• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

الندوات الفكرية والسياسية في المهجر الهولندي

الندوات الفكرية والسياسية في المهجر الهولندي

  • 21-07-2020, 12:29
  • مقالات
  • 618 مشاهدة
د. صلاح عبد الرزاق

 

خلال الفترة 1998 – 2002 جرت في هولندا تجربة رائعة جمعت عدداً من الشخصيات الأكاديمية والثقافية والاعلامية والفنية العراقية من كل القوميات والأديان والمذاهب ، يناقشون قضية فكرية معينة أو حدثاً سياسياً عراقياً ، بكل حرية وانفتاح ، وأجواء من الحب والاحترام ، قبل أن تفرقهم السياسة بعد سقوط النظام وتشتت المجموعة أو باعدت بينهم المسافات أو انشغلوا بهموم الحياة . فبعضهم عاد إلى العراق وشارك في الحياة السياسية ، فصار وزيراً أو نائباً أو محافظاً أو وكيل وزارة أو مستشاراً أو دبلوماسياً أو رئيس جامعة أو عميد كلية أو مدير عام أو ضابطاً مرموقاً أو عاد موظفاً في دائرته السابقة. وقسم رحل إلى ربه ، وآخر فضّل البقاء في المهجر الهولندي. 

كنت أقوم بتدوين تلك اللقاءات لأنني أعرف أن الزمن سيطويها فتنسى أو ربما يجري تشويه مرحلة المعارضة العراقية وأشخاصها، خاصة وأن الكثيرين لا يعرف عنها شيئاً. 

خلفية اللقاءات الفكرية

كانت الأجواء الثقافية والفكرية منفتحة في هولندا بسبب الثقافة الغربية والنظام الديمقراطي والتقاليد الاجتماعية التي تحترم الآخر وفكره وعاداته ومعتقداته. كما أنه لا تخلو قرية هولندية من نشاط ثقافي أو فني أو احتفالي أو رياضي أو مدرسي . كما لا تخلو أية مدينة من ندوة أو مؤتمر أو مهرجان أو كرنفال أو لقاء في الجوانب الثقافية والفكرية والأكاديمية والسياسية والفنية وغيرها. هذه الأجواء المنفتحة واحترام الآخر جعلت المثقفين العراقيين يتشجعون في عرض أفكارهم وقناعاتهم في شتى القضايا الثقافية والفكرية والسياسية.

 وبعدما كانت هناك فجوات نفسية وسياسية وأيديولوجية تمنع تواصل المثقفين العراقيين المنتمين لتيارات مختلفة من اللقاء مع بعضهم. في حين كان من الطبيعي أن يتواصل أفراد من التيار نفسه مع بعضهم البعض. فالإسلاميون يجتمعون في جمعياتهم واحتفالاتهم ومنظماتهم، والقوميون أو الكرد أو الشيوعيون كل منهم منكفئ على الحلقات والتجمعات الخاصة بهم. وقد يلتقي بعض العلمانيين كالقوميين أو الليبراليين مع بعضهم، لكن لم يلتق الإسلاميون والعلمانيون مع بعضهم إلا نادراً.

وكانت البداية هي صداقات فردية في ظروف معينة جمعت الغربة بعض الإسلاميين والعلمانيين سواء في العمل أو الجيرة في السكن أو في القرية أو في مدرسة اللغة أو غيرها من الصدف الاجتماعية.

على أية حال جمعتنا بعض المناسبات الثقافية والسياسية مع شخصيات من تيارات أخرى. وحدثت نقاشات وتبادل آراء وخاصة القضايا المشتركة كمعارضة النظام . 

 ملتقى الاتجاهات السياسية

من خلال النشاطات واللقاءات نشأت علاقات بيننا وبين كثير من المثقفين والسياسيين العراقيين من مختلف التوجهات السياسية والأيديولوجية . وبدلاً من التردد والشكوك من الآخر المختلف سياسياً، تعززت صداقات وعلاقات مبنية على التفاهم والاحترام المشترك. وبهدف مناقشة عقد ندوات متواصلة تتناول مختلف القضايا السياسية العراقية، اجتمعنا لأول مرة في منزلي بحضور شخصيات علمانية مثل الدكتور علي كريم (قومي عربي)، والدكتور حامد الصراف (شيوعي)، والدكتور علي إبراهيم (شيوعي)، إضافة إلى شخصيات إسلامية مثل الأخ محمد ناصر العلي وخلف عبد الصمد.

كان أغلب الأخوة الإسلاميين غير مؤيدين لفكرة الاجتماع أو الانفتاح على العلمانيين من الحزب الشيوعي وحزب البعث (جناح سوريا) والليبراليين. فقد اعترض الأخ خلف على حضور من ينتمون إلى حزب البعث رغم أنهم معارضون لنظام صدام. وكان يقول: كيف أجلس مع جلادي وقضيت عشر سنوات في السجن؟ بقينا أنا ومحمد ناصر ثم انضم إلينا ضياء الشكرجي الذي كان مقيماً في ألمانيا.  

تم الاتفاق على استضافة الملتقى في منزل من يريد ، وكل مرة في مدينة، على أن يتم تحديد محور الملتقى وإبلاغ الآخرين به . وتم عقد أكثر من عشرة ملتقيات سلط فيها الضوء على أحداث وقضايا سياسية من المشهد العراقي وتاريخ العراق.

لقد خلق ملتقى الاتجاهات ثقة متبادلة بين أطراف المعارضة العراقية، وأزال الحواجز النفسية التي كانت تمنع اللقاء بالآخر ، إضافة إلى تعزيز التفاهم من خلال فهم وجهات النظر المختلفة، والتخلص من حالة الأحكام المسبقة التي رافقت الطرفين الإسلامي والعلماني.

وكانت الندوات تخلق حواراً فكرياً عالياً ، وبعضها تطور وصار فكرة لكتاب صدر فيما بعد ، أو مقال أو دراسة نشرت في الصحف والمجلات الدورية.

1-         ندوة إسلامية المعرفة

في 4 كانون الأول 1998 عقدنا أول ندوة فكرية لملتقى الاتجاهات السياسية وكانت بعنوان (إسلامية المعرفة) . كان المتحدث فيها هو الدكتور علي كريم سعيد (رحمه الله) و شاركت فيها مع مجموعة من الأكاديميين والباحثين والمثقفين منهم د. حامد الصراف،  د. علي إبراهيم (حالياً أستاذ في جامعة بابل)، د. سلمان شمسة (رحمه الله)، محمد ناصر العلي، د. أبو أحمد الحسني (طبيب)، شهيد مطر الزيادي (صار نائباً للفترة 2006-2010)، سعيد الإدريسي وأحمد المؤذن (وهما أكاديميان مغربيان في بلجيكا) . وقد تحدثتُ في الندوة وذكرتُ:

إن إسلامية المعرفة يراد بها تفكيك الانجازات العلمية والحضارية عن المنظومة القيمية والمفاهيم الفلسفية اللادينية والالحادية التي اعتمدتها كمعطيات أولية لبناء تلك النظريات أو التفسيرات العلمية للعديد من القضايا. وبعد تفكيكها يجري إعادة تجميعها وربطها بإطار قيمي إسلامي كي تنسجم مع الأطروحة الإسلامية فكرياً وفلسفياً وعقائدياً. وضربت مثلاً بأنه لا يمكن قبول النتائج التي توصل إليها داروين في نظرية (أصل الأنواع) أو فرويد في (التحليل النفسي) وهي مبنية على افتراضات ومعطيات غير متوفرة في مجتمعاتنا ، ولا تنسجم مع متبنياتنا الفكرية والفلسفية. فعليه لا يمكن تبنيها ضمن الأطروحة الإسلامية ، بل إبعاد الجانب القيمي والمفاهيمي الغربي والمادي أوالمسيحي. ثم أخذ الإنجاز العلمي والحضاري وحده وربطه بالمنظومة القيمية الإسلامية.

وقد تحدثتُ عن تجربتي في أطروحة الدكتوراه عندما تناولت النظريات الغربية في تفسير ظاهرة اعتناق الإسلام من قبل الغربيين. إذ تركز النظريات الغربية على الدوافع النفسية والمرضية والسلوكية كأساس في دفع الفرد إلى ترك المسيحية أو اليهودية واعتناق الإسلام ، وتستبعد الجانب العقائدي بالمرة مع أن محور تغيير الديانة هو الدين والعقيدة. ويعود ذلك إلى أن بعض الباحثين يرفض فكرة وضع دياناتهم المسيحية أو اليهودية في موضع الشك بحيث يتركها أتباعها ويعتنقون الإسلام. وقسم آخر ذو خلفية مادية تنكر تأثير الدين والإيمان ، فلذلك يرفض فكرة التحول العقائدي بل يبقى يبحث عن سبب مادي أو نفسي أو اجتماعي ليبرر تحول الفرد الغربي من دينه.

 وكان بعض الحضور يرفض أسلمة العلم لأن العلم يفترض أنه بعيد عن الأيديولوجيا. ولا يمكن القول بمسيحية أو بوذية المعرفة. فقلت: لقد أوضحت طبيعة العلاقة بين العلم والأيديولوجيا ، فأحياناً قد تكون بلا قصد لكن العوامل الثقافية والفكرية تؤثر في تفسير أو استنتاج رأي علمي مبني على مجموعة عوامل اجتماعية.

2-         ندوة ملامح الشخصية العراقية

عقدت الندوة الثانية بتاريخ 30 كانون الثاني 1999 في مدينة لاهاي. وكنتُ المتحدث فيها  كما شارك فيها مجموعة من المثقفين من بينهم المرحوم الدكتور سلمان شمسه، محمد ناصر العلي، محمد عباس (ألمانيا) ، زيد وتوت، وأبو سجاد وتوت ، أبو أحمد الحسناوي، د. علي كريم، ود. فؤاد حسين (صار وزيراً للمالية عام 2018 ووزيراً للخارجية عام 2020).

 ابتدأتُ الحديث بتقديم قراءة لكتاب (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي للدكتور علي الوردي. وقد سلطت الضوء على كتابات الوردي ومشروعه في دراسة الواقع الاجتماعي العراقي، والعوائق والصعوبات التي واجهها في دراساته. كما أشرت إلى الموضوعية والواقعية في عرضه نظرياته بعيداً عن منهج الوعظ والإنشاء والخطابات. كما أشرت إلى أن الكثير من أفكار الوردي هي بمثابة إعادة إنتاج لنظريات غربية جاء بها باحثون وأكاديميون ورحالة ومستشرقون.

وعرضتُ نظرية الوردي في تحليل الشخصية العراقية وفرضياته الثلاث التي تتشكل منها هذه النظريات وهي:

1-         ازدواج الشخصية

2-         التناشز الاجتماعي

3-         صراع البداوة والحضارة.

بعدها تطرقتُ إلى التقسيمات الجغرافية-الحضارية للمجتمع العربي كما تصورها الوردي في بداية الستينيات من القرن العشرين.وعلقت بأن هذا التصنيف قد مضى عليه نصف قرن ، تغيرت فيه ملامح الدول من ناحية أنظمتها الاجتماعية وأنماط حياتها الفكرية والسياسية والاقتصادية، إضافة إلى عدم شمول بعض البلدان العربية بذلك التصنيف إما لنسيانها أو أنها لم تكن موجودة كدول مستقلة آنذاك مثل دول الخليج. ودعوت إلى إعادة النظر وتقييم جديد مبني على الواقع الحالي للمنطقة العربية.

وتناولتُ صفات الشخصية البدوية ومحدداتها الثقافية والسلوكية ، وكذلك مكونات الشخصية في الريف والوضع الاجتماعي في المدن وطبيعة الصراع الاجتماعي بين القيم البدوية الموروثة والتي تمثل نسقاً للقيم المثلى، وبين الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يضغط على الشخصية ويؤدي إلى تخليها عن أو تناقضها مع تلك القيم، فيحدث صراع حاد داخل الشخصية.

وحول التقسيم الثقافي والحضاري لمناطق العراق كما تصوره الوردي حين قال أن منطقتي ديالى والبصرة هما الأكثر تحضراً بسبب حالة الاستقرار التي كانت عليها نتيجة الازدهار الزراعي فيها، قلت: تبدو هناك حاجة إلى مراجعة هذا التقسيم بسبب ما أصاب العراق من تغييرات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية جراء سياسة النظام العراقي طوال الثلاثين عاماً الماضية، وما سببته من آثار سلبية على الشخصية العراقية ونمطها الحضاري. وأكدت على أن الحروب والتهجير وقصف المدن وإزالة العديد من القرى وسياسة الحصار والتجويع وتجفيف الأهوار أدت إلى كوارث بشرية واقتصادية وبيئية، مما زعزع الشخصية العراقية التي بقيت تعيش في ظل الخوف والرعب وحالة اللااستقرار الدائم.

وحول ظاهرة الازدواجية في الشخصية العراقية فأكدت أنها ظاهرة اجتماعية موجودة في كثير من المجتمعات مثل مصر وإيران ، ولكن تختلف شدتها بين مجتمع وآخر ، ومن فرد إلى آخر داخل نفس المجتمع.

أما النزعة الجدلية في الشخصية العراقية فهي تعود إلى أسباب تاريخية منذ عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، وعهود الظلم في العصور الأموية والعباسية والعثمانية. وهناك اسباب سياسية بسبب استمرار الحكومات المتعاقبة على حكم العراق بترديد شعارات العدالة والحرية والمساواة في حين تتناقض ممارساتها على أرض الواقع مع تلك المقولات.  

3-         ندوة الديمقراطية والشورى

عقدت الندوة الثالثة لملتقى الاتجاهات في آذار 1999 في مدينة روتردام . كان المتحدث فيها الدكتور حامد الصراف ، وشارك فيها مجموعة من المثقفين من بينهم د. سلمان شمسة، أبو ياسر زنكي، عباس الخزعلي، ضياء الشكرجي، محمد ناصر العلي.

تحدث د. حامد الصراف (يساري) فقال: إن واقع العراق والحالة الدكتاتورية التي يعيشها وتأثيراتها، حتى صار الشائع بين الأوساط العراقية بأن الذي يطالب بالديمقراطية إما شيوعي أو ماركسي أو يساري، على حد تعبيره. ثم تناول تعريف الديمقراطية بأنها حكم الشعب، وأضاف: إن الديمقراطية تقوم على 1- من يشارك في وضع القرار 2- كم من الأصوات تحتاج 3- كيفية توزيع الأصوات.

وأضاف الصراف: هناك تصور عن الشعب العراقي يشير إلى أنه شعب قاسٍ ولا يعرف الرأي الآخر، وهذا غير صحيح. فالجاحظ يقول: إن العراقيين أهل نظر وفطنة . وفي الإسلام ظهر الاختلاف في الرأي ونشوء المذاهب في العراق. وهذا دليل على جو ديمقراطي. والقرآن الكريم ذكر خطاب (يا أيها الناس) 25 مرة. وهذا الخطاب خطاب شمولي لا يختص بطائفة أو قومية أو المؤمنين، وإنما يشمل جميع الناس.

وذكر الصراف أن العرب أطلقوا كلمة إنسان لأنه يأنس بغيره من البشر، أي الأنس والاستئناس . ثم قارن بمقولة المفكر هوبس Hopes الذي قال (الإنسان ذئب الإنسان).

وفي مداخلة لي أشرت إلى جذور فكرة البرلمان والدستور في الفكر السياسي الإسلامي الشيعي. وان علماء ومراجع الشيعة أول من نادى بها في المنطقة والعراق ابتداءً من ثورة الدستور 1905 في إيران إلى ثورة العشرين 1920 في العراق.

ثم تناولت مساهمات علماء الشيعة في بداية القرن العشرين في بلورة فكر سياسي إصلاحي يتمثل بالحل الديمقراطي من خلال المطالبة بتدوين دستور دائم تحدد فيه صلاحيات الحكومة والحاكم ، ومجلس تشريعي (برلمان) يتم انتخابه مباشرة من قبل أبناء الشعب بشكل مباشر .

أخر الأخبار