• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

إنتخابات العراق بين صناديق الاقتراع والمال السياسي

إنتخابات العراق بين صناديق الاقتراع والمال السياسي

  • اليوم, 12:19
  • مقالات
  • 12 مشاهدة
إبراهيم العبادي

"Today News": بغداد 

يشهد العراق واحدة من أضخم حملاته الانتخابية وأكثرها كلفة لاختيار أعضاء الدورة البرلمانية الجديدة، إذ يتنافس أكثر من ثمانية آلاف مرشح ومرشحة على أصوات الناخبين الذين سيدلون بآرائهم في الحادي عشر من تشرين الثاني المقبل.
وما يميز هذه الانتخابات، التي تختلف نسبيًا عن سابقاتها، هو شدة التنافس على الشريحة ذاتها من الناخبين الذين اعتادوا المشاركة، دون وجود جهد جاد لاجتذاب الأصوات الجديدة، سواء من أولئك الذين قاطعوا الانتخابات السابقة احتجاجًا أو من المترددين والعازفين عنها.

لقد كانت نسب المشاركة في آخر دورتين انتخابيتين منخفضة إلى حدٍّ مثير للجدل؛ فبينما تشير تقديرات بعض المراقبين إلى أنها لم تتجاوز 20%، تؤكد الأرقام الرسمية الصادرة عن المفوضية أن نسبة المشاركة بلغت نحو 42% فقط من الذين يحق لهم التصويت. وهذا يعني أن قرابة ثلثي الكتلة الناخبة فضّلوا العزوف، إمّا يأسًا من جدوى المشاركة، أو لضعف الثقة بالعملية السياسية، أو استياءً من الأداء العام.

هذه الكتلة الكبيرة من المقاطعين كان ينبغي أن تكون محور اهتمام القوى السياسية والمرشحين، بوصفها المخزون الانتخابي الحقيقي القادر على إحداث التغيير في مخرجات العملية السياسية. لكن الخطاب الانتخابي السائد ظل أسير الأساليب التقليدية، دون أن يقدّم مضمونًا جديدًا أو برامج واقعية تمسّ قضايا المواطن الجوهرية: الخدمات، الاقتصاد، الأمن، والمستقبل.

بدل ذلك، لجأت معظم القوى إلى شعارات عامة تلامس الجانب النفسي لدى العراقيين، مثل “عراق قوي”، “القوة والازدهار”، “القرار الأقوى”، و”الهوية والقضية”، وهي عناوين تحاول استعادة صورة الدولة القوية التي افتقدها الناس منذ زمن. غير أن السؤال الجوهري ظل بلا جواب: كيف تتحقق هذه القوة؟
الجواب الضمني لدى معظم المرشحين هو “انتخبونا لنكون نحن القوة التي تنتظرونها”، غير أن هذه “القوة” تبقى ناقصة ما دامت رهينة النزعة السلطوية والزعامات الفردية التي ترى في نفسها محور السياسة ومصدر القرار.

إن معظم القوى السياسية لم تستطع التحرر من هيمنة “الكارزما الزعاماتية” التي تجعل من المرشحين مجرّد توابع رمزية، كما يظهر في الصور الانتخابية التي تجمع الوجوه الجديدة إلى جانب الزعماء، في رسالة تقول للناخب: “أنت تختار الزعيم، ونحن رقم يرافقه”. هذا التماثل المفرط في الخطاب والصورة جعل المنافسة الانتخابية تدور في حلقة ضيقة لا تتسع للأفكار الجديدة أو البرامج التنموية الجادة.

في المقابل، برزت ظاهرة مقلقة تمثلت في التضخم غير المسبوق في المال السياسي، إذ تُقدّر الكلفة الإجمالية للحملات الانتخابية بنحو تريليوني دينار عراقي، وهو رقم يثير القلق بشأن تحوّل الانتخابات إلى حلبة مالية أو بورصة نفوذ يتنافس فيها الطامحون إلى السلطة عبر الإنفاق المفرط وشراء الأصوات والذمم.
هذا المال السياسي، الذي يتدفق من مصادر داخلية وخارجية، يهدد بتحويل التمثيل النيابي إلى أداة لحماية المصالح المالية والاقتصادية لا لتحقيق الإرادة الشعبية. كما أن دخول رجال الأعمال ونجوم الطبقة الثرية الجديدة إلى ميدان المنافسة السياسية مباشرة – وليس عبر دعم الأحزاب من وراء الكواليس كما في الديمقراطيات المستقرة – يعكس تزاوجًا خطيرًا بين رأس المال والسلطة، قد يفتح الباب أمام إقطاعيات مالية – سياسية تتحكم بمسار الدولة واقتصادها.

ورغم أن انفتاح الاقتصاد العراقي واستقطاب رأس المال المحلي والأجنبي أمرٌ مطلوب لتجاوز الريعية وتحريك التنمية، فإن غياب نظام ضريبي فعّال، واستفادة الرأسماليين الجدد من قربهم من القوى السياسية، يُنذر باتساع الفجوة الطبقية، وهيمنة “تحالف مالي – سياسي – سلطوي” قد يعمّق أزمات الثقة والعدالة الاجتماعية.

إن التجربة العراقية بحاجة اليوم إلى توازن دقيق بين الحرية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، بين تشجيع الاستثمار وحماية الفئات الفقيرة، وبين الانفتاح على رأس المال وتحصين القرار الوطني من الارتهان المالي والسياسي. فالديمقراطية لا تُقاس بعدد المرشحين ولا بضخامة الحملات الدعائية، بل بقدرتها على إنتاج تمثيلٍ سياسيٍّ نزيه، واستقرارٍ مؤسساتيٍّ يضمن التنمية والأمن معًا.

التوقعات تشير إلى أن البنية الجديدة للسلطة التشريعية ستعكس خارطة القوى المالية والسياسية الصاعدة، ما يجعل تشكيل الحكومة المقبلة عمليةً معقدة ومفتوحة على مساومات داخلية وضغوط خارجية، أشد مما شهدناه في الدورات السابقة. وهكذا، فإن انتخابات 2025 قد تكون مفترق طرق جديدًا في اختبار نضج الديمقراطية العراقية بين صناديق الاقتراع وحقول المال السياسي.

أخر الأخبار