• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

سلسلة أبنية بغدادية تراثية .. بيوت بغدادية ٦

سلسلة أبنية بغدادية تراثية .. بيوت بغدادية ٦

  • 13-09-2023, 11:51
  • مقالات
  • 240 مشاهدة
د. صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 

قصر عبد القادر باشا الخضيري .. من شركة نقل إلى نقابة الفنانين

الأسرة والنشأة
ولد عبد القادر الخضيري في بغداد عام ١٨٦٠ في أسرة ثرية يعود أصلها إلى آل سبهان السعودية. وهاجرت إلى العراق قبل أربعمائة عام ، واستقرت في محلة باب الشيخ. وكان أفرادها يتعاطون تجارة الحبوب حتى مطلع القرن العشرين ، ثم بدأ شبابها يدرسون في الجامعات وتنوعت مهنهم.  فوالده التاجر البغدادي عبد الرزاق جلبي آل خضري بن ياسين بن عمر. والعائلة مشهورة بعلاقاتها الوثيقة مع الأسر البغدادية ومعروفة بالأعمال الخيرية. فقد شيد الحاج زكريا بن الحاج خضر مسجداً في محلة الدسابيل القريبة من باب الشيخ. وأجرى له الأوقاف والتخصيصات المالية. كما أنشأ (سبيلاً) لسقاية الناس بموجب وقفية مسجلة في محكمة بغداد الشرعية تعود لعام ١٧٩٦. وكان له مجلس ثقافي في داره. وبعد وفاته دفن في هذا المسجد عام ١٨١٩. وقام عبد الرزاق جلبي الخضيري بتجديد مسجد الشيخ عبد العزيز الانصاري في محلة سراج الدين، وجعل فيه مدرسة علمية وسقاية وأوقف عليه الأموال عام ١٨٨٥.

ياسين الخضيري
برز ياسين الخضيري (١٨٦٢- ١٩٤٦) وهو أخو عبد القادر ، الذي أكمل تعليمه وتعلم القراءة والكتابة والقرآن الكريم، مارس التجارة في خان الخضيري الواقع في شارع النهر. وكان يقوم بتجارة الأدوية والمواشي وكان يتكون من طابقين، وقد هُدم الخان لاحقاً وتحول إلى سوق للملابس.  وقد استلم رتبة الباشوية من الباب العالي في إسطنبول. وكان صاحب أملاك وأراضي زراعية وقصور. وأحد قصوره في الجادرية (البيت البغدادي) الذي يعرض التراث البغدادي الأصيل والتحف النادرة.
عُيّن مستشاراً لغرفة تجارة بغداد في ٣٠ تشرين الأول ١٩١٠، ثم رئيساً لها في أواخر الحكم الثماني، وبعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولي ودخول القوات البريطانية أبعدوه إلى الهند ثم عاد وأصبح عضو مجلس الأعيان في المملكة العراقية. وفي ٢٧ شباط ١٩٣٧ أصبح نائباً لرئيس مجلس الأعيان، وعيّن مرة أخرى في الأعوام ١٩٣٩ و ١٩٤٣. وهو الذي أنشأ إسالة الماء في بغداد عام ١٩٠٧. كما ترأس مجلس إدارة شركة ترام الكاظمية. وكان ياسين الخضيري قد أسس (جمعية رعاية الطفولة) في العراق عام ١٩٢٢. وكان ديوانه محط حضور التجار والسياسيين والفقراء.
وكانت تربطه علاقة جيدة مع الملك فيصل الأول ورموز السلطة مثل نوري السعيد وياسين الهاشمي. وهو الذي جمع أعيان الأعظمية في قصر الوجيه ناجي الخضيري وأخذ منهم البيعة للملك فيصل الأول.
وبرز ناجي الخضيري أحد التجار الكبار. وقد شيد قصراً في الأعظمية في الثلاثينيات على نهر دجلة وسكن فيه مدة من الزمن ثم انتقل إلى قصره في الجادرية الذي سكنه من بعده صهره عزت الخضيري.  

عبد القادر الخضيري
ومن هذه العائلة برز عميد التجار عبد القادر باشا الخضيري الذي ذاع صيته وتجارته. وقد حصل عبد القادر على لقب الباشوية من الباب العالي السلطان عبد الحميد في إسطنبول عام ١٩٠٠. فصار الخضيري بمرتبة واحدة مع والي بغداد. كما حصل على وسام شير وخورشيد (الأسد والشمس) الإيراني.  
نشط عبد القادر في المجال السياسي فانضم إلى حزب الاتحاد والترقي التركي وترأس لجنته في العرق . وكانت له علاقة وطيدة من ناظم باشا ، وهو أحد الأقطاب الثلاثة في الاتحاد والترقي، والآخران هما أنور باشا وجمال باشا السفاح. ويذكر بعض أحفاد العائلة أن عبد القادر الخضيري نقلاً عن المس بيل  كان مرشحاً  ليكون ملكاً على العراق ، إضافة إلى طالب النقيب من البصرة.
كان الخضيري يملك أراضي زراعية وعقارات في بغداد والبصرة والعمارة ، منها عدة قصور في بغداد وخان الخضيري في العشار وخان الخضيري في شارع الرشيد. وأحد قصوره أهداه للوالي خليل باشا الذي أصبح الآن متحف عبد الكريم قاسم.
وبعد هزيمة الدولة العثمانية وتأسيس الدولة العراقية الحديثة المتمثلة بالمملكة العراقية لزعامة الملك فيصل الأول و هيمنة النفوذ البريطاني المباشر ، فقد أبدى عبد القادر الخضيرية دعماً وتعاوناً للسلطة الجديدة. فقد قدم قصره ليستضيف وزارة الدفاع والاجتماع التأسيسي الأول للجيش العراقي في ٦ كانون الثاني عام ١٩٢١، والذي سبق تتويج الملك فيصل الأول في ٢٣ آب ١٩٢١. ولا أستبعد حضور عبد القادر الخضيري وأشقائه مراسم التتويج لما لهم علاقة وثيقة بالملك وطاقمه السياسي والحكومي.

شركة الهند الشرقية
تأسست شركة الهند الشرقية بمرسوم ملكي صدر من قبل الملكة إليزابيث الأولي في ٣١ كانون الأول ١٦٠٠ مانحة لها سلطات احتكارية على تجارة الهند وجميع مستعمراتها في جنوب شرق آسيا لمدة ٢١ عاماً. وبذلك تحولت الشركة من مشروع تجاري إلى مؤسسة تحكم جميع الولايات الهندية وجميع المستعمرات البريطانية في المنطقة ، وتحظى بدعم سياسي وعسكري من بريطانيا. استمر ذلك حتى تم حلّ الشركة بعد اندلاع الثورة والعصيان المدني في الهند عام ١٨٥٨ ضد الاستعمار البريطاني. وعلى اثر الثورة تم القضاء على المملكة المغولية المسلمة في الهند التي استمرت من عام ١٥٢٦ م إلى ١٨٥٨م. وكان آخر سلطان هو محمد بهادر شاه (١٨٥٧- ١٨٨٧).

هيمنت شركة الهند الشرقية على تجارة القارة الهندية والصين. وكانت تتاجر أساساً بالقطن والحرير والشاي والأفيون.  ولدى الشركة ١٣٠ سفينة وأسطول يضم مائتي ألف جندي وضابط. وكانت تسمى شركة جون John ، وأما أهل الهند فيسمونها شركة بهادور Bhador وهو اسم الهند القديم. وكانت شركة مساهمة عامة إلا أن شركة الهند الشرقية الهولندية التي تأسست عام ١٦٠٢ هي صاحبة المبادرة في إصدار سندات المساهمة العامة. وأسس الفرنسيون شركة الهند الشرقية الفرنسية عام ١٦٤٤.  كانت البرتغال قد سيطرت عام ١٦٠٠ على معظم التجارة الأوربية مع الهند والشرق الأقصى، فصار التنافس حامياً بين الدول الأوربية على تجارة العالم القديم. وخلال القرن السابع عشر استولت الشركات الإنكليزية والهولندية على معظم الأملاك البرتغالية ، وطردت معظم التجار البرتغاليين خارج الهند، ونال الهولنديون السيطرة الكاملة على الجزر التي أصبحت تعرف بجزر الهند الشرقية الهولندية وتعرف حالياً باسم إندونيسيا. وكانت شركة الهند الشرقية الهولندية تمتلك ٤٧٨٥ سفينة تمخر عباب البحار والمحيطات في العالم.

منذ عام ١٨٢٢ أخذت شركة الهند الشرقية وضعاً سياسياً ، فرجالها وعناصرها أصبحوا مقيمين سياسيين ووكلاء مستوطنين. وبذلك اجتازت العلاقات بين التاج البريطاني ومنطقة الخليج مرحلتها التجارية ودخلت في مرحلة سياسية بحتة.

الهيمنة على الملاحة النهرية في العراق
وادركت بريطانيا اهمية المراسلات في تحقيق مصالحها التجارية والسياسية في العراق فعمدت شركاتها إلى ربط مدنه الرئيسية بشبكة من الخطوط التلغرافية ووصلتها بالخطوط الممتدة بين الخليج العربي والهند، ومهدت لملاحيها وتجارها سبل الوصول إلى العراق والاتجار مع سكانه، لتثبيت النفوذ البريطاني فيه، فقد كانت أهمية العراق الاستراتيجية بالنسبة للسياسة البريطانية، تتمثل في موقع العراق على رأس الخليج العربي، الذي هو جزء من طريق الهند البري الحيوي لمواصلات الامبراطورية البريطانية، فكانت بعثة جسني التي أوفدتها الحكومة البريطانية في اعوام 1884-1837 اولى البعثات الانكليزية التي درست امكانيات نهر الفرات الملاحية، والتي سارت في الفرات من عانه إلى بغداد وفي دجلة من بغداد إلى البصرة وضربت رقما قياسيا في تحقيق المصالح الانكليزية في العراق فقد اكتشفت حالة الرافدين، ودرست احوال المياه فيهما ورسمت المصورات المهمة لهما ووضعت الخرائط الدقيقة لسواحلهما فكان عملها هذا عملا فريدا في بابه وقتئذ بحيث اتخذت خرائطها من جملة الخرائط التي اعدت اساسا لاحتلال العراق في عام 1914م. فضلا عن المجهودات البريطانية التي تناولت حقولا متعددة كإرسال بعثات التنقيب الاثارية، وانشاء خطوط التلغراف وتأسيس الشركات الملاحية.
ومع تطور اعمال الشركة واتساع رقعة نفوذها عمدت الى تشكيل جهاز إداري واسع مستقل عن الحكومة البريطانية التي تمكنت في أواخر القرن الثامن عشر من السيطرة التدريجية على هذه الشركة العملاقة فأصبحت تعمل ومنذ عام 1834 تحت إشراف الحكومة البريطانية حتى التمرد الهندي عام 1857 عندما تولت الدائرة الاستعمارية في الحكومة البريطانية السيطرة التامة على الشركة على الرغم من عدم مشاركتها المالية مباشرة فيها. وقد أنتهى وجود الشركة عام 1873 بعد ان تركت بصماتها في تاريخ العالم . فقد اوجدت مستعمرات عديدة وخاضت بجيشها حروبا عديدة حددت مصائر مناطق واقاليم كثيرة في الهند وجزر شرقي آسيا. كما ادى توسيع عملياتها الى التصادم مع دول اوربية اخرى مما وسع في مجالات اهتماماتها لتشمل الجوانب الإستراتيجية والسياسية بالإضافة الى الجوانب التجارية فكانت تصدر عملتها الخاصة التي تحمل عنوانها وتعين عملاء سياسيين في معظم عواصم المشرق ومدنه الكبرى.. ومنها بغداد والبصرة والموصل، وتلك مهمة تؤكد الجانب الإستراتيجي والسياسي التي تتشاطر الاهتمام فيه مع الحكومة البريطانية ويتمثل بالدفاع عن الطرق البحرية والبرية الى الهند وتأمين عمل الحكومة البريطانية المحلية في الهند وغيرها من المستعمرات الآسيوية. فلابد والحال هذه من ان

الشركة والمقيمية البريطانية تعاون وثيق

يحتل العراق موقعا مهما في خارطة المصالح الإستراتيجية والاقتصادية لشركة الهند الشرقية البريطانية...وكان حكام العراق المحليين يسعون الى تمتين الأواصر الاقتصادية والسياسية مع بريطانيا حتى مع تجاوز رضى او موافقة السلطة العثمانية فسمح والي بغداد بتعيين عميل لشركة الهند الشرقية في بغداد عام 1798 اعقب ذلك فتح قنصلية في بغداد عام 1802 مما عمل على تطوير النشاط التجاري البريطاني في العراق، وأصبح كلوديوس جيمس (١٧٨٧- ١٨٢١) Claudius James Rich ريج مندوب شركة الهند الشرقية أصبح يشغل منصب المقيم البريطاني في بغداد للفترة ١٨٠٨ لغاية ١٨٢١. وهو صاحب كتاب (رحلة ريج) المقيم البريطاني في العراق عام ١٨٢٠ إلى بغداد وكردستان وإيران). وكان مهتما بنواحي الحياة كلها في بلاد الرافدين وبخاصة الآثار، فزار نينوى وبابل وعمل على جمع كمية هائلة من المخطوطات واللقى الأثرية التي بيعت للمتحف البريطاني عام 1825 مشكلة النواة الأولى للقسم العراقي في المتحف البريطاني.

استمر كلوديوس جيمس ريج في وظيفته ممثلا لشركة الهند الشرقية في بغداد حتى عام 1821 إضافة لمنصبه كقنصل بريطانيا في بغداد ، ليعقبه العقيد روبرت تيلر (١٧٨٨- ١٨٥٢) Robert Taylor للفترة 1821 وحتى 1843 حيث اعقبه في الوظيفة نفسها هنري رولينسون Henry Rowlison للفترة 1843 وحتى 1855 ثم أرنولد برويز كمبول للفترة 1855 وحتى 1872، كما وظفت شركة الهند الشرقية عددا كبير من الأطباء في الاختصاصات الطبية المختلفة ومهندسين مدنيين ومعماريين وفنانين وعلماء نبات وأرض وحياة وانثروبولوجيا.. وكان الضباط ممن يعملون في الشركة قد انهو دراستهم في كلية عسكرية متخصصة في لندن تابعة للشركة التي اسست كلية تابعة لها عام 1806 وهي كلية مازالت قائمة حتى الآن باسم "هيليبري كولج"Haileybury College   في إنكلترا. كما تحتضن الشركة نخبة متميزة من الأدباء والكتاب والشعراء والمترجمين والمستشرقين منهم من ولد في الهند.. ولا غرابة من ذلك فقد استمر الوجود البريطاني في الهند قروناً عدة جعلت العديد من البريطانيين يتخذونها موطنا ثانيا لهم ولأسرهم على الرغم من تفضيلهم لتعليم اولادهم في مدارس في بريطانيا.

شركة الهند الشرقية تحتضن المبدعين

وفي الواقع فإن نشاطات شركة الهند الشرقية البريطانية واهتماماتها كانت الأوسع والأكبر في العالم. فهي بالإضافة الى نشاطاتها التقليدية في التجارة وتأسيس المستعمرات وحماية الطرق البحرية، فتحت الشرق على الغرب والغرب على الشرق حضاريا فمهدت لحركة الاستشراق والدراسات الآسيوية والإسلامية ولاسيما فيما يتعلق بالشرق الأدنى. فقد ضمت مستشرقين وفنانين كبار كالمستشرق السير ريتشارد فرانسيس بيرتون (١٨٢٠- ١٨٩٠) Richard Francis Burton الذي ترجم الف ليلة وليلة ب 16 مجلداً الى الإنكليزية ، والمستشرق وليم جونز (١٧٤٦- ١٧٩٤) William Jones ، والمستشرق جيمس برنسيب (١٧٩٩- ١٨٤٠) ، والمستشرق وليم موير (١٨١٩- ١٩٠٥) William Muir ، والمؤرخ البارون توماس بابنكتون ماكولي (١٨٠٠- ١٨٥٩) Thomas Babington Macaulay ، والمنظر السكاني توماس روبرت مالثوس (١٧٦٦- ١٨٣٤) Thomas Malthus

ورعت الشركة طائفة عريضة من الكتاب والأدباء  أمثال ريتشارد ستيل (١٦٧٢- ١٧٢٩) Richard Steele ، روديارد كيبلينغ (١٨٦٥- ١٩٣٦) Rudyard Kipling ، ووليم ميكبيس ثاكري (١٨١١- ١٨٦٣) William Makepeace Thackeray ، وتوماس لوف بيكوك (١٧٨٥- ١٨٦٦) Thomas Love Peacock ، وجيمس كوربيت (١٨٧٥- ١٩٥٥) Jim Corbett ، وجون ماسترز (١٩١٤- ١٩٨٣) John Masters ، وجورج اورول (١٩٠٣ – ١٩٥٠) واسمه الحقيقي إيريك آرثر بلير Eric Arthur Blair  ، وادوارد مورغان فورستر (١٨٧٩- ١٩٧٠) Edward Morgan Forster ، وجون ستيوارت ميل (١٨٠٦- ١٨٧٣) John Stuart Mill ، ووالده الفيلسوف جيمس ستيوارت ميل (١٧٧٣- ١٨٣٦) James Stuart Mill .

كما احتضنت الشركة عدداً كبيراً من الفنانين المصورين والرسامين  كجيمس فوربيز (١٧٤٩- ١٨١٩) James Forbes ، ووليم هوجرت (١٦٩٧- ١٧٦٤) William Hogarth  ، وروبرت كير بورتر (١٧٧٧- ١٨٤٢) Robert Ker Porter ، والقس توماس دانييل (١٧٦٩ – ١٨٣٧) Thomas Daniel ، وهوراس فيرنيه (١٧٨٩- ١٨٦٣) Jean- Horace Vernet ، وروبرت سميث (١٧٩٢- ١٨٨٢)  Robert Smith. ورعت المعماريين كهنري اروين (١٨٤١- ١٩٢٢) Henry Irwin ، ووليم ويلكينز  ، وماثيو دكبي وغيرهم...

مشروع قناة السويس حدث دولي كبير
سرعان ما تغيرت الظروف الدولية في اواخر القرن التاسع عشر فقد دخلت دول اوربية اخرى ميدان التنافس على الموارد فيما وراء البحار وكان العداء التقليدي بين بريطانيا وفرنسا قد حرك الأخيرة صوب مصر حتى تمخضت الجهود الفرنسية في حفر قناة السويس التي غيرت خارطة المواصلات في العالم واختصرت المسافة الى الهند جوهرة التاج البريطاني بقرابة ثلاثة اشهر مما دعا الحكومة البريطانية في عهد رئيس الوزراء البريطاني يهودي الأصل بنيامين ديزرائيلي (١٨٠٤- ١٨٨١) Benjamin Disraeli الى الاقتراض من المصرفي اليهودي ليونيل وولتر دي روتشيلد ( ١٨٦٨ – ١٩٣٧) Walter Rothhschild الذي تمتلك اسرته شركة الهند الشرقية بأكملها، المال الذي اشترى به حصة مصر في قناة السويس عام 1875، لتأمين طريق اقصر الى مستعمراتها الآسيوية ولتحقيق توازن قوة مع فرنسا والأطراف الأخرى المشتركة في هذه القناة. ويبدو ان دزرائيلي كان يضع باستدانته من روتشيلد قياد الحكومة البريطانية وسياستها بيد اليهود من اسرة روتشيلد ممن سرق اموال الهند ونقل ثرواتها الى مصارف الأسرة في أوربا . وقد جاء تحرك بريطانيا صوب السويس بعد تأكدها من صعوبة [وليس استحالة] ايجاد طرق نهرية [دجلة والفرات] او حديدية [سكك حديد] بين خليج الأسكندرونة والخليج العربي بعد حملة البريطاني فرانسيس رودان تشسني (١٧٨٩- ١٨٧٢) Francis Rawdon Chesney ودراسته اللاحقة لإمكانية مد سكة حديد تختصر المسافة الى الهند عبر رأس الرجاء الصالح. وعلى الرغم من تلاشي شركة الهند الشرقية وانتقال وظائفها الى الحكومة البريطانية منذ عام 1874، فإن ادارتها الفعلية المتمثلة بأسرة روتشيلد في فرعها البريطاني واصلت ادارة المصالح التجارية لبريطانيا وتوجيه السياسة البريطانية في الشرق الاوسط حتى الوقت الحاضر.. وهي، اي شركة الهند الشرقية البريطانية، عملت على تأسيس الثوابت التي اعتمدتها الحكومة البريطانية في سياستها تجاه الشرق الأوسط . وكانت اهم تلك الثوابت الحفاظ على الهند ومستعمراتها في شرقي آسيا مما وجه انظار الحكومة البريطانية نحو العراق. وترتب على الاهتمام المتزايد في العراق زيادة كبيرة في نسب التبادل التجاري بطريق ميناء البصرة فقد كانت بريطانيا توفر 65% من احتياجات السوق العراقية من السلع والبضائع كما تولت شركة بريطانية هي شركة هنري بلوس لنج Henry Bloss Lynch أحد الضباط في بعثة جاسني لاكتشاف صلاحية دجلة والفرات للملاحة مهمة النقل  النهري داخل العراق [  شركة الفرات ودجلة للملاحة] التي اسست عام 1859 وكان للقنصل البريطاني العام في بغداد سفينته البخارية الخاصة به واسمها الكومت Comet [المذنب] التي كان يسيرها في دجلة وعين على حراستها وحدة عسكرية من الهنود. وقد عزز اكتشاف النفط في اواخر القرن التاسع عشر التواجد البريطاني في العراق والخليج ودفع البريطانيون الى سلخ قضاء الكويت التابع لولاية البصرة عن العراق لصالح الشيخ مبارك بعد تكبيله بشروط تمنعه من التنازل عن اي جزء من ارض الكويت لأي قوة أخرى بدون موافقة بريطانيا.

الصراع الدولي على العراق

استهلت شركة الهند الشرقية نشاطها التجاري في البصرة في القرن السابع عشر، ومع مرور الوقت أنشأت مقرًا لها هناك. كانت البصرة حينئذ جزءًا من إيالة بغداد التابعة للدولة العثمانية، ومع ذلك كان حكمها في يد سلالة المماليك الجورجية شبه المستقلة. كان يُطلق على الحاكم لقب " الباشا "، وكان يحكُم من مدينة بغداد، ولذلك استشعرت شركة الهند الشرقية ضرورة وجود من يُمثلها هناك. وخلال القرن الثامن عشر، استوفت حاجتها تلك عن طريق شبكات التجار الأرمن الناجحين الذين تعاونوا مع شركة الهند الشرقية .
وعلى الرغم من ذلك، وفي عام ١٧٩٨، ارتفع مستوى هذا التمثيل بتعيين السير هارفورد جونز بريدجيز Sir Harford Jones Brydges كأول مقيم بريطاني في بغداد. كان ذلك بمثابة رد على الغزو الفرنسي لمصر في نفس العام ونتيجة المخاوف البريطانية من كون الهند هي مبتغى نابليون بونابرت ( ١٧٦٩- ١٨٢١) الأساسي. تواجَد المسؤولون والوكلاء الفرنسيون في بغداد كجزء من استراتيجية أوسع نطاقًا لتكوين تحالفات مع حكام محليين في أرجاء الشرق الأوسط وآسيا. ومن ثم، كان على المقيم البريطاني في بغداد جمع المعلومات الاستخبارية والعمل على التصدي للنفوذ الفرنسي في المنطقة.
استُحدثت على الفور مهمة أخرى للمقيمية البريطانية، وهي ضمان سلامة عبور البريد المتبادل بين بريطانيا والهند. كان البريد يسلك في البداية الطريق البحري من الهند مرورًا بالخليج ثم إلى البصرة، ومن البصرة يُنقَل برًا عبر حلب إلى القسطنطينية [إسطنبول]، ثم يُكمل طريقه عبر أوروبا. وفي ذلك الوقت، تمت تجربة طريق جديد بعض الشيء يُنقل فيه البريد من البصرة إلى بغداد قبل حمله نحو القسطنطينية. وأمل المسؤولون البريطانيون أن يكون هذا المسار الجديد أسرع وأسلم، وتولت المقيمية البريطانية الجديدة مسؤولية الإشراف عليه.
وفي الوقت ذاته، توقعت المقيمية البريطانية قُرب انتهاء الحكم العثماني في بغداد، وسعت إلى زيادة النفوذ البريطاني استعدادًا لذلك. ولتحقيق هذا، تحتم عليها إيجاد طرق من شأنها زيادة التدخل البريطاني دون استفزاز غيرها من القوى المهتمة.
ومن بين الطُرق التي اتُبعَت لتحقيق هذين الهدفين، الترويج للملاحة البخارية في نهري دجلة والفرات. فخلال الفترة من ١٨٣٥ إلى ١٨٣٧، أُرسلَت بعثة لإجراء عملية مسح، وتم بعدها تخصيص سفينة بخارية حكومية للتنقل بين البصرة وبغداد. وبعد عام ١٨٦١، توسع نطاق هذه الخدمات عن طريق تأسيس شركة الفرات ودجلة للملاحة البخارية على يد عدد من التجار البريطانيين وبدعم من الحكومة. تطلعت بريطانيا من خلال ذلك إلى تعزيز المزيد من التجارة وتشجيع التنمية على طول مجرى النهرين وتحسين العلاقات مع القبائل المحلية. وبالرغم من عدم تحقق هذه الأهداف إلا جزئيًا، فإن تأسيس خدمات السفن البخارية أدى عمومًا إلى ترسيخ الوجود البريطاني وتوسيع نطاقه في المنطقة.


شركة بيت لينج

وكانت شركة أسرة لينج الايرلندية الأصل قد تأسست في كانون الأول ١٨٣٤ بفرمان سلطاني من الباب العالي العثماني في إسطنبول. وفي ١٩ آب ١٩٤١ حصلت الشركة على امتياز حماية الباخرتين التجاريتين ومساعدة قائدهما حيث ورد اسم النقيب هنري بلوس لينج Henry Bloss Lynch للتمييز بين ما تقوم به الحكومة البريطانية من نشاط ملاحي في أنهار العراق. وكان النقيب هنري لينج (١٩٠٧ - ١٨٧٣) يعمل ضابطاً بحرياً ويجيد العربية والفارسية. وقام بمسح الشواطئ العربية الفارسية للخليج ، وأجرى اتصالات مع القبائل العربية تمهيداً لبعثة مسح نهر الفرات. ونظراً لكفاءته في الملاحة تم تعيينه عام ١٨٣٤ مساعداً لقائد بعثة الفرات النقيب جيسني حيث تولى قيادة الباخرة دجلة. وقام بأعمال المسح من الموصل إلى المدائن. كما أصبح مسؤولاً عن الخدمة البريدية بين بغداد ودمشق. في آب ١٩٣٨ تزوج هنري لينج من كارولينا ابنة المقيم البريطاني روبرت تايلور. بعد ان انهت بعثة الفرات اعمال المسح في نهري الفرات ودجلة عام 1839 عينت اللجنة السرية التابعة لشركة الهند الشرقية الملازم هنري لنج قائداً للباخرة الفرات أو مثيلاتها من البواخر التي يمكن استخدامها في انهار العراق.

عن طريق انشاء محطات للوقود عبر مجرى نهري دجلة والفرات عقد هنري لنج صلات ودية مع رؤساء العشائر التي تقطن هذه الضفاف والذين أبدوا استعدادهم لتزويد بواخر الاسطول البريطاني في العراق بما تحتاجه من وقود وقد كان هؤلاء يزورونه فيوزع عليهم الهدايا. وكان هدف هنري لنج من هذه الصلات هو تأمين الملاحة واستمرارها بين البصرة وبغداد. ان بقاء هنري لنج في العراق مدة طويلة ومشاركته في بعثة الفرات واطلاعه على الإمكانات التجارية والاقتصادية أقنعته بان لهذه البلاد مستقبل تجارياً كبيراً فعمد إلى اقناع بعض أفراد اسرته بتأسيس بيت تجاري في بغداد عام 1839 والذي بعد ان أسس عرف باسم السادة ستيفن لنج وشركاؤه (Messer Stephen Lynch and Co) والسادة لنج (Messer Lynch) والذي استطاع ان يحقق نجاحاً كبيراً في اعمال التجارة والنقل ، كان بيت لنج التجاري ثاني بيت تجاري بريطاني في بغداد بعد بيت هيكتور التجاري (Hector Commercial House) للتجارة والنقل ما بين بغداد ولندن والذي كان يمتلك عدداً من السفن الشراعية ومنها السفينة اشور والى جانب هذين البيتين التجاريين كان هناك بيت تجاري بريطاني ثالث في بغداد هو بيت ميلز (Maills House) للأعمال المصرفية والتجارية. عندما ارادت شركة الهند الشرقية نقل بواخرها من المياه العراقية عرض بيت لنج شراء باخرتين منها الفرات مع باخرة اخرى ولم تكن اهمية هذا الاقتراح الإستراتيجية الذي عرضه توماس لنج الذي استقر في بغداد خافية على شركة الهند الشرقية فوافقت عليه وتمت عملية البيع والشراء واصبحت لبيت لنج باخرتين مع عدد من السفن الشراعية وكان بعض هذه السفن ملكاً لبيت لنج مثل السفينة جمنا (Jamna) اما البعض الأخر فقد كان يعود إلى مالكين محليين.
اما الابن الأخر لهذه العائلة فهو توماس كير لنج (١٨١٨- ١٨٩١) Tomas Keer Lynch الذي أكمل دراسته في كلية ترينتي (الثالوث) Trinity College Dublin في دبلن انضم بعدها إلى شقيقه هنري لنج في عملية المسح الثانية للأنهار العراقية ثم عمل بعد ذلك في ادارة خدمة البريد بين بغداد ودمشق. تزوج توماس لنج من هارييت ابنة المقيم البريطاني في بغداد روبرت تايلر. سافر توماس لنج على نطاق واسع في العراق وايران عاد بعدها إلى بريطانيا حيث أصبح القنصل الايراني العام في لندن. ومن افراد اسرة لنج الاخريين هو ستيفن لنج (١٨١٩- ١٨٩٦) (Stephen Lynch)   والذي عُرف بيت لنج في بغداد باسمه.
 ومن افراد هذه الاسرة جون لنج John Lynch الذي كان يعمل محامياً في المحاكم وكذلك شقيقه ماثيو لنج Mathew  Lynch.  وقد فقدت أسرة لنج اثنين من ابنائها في عمليات مسح الانهار العراقية الأوّل هو روبرت لنج Robert Lynch في حادثة غرق الباخرة دجلة والاخر هو مايكل لنج   Michael Lynch الذي توفي وهو يقود احدى بواخر الأسطول البريطاني في العراق.
توسعت اعمال بيت لنج التجاري فقرر اصحابه بعد سنوات عدة ان يزيد اسطوله من المراكب بعدد من البواخر النهرية وتأسيس شركة للملاحة في الانهار العراقية فأجرى مفاوضات مع الحكومة البريطانية من
اجل الحصول على حقوق الملاحة ونقل البريد البريطاني بين البصرة وبغداد وقد حصل السادة لنج على دعم الحكومة البريطانية لمشروعهم الملاحي هذا. فتأسست في لندن في الخامس والعشرين من شهر نيسان عام 1861 (شركة دجلة والفرات للملاحة البخارية المحدودة) برأسمال قدره ثلاثون الف جنيه استرليني مقسمة على ستمائة سهم وكان سعر السهم الواحد خمسين جنيهاً وبلغ عدد المساهمين في شركة لنج للملاحة ثمانية عشر شخصاً وعقد أول اجتماع لمجلس ادارة الشركة في شهر ايار عام 1861 وكان يتألف من هنري لنج وستيفن لنج واختير توماس كير لنج مديراً مفوضاً وفتحت الشركة مكتبين لها في بغداد والبصرة واصبح بيت لنج التجاري وكيلاً لها في العراق وفي هذا الاجتماع الذي عقد في مقر الشركة الواقع في شارع البرج الكبير في لندن(Great Tower Street)  قدمت شركة لنج للملاحة عرضاً لشركة ج. أ. رينييه وشركاؤه (J.and A Rennie and Co) وهي احدى الشركات المتخصصة في بناء السفن لبناء باخرة تناسب الملاحة في نهر دجلة وقد قامت شركة رينيه ببناء باخرة يبلغ طولها 164 قدماً وقوتها سبعين حصاناً . وجرى تسجيلها في لندن ، ونقلت هذه الباخرة مفككة عبر طريق راس الرجاء الصالح إلى حوض السفن في ماركيل (المعقل) الواقعة على بعد ميلين من شط العرب وحيث تقع مخازن الشركة ايضاً وكان بيت لنج يؤجر مستودعات السفن في ماركيل ( اسم ميناء المعقل ) من القنصل البريطاني في بغداد روبرت تايلر وفي المعقل تم تجميع اجزاء الباخرة واطلق عليها اسم مدينة لندن (City of London). .

كان والي بغداد محمد نامق باشا (١٨٠٤- ١٨٩٢) يجهر بالقول " ان ترك الارض قفراً افضل من الرفاه الذي يعتمد على مصادر اجنبية " لذا جاء حصول شركة لنج للملاحة على امتياز الملاحة في الانهار العراقية على الضد تماما من رغبته فقد استمر في محاولة عرقلة النشاط الملاحي لشركة لنج فعندما ارادت شركة لنج انزال الباخرة (مدينة لندن) في نهر دجلة للعمل بين بغداد والبصرة استناداً إلى الامر الصادر عام 1846 اعترض محمد نامق باشا على قيام شركة لنج بإنزال الباخرة (مدينة لندن) إلى نهر دجلة وهي ترفع العلم البريطاني ، وانه لن يسمح لها بالملاحة الا اذا رفعت العلم العثماني. واحالت وزارة الخارجية البريطانية الموضوع إلى مكتبها القانوني الذي اجاب " ان حق السفن البريطانية في الملاحة في نهر دجلة امر لا يمتاز بالمقومات لتكوين رأي بشأنه ، ومعنى هذا ان الامتيازات البريطانية في أنهار دجلة والفرات غير ثابتة الأسس ، وان الوثائق السابقة لا تكفي لإثبات حق البريطانيين في استخدام البواخر في انهار العراق.

دفع رد المكتب القانوني في وزارة الخارجية البريطانية السفير البريطاني في استانبول هنري بلور   (Henry Bulwer) 1858-1865  إلى الدخول في مفاوضات مع الحكومة العثمانية من اجل الحصول على امتياز بتأسيس خط للبواخر التجارية البريطانية في الأنهار العراقية أدت إلى صدور كتاب الصدارة العثماني في الخامس عشر من كانون الثاني عام 1861 الموجه من الصدر الأعظم محمد فؤاد باشا (في المنصب 1861-1863) إلى والي بغداد محمد نامق باشا  واشار الكتاب إلى الفرمان الصادر عام 1834 والاوامر التي صدرت عام 1841 وعام 1846 والتي تسمح للبريطانيين بالملاحة في نهري دجلة والفرات على ان لا يكون لهم اكثر من باخرتين واعتبر الكتاب السلع التي تنقلها الباخرتان دون الخروج إلى الخليج العربي تجارة داخلية وبصدور كتاب الصدر الاعظم محمد فؤاد باشا (١٨١٤- ١٨٦٩) تمكنت شركة لنج للملاحة من انزال اول بواخرها في نهر دجلة.
بدأت الباخرة (مدينة لندن) رحلتها الأولى في نهر دجلة في بداية عام 1862 بقيادة النقيب هولاند (Holland) ، وقد وفرت شركة لنج للملاحة خدمة شحن ونقل آمنتين وقلصت رحلة الذهاب والاياب بين البصرة وبغداد من ثلاثة اسابيع أو اربعة اسابيع إلى عشرة ايام كما اسهمت في توسيع التجارة الداخلية والخارجية وساعدت نشاطات شركة لنج وادارة عمان العثماني في نشوء مدن جديدة مثل العمارة وقلعة صالح والمجر الكبير والعزيزية.

شركة الخضيري للنقل النهري

 في ظل استحواذ شركة الهند الشرقية على التجارة في العراق من خلال مكتبيها في بغداد والبصرة صارت التهديد كبيراً لرجال الأعمال والتجار العراقيين. فكان لابد من مواجهة النفوذ التجاري البريطاني المدعوم بالدعم السياسي والدبلوماسي من خلال تأسيس أعمال أكبر من تجارة الخانات والمحلات. وقد انبرى عبد القادر الخضيري هذا التهديد الخطير لتجارته ومستقبل أسرته الثرية فقام بتأسيس شركة الخضيري للنقل النهري. فقام عبد القادر باشا وأشقاءه قاسم باشا وعبد الجبار جلبي الخضيري وياسين باشا الخضيري بتأسيس الشركة الجديدة مع عدد من البواخر النهرية لنقل البضائع والركاب سميت بـ (القادري) لنقل المسافرين. كان التوجه للملاحة النهرية كأفضل وأرخص وأمن وسيلة
ولم تكن القطارات والسكك الحديد مشيدة بعد، ولا تتوفر ناقلات وشاحنات وطرق برية معبدة.

صارت شركة الخضيري تنافس شركة لينج التي كانت تسيطر على التجارة والملاحة في العراق حتى سرت شائعات بأن الحكومة العثمانية باعت العراق لشركة لينج. واستلم والي بغداد ناظم باشا برقية وقعها عدد من الوجهاء جاء فيها بأن ثلاثين ألفاً من أهالي بغداد سيتظاهرون ضد بيع الإدارة النهرية إلى شركة لينج. وفي ٢٠ كانون الأول ١٩٠٩ كان ممثلو المتظاهرين بانتظار الوالي ناظم باشا . وبناء على طلبهم سار معهم إلى دائرة البريد ، واتصل من هناك بالصدر الأعظم (رئيس الوزراء) حسين حلمي ، ورجاه تلبية مطالب الجماهير البغدادية ، وعدم بيع الإدارة النهرية إلى شركة لينج للملاحة. وبعث وزير الداخلية العثماني ببرقية إلى ناظم باشا نفى فيها بيع البواخر الحكومية إلى شركة لينج ، وأعلن أن المشروع المقترح هو تكوين شركة مشتركة يكون في إدارتها أربعة من العثمانيين وتجار من بغداد. وأضاف الوزير العثماني أن أهالي بغداد إذا كانوا يخشون من وقوع أسهم الشركة الجديدة بيد شركة لينج للملاحة فلا مانع من بيعها.

ولا يستبعد أن يكون للخضيري وشركته وأشقائه دوراً في تلك الأزمة والتظاهرة والتحرك على الوالي والحكومة العثمانية في إسطنبول. كما أن الخضيري والوالي ناظم باشا كلاهما كان عضواً في جمعية الاتحاد والترقي ، والوالي يمثل أحد أضلاع السلطة آنذاك إضافة إلى أنور باشا وجمال باشا. كما استغل علاقة الباب العالي بأسرة الخضيري ، فقد سبق أن قلدهم السلطان العثماني لقب الباشوية لكل من عبد القادر وقاسم وياسين. كما أن مصالح الخضيري التجارية صارت مهددة من هيمنة شركة لينج المتصاعدة مما استوجب التحرك ضد مصدر التهديد.

بعد تصفية شركة لينج وبيعها لتوقف عملها في النقل النهري والتي تملك محطات نهرية على امتداد نهر دجلة من بغداد إلى شط العرب قامت شركة الخضيري بامتلاكها لتصبح المهيمنة الأولى في التجارة والملاحة النهرية.


قصر عبد القادر الخضيري

استضاف القصر أول حكومة عراقية عام ١٩٢٠ برئاسة عبد الرحمن الكيلاني عندما قام عبد القادر الخضيري بتسهيل اشغال القصر. في عام ١٩٨٠ كانت تشغله محكمة الشرطة. وبعد عام ٢٠٠٣ شغلته عدة منظمات مجتمع مدني ، ثم شغلته دائرة الفنون الموسيقية في القسم الشتوي. إما القسم الصيفي فكان لمديرية الآثار العامة بعد إخراج الشرطة منه. تبلغ مساحة القصر دونم واحد (٢٥٠٠) متر مربع.

تشغل القصر حالياً نقابة الفنانين يتألف من قسمين ، الأول مبنى النقابة والثاني منزل عائلة الخضيري.

القسم الأول: وهو القسم الأكبر وذو طابقين أضيف إليه طابق ثالث فيما بعد، ويشرف على نهر دجلة من الخلف ، وعلى شارع الرشيد من الأمام مقابل المطعم التركي وساحة التحرير. وهذا القسم فخم وكبير وقد يكون اتخذ مقراً لشركة الخضيري للملاحة النهرية وذلك للاعتبارات التالية:
١-تصميم البناية أشبه بأبنية الدوائر الحكومية على الطراز الأوربي. فالمدخل المؤدي إلى بهو تعلوه قبة عالية أمر غير متعارف في العمارة البغدادية. إذ يقتصر استخدام القباب في الأضرحة والمساجد والسراديب والحمامات . ولا تستخدم في المنازل.
٢- هناك أربع شرفات تطل على البهو تشكل أماكن لجلوس الضيوف أو غيرهم. والشرفات الداخلية أمر جديد في البيت البغدادي التقليدي ، بل هو أقرب لأبنية المصارف والبنوك والشركات.
٣- البناء مغلق وليس فيه باحة داخلية وحولها غرف مثل بقية البيوت البغدادية .
٤- وجود عدة قاعات كبيرة تستخدم كمكاتب للموظفين والعاملين. فالبيت البغدادي يتميز بتوزيع المستحة على غرفة استقبال وغرف نوم متعددة إضافة إلى غرف الخدمات كالمطبخ والحمامات والمخزن.
٥- المدخل ذو فخامة يتكون من ثلاث ممرات تفصل بينها أعمدة وعليها عقود من الطابوق. وهكذا مدخل لا يستخدم إلا في الأبنية الفخمة كالشركات والوزارات والمحاكم الكبرى وغيرها.

الوصف المعماري
تتميز الواجهة الأمامية بالفخامة والعراقة وهو من الطابوق الأصفر مع أعمال زخرفة جميلة، والطابق الأرضي يختلف عن الطابق العلوي. إذ يمتاز الطابق الأرضي بأقواس تعلو الأعمدة والشبابيك والأبواب. بينما لا توجد أقواس في الطابق العلوي بل يبدو استخدام حديد الشيلمان المغلف بالطابوق. كما أن أعمدة الطابق العلوي تنتخي بتيجان تتشكل من مقرنصات من الطابوق. وربما كانت هناك شرفة علوية فوق المدخل بثلاث فتحات واسعة تم إغلاقها مؤخراً باستخدام الزجاج الكبير الحجم . الحديقة الأمامية أصبحت صغيرة بعد تبليط الأرضية بالكاشي السمنت (الشتايگر). كما توجد نافورة مثمنة الأضلاع مكسوة بالكاشي السيراميك الملون الصغير الحجم. المدخل يؤدي إلى ممر مزين بالزخارف والمقرنصات من الطابوق بشكل حرفي بديع.
يوجد مدخل جانبي ربما استحدث في وقت لاحق يؤدي إلى قاعة الاستقبال التي تبدو مستحدثة بعد تأهيل البناية من قبل النقابة. إذ تم أجراء تغييرات وديكورات في السقوف والجدران. كما تم إغلاق الجزء السفلي من الشبابيك المطلة على الخارج. كما تم تأثيثها بشكل جميل بالمناضد والكراسي والقنفات. وفيها التقيت بسكرتير نقابة الفنانين السيد فاضل وتوت والدكتور قيس بهنام مصمم علامات تجارية (لوغوات) لشركات شهيرة في السويد ويعمل حالياً أستاذاً في جامعة أوروك . كذلك التقيت بالنحات الدكتور حمد سلطان ويعمل مدرساً كلية الفنون التطبيقية بجامعة أوروك أيضاً.
 رافقني الأستاذ فاضل وتوت في قاعات المبنى ، فدخلنا البهو الجميل الذي تعلوه قبة في أعلاها جزء يخرج نحو السماء ، يتضمن ثمان شبابيك تجلب الضوء نهاراً إلى البهو. وقد تم طلاء القبة والأقواس التي تستند عليها باللون الأبيض. وتستند الأقواس الكبيرة على أربعة أعمدة من الطابوق المطلي باللون الأبيض. وأعتقد أن الطلاء حديث وتحته الطابوق الذي بنيت به الأعمدة. وتوجد أعمال جصية تعلو الأعمدة تنساب على شكل أقواس مع بعضها البعض.
ولعل أهم جزء معماري يميز قاعة البهو وجود ثلاث شرفات بين الأعمدة الأربعة. ويوجد محجّر من الحديد المشغول ، يعلوه ممسك خشبي . والأرضية بالكاشي الموزائيك مع إزارة بارتفاع خمس سنتيمترات تمسك المحجر ومغلفة بالموزائيك أيضاً.

توجد في الطابق الأرضي عدة قاعات طويلة نسبياً تستغل كمكاتب وقاعات اجتماعات واحتفالات وضيافة وغيرها. أما قاعات الطابق العلوي فهي واسعة جداً وقد أحسنت نقابة الفنانين عن جعلتها معارض للفن التشكيلي والنحت بأنواعه والخزف واللوحات الجميلة التي شاهدتها. وحتى جدران الممرات مزينة بلوحات فنية ، إضافة إلى بعض التماثيل وأعمال النحت. الشبابيك والأبواب مرممة بشكل جيد ، ومزودة من الخارج شبابيك من الخشب على شكل مساطر أفقية تمنع شعاع الشمس المباشر لكنها تسمح بمرور الهواء والنور. أما السقوف فهي من حديد الشيلمان والطابوق العقادة .

القسم الثاني
وهو الملحق بمقر الشركة ، وهو بيت بغدادي تقليدي تتوسطه باحة تحيط بها عدد من الغرف ورواقين علوي وأرضي. تحيط بالرواق العلوي محجر من الخشب والحديد المشغول. الأبواب والشبابيك من الخشب ، تعلوها أقواس وزخارف من الطابوق. والرواق العلوي معلق بطريقة البروز من السقف Cantilever ، ومثبت عليه محجر بسيط وأعمدة خشبية تسند سقف الرواق. كما أن هذا البروز يشكل سقفاً للممر الأرضي ولكن دون أعمدة. وهي حالة فريدة غير معروفة بالبيوت البغدادية التقليدية يعبر عن تطور العمارة البغدادية في زمن بناء القصر.

كما توجد طارمة فريدة في الفناء الداخلي حيث يستند السقف على أعمدة من الرخام المنحوت بدقة. وتبلغ الزخرفة ذروتها في تاج العمود المنحوت في زخارف تشابه أعمدة معابد الحضر والرومان واليونان. إن استخدام الرخام نادر في البيت البغدادي لأنه ليس من المواد الانشائية للبيئة المحلية مثل الطابوق والخشب والجص والحديد. فهو عادة يستخدم في الأبنية والمعابد في شمال العراق في نينوى خاصة في الأبنية الآشورية القديمة. وربما تم جلب هذه الأعمدة من هناك وتركيبها في بيت الخضيري.

القصر بقسميه تحفة معمارية فريدة تستحق الاهتمام والدراسة . وحسناً فعلت إدارة نقابة الفنانين في ترميم وتأهيل المبنى بشكل أنيق وجميل والمحافظة على أصالة العمارة البغدادية.

نقابة الفنانين العراقيين
نقابة الفنانين العراقيين مؤسسة مجتمعية ، مهنية ، ثقافية ، غير ربحية وغير حكومية. تأسست عام ١٩٦٩ وتتمتع بالشخصية المعنوية ولها فروع في محافظات العراق عدا كردستان.
تتولى رعاية الفنانين وتقديم الخدمات والمساعدة . كما تحتضن النشاطات الفنية سواء داخل مبنى النقابة أو خارجه. كما تشارك في مراسم توديع وتشييع الفنانين العراقيين.
 تتكون النقابة من النقيب. رئيس مجلس النقابة وثمانية أعضاء في المجلس المركزي عضوين من كل اختصاص وفيها أربعة شعب متخصصة :1) شعبة الفنون المسرحية والإذاعية؛ 2) شعبة الفنون السينمائية والتلفزيونية؛ 3) شعبة الفنون الموسيقية؛ 4) شعبة الفنون التشكيلية. وفي كل شعبة خمسة أعضاء منتخبين وتتكون الشعبة من رئيس ونائب وسكرتير وعضوين. كذلك الحال بالنسبة لفروع النقابة في المحافظات وهي نفس تكوين الشعب وصلاحياتها.

المصادر
-علي مدلول الوائلي (شركة بيت لينج) الأسرة والبدايات في العراق ، ملاحق المدى في ١٥ مايس ٢٠٢١
-علي ظريف الأعظمي ( قصور بغداد زمان ) في موقع هنداوي
-طارق حرب (بغداد وخاناتها قبل أربعة قرون) في موقع الأنطولوجيا بتاريخ ١٩ آب ٢٠٢١
-إيناس سعدي عبد الله (شركة الهند الشرقية البريطانية ونفوذها في العراق) في (تاريخ العراق الحديث ١٢٥٨- ١٩١٨ ، صفحات ٤٠٠ – ٤٠٣
-ديفيد وودبريدج (المقيمية البريطانية في بغداد) في ٣٠ أيلول ٢٠٢٢
-صلاح سليم علي (العراق في خارطة مصالح شركة الهند الشرقية البريطانية في القرن التاسع عشر) في ملاحق المدى بتاريح ٩ تشرين الثاني ٢٠١٤

أخر الأخبار