضة الدولة وعلاقات السلطة. حتى لو جاءت السلطة بانتخابات حرة وشرعية دستورية، فإن بنية الاقتصاد الريعي تظل مفسدة للعقل السياسي والاجتماعي، إذ يتحول التنافس من خدمة الصالح العام إلى سباق على السلطة باعتبارها بوابة الثروة، ما ينتج عنه فساد واحتكار وتخلف تكنولوجي وجمود فكري، لأن الفكر لا يزدهر إلا في بيئة تنافسية تدفع إلى الإبداع والتجديد ومواكبة النمو العالمي. وفي مقارنته بين العراق ومصر وغيرهما، يكتب سريع القلم: “في العراق ومصر، رغم وجود دساتير وقطاع خاص، يبقى الاقتصاد تابعاً للدولة، أي رأسمالية طفيلية”، لينتهي إلى أن المجتمعات الشرقية – سواء في إيران أو في العالم العربي – تعيش حيرة نظرية مزمنة: هل تكمن المشكلة في الدولة أم في المجتمع؟ في الثقافة أم في القوانين؟ ويخلص إلى أن الطريق إلى العالمية يمر عبر اقتصاد خاص شفاف ومنفتح وكفوء، فحينها فقط تتغير الثقافة وتستقر السياسة وتتصالح الوطنية مع العقلانية. بموازاة ما كتبه سريع القلم، كتب دبلوماسي عراقي مرموق ملاحظة بالغة الدلالة: “عندما نتابع الحوارات السياسية العراقية في المنتديات والصالونات الفكرية أو حتى في مراكز البحوث، نخرج بانطباع مؤسف: هناك شح واضح في إنتاج الفكر السياسي. ففضاءات الحرية التي انفتحت بعد عام 2003 لم تنتج جيلاً من المفكرين السياسيين القادرين على رسم حلول واقعية أو تقديم رؤى استشرافية لمستقبل الدولة”. وبالفعل، من دون مفكرين سياسيين تبقى الديمقراطية شكلاً بلا مضمون، وتتحول الدولة إلى جسد بلا عقل ولا ضمير، وإلى مؤسسات بلا فكر، فيما يبقى السياسي أسير اللحظة، والكيانات السياسية بلا بوصلة أو مشروع وطني. وفي الانتقال إلى اللحظة الانتخابية الراهنة في العراق، حيث يحتدم التنافس على أصوات الناخبين، تبرز ملاحظة أساسية: هناك وفرة دعائية تفوق الحاجة إلى الإقناع، لكن لا نجد خطابات انتخابية تقدم حلولاً واقعية لمشكلات الدولة والمجتمع. فأين البرامج التي تعالج أزمات الاقتصاد والتعليم والثقافة؟ وأين الرؤى التي تستشرف مستقبل الأجيال الجديدة التي تفتقد البوصلة؟ العراق اليوم يعاني من نمو سكاني متسارع يقابله نظام تعليمي نمطي لا ينسجم مع حاجات سوق العمل، ومن بطالة شبابية واسعة في ظل غياب التدريب والتأهيل. اقتصادنا ما زال بدائياً في بنيته، وثقافتنا الاجتماعية ما زالت تميل إلى التوجه الاشتراكي الزبائني الذي يجعل الدولة مسؤولة عن التوظيف، والسياسي يعد المواطنين برواتب حكومية بلا إنتاجية حقيقية. وهكذا تتكرس علاقة زبائنية مدمّرة بين المواطن والسياسي: الأول ينتظر التعيين، والثاني يشتري الولاء. في ظل هذه المعادلة، تتحول الانتخابات إلى مهرجان وعود غير قابلة للتحقق، وإلى منافسة على الغرائز الطائفية والمشاعر المكبوتة، بدل أن تكون ساحة للتفكير بمستقبل الدولة ومصير الأمة. أما الدولة ومساراتها الكبرى، فتُترك للحلقات الضيقة وللأوليغارشية الجديدة لتفكر بها نيابة عن الأمة، بينما تُختزل وظيفة الأمة في التفويض الانتخابي فحسب. هكذا، يبدو أن فقر الأفكار والبرامج هو التحدي الأخطر الذي يواجه التجربة الديمقراطية في العراق اليوم، تماماً كما حذر سريع القلم في حديثه عن بلاده: إن لم نحرر الاقتصاد من الدولة، ونحرر السياسة من الزبائنية، ونحرر الفكر من الجمود، فسنظل ندور في الحلقة نفسها — ديمقراطية بلا تنمية، وانتخابات بلا معنى، ودولة بلا عقلٍ يقودها.

أخر الأخبار