خور عبد الله.. عقدة تاريخية تتجدد بين العراق والكويت
"Today News": متابعة
لا تكاد تهدأ العلاقات العراقية الكويتية حتى تعود التوترات إلى الواجهة من جديد. وآخر فصول هذا التوتر يتمثل في قضية الملاحة في خور عبد الله، التي أعادت تحريك المياه الراكدة بعد أن قدم كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء العراقيين طلبين منفصلين إلى المحكمة الاتحادية لإعادة النظر بقرارها الصادر في 4 أيلول 2023، والذي قضى بعدم دستورية المصادقة البرلمانية على معاهدة حرية الملاحة الموقعة بين العراق والكويت عام 2013.
هذه القضية ليست مجرد خلاف قانوني أو نزاع حدودي تقني، بل تمثل امتدادًا لتعقيدات تاريخية طويلة بين البلدين، تبدأ من صراع الحدود، مرورًا بالغزو العراقي للكويت عام 1990، وما تلاه من قرارات أممية قسمت الحدود بطريقة أثارت ولا تزال تثير جدلاً داخل العراق، وصولاً إلى التنافس الحالي على المنافذ البحرية والمشاريع الاقتصادية الكبرى.
خلفية تاريخية: علاقة مضطربة وجراح لم تندمل
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن العشرين، كانت العلاقة مع الكويت تحمل طابعًا معقدًا. ففي الوقت الذي كانت فيه الكويت محمية بريطانية، كان العراق ينظر إليها باعتبارها جزءًا من امتداده الطبيعي نحو الخليج. وقد بدأت هذه الإشكالية منذ عام 1899، حين وقّع الشيخ مبارك الصباح معاهدة حماية مع بريطانيا العظمى، كانت بموجبها الكويت تحت الحماية البريطانية، مقابل التزامها بعدم الدخول في أي اتفاقيات دولية دون إذن بريطانيا.
هذه المعاهدة، التي حيّدت الكويت من صراعات الدولة العثمانية والإقليمية، أثارت حساسية مستمرة لدى الحكومات العراقية المتعاقبة. إذ اعتُبرت خطوة فاصلة فصلت بين العراق وامتداده البحري الطبيعي، ورسّخت من وجهة نظر عراقية واقعًا سياسيًا وجغرافيًا غير منصف.
وكان الملك غازي أول من عبّر رسميًا عن هذا التوجه، حين طالب بضم الكويت إلى العراق، وهي المطالبة التي ستتحول إلى جزء من خطاب الهوية السياسية في العراق. وسار على خطاه الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي أعلن ضم الكويت عام 1961، مدفوعًا بذات الرؤية القومية. ثم جاء صدام حسين ليعيد إنتاج نفس الخطاب عام 1990، لكن هذه المرة عبر الاجتياح العسكري، ما جرّ على العراق دمارًا سياسيًا واقتصاديًا وعزلة خانقة استمرت لعقود.
بعد الغزو، فرض مجلس الأمن ترسيمًا للحدود عبر قراره رقم 833 لسنة 1993، رُسم تحت طائلة التهديد والضغوط، وأدى إلى خسارة العراق مساحات من أراضيه ومياهه، شملت خور عبد الله الذي قُسم رغم كونه المنفذ البحري الأهم للعراق.
خور عبد الله: المنفذ البحري المهدد
خور عبد الله يشكل شريان العراق البحري نحو الخليج، إذ يربط موانئه الحيوية، وعلى رأسها ميناء أم قصر، بالعالم. وعلى الرغم من قبول العراق رسميًا بترسيم الحدود، إلا أن الشعور الشعبي ظل يعتبر تلك القرارات مجحفة، خصوصًا أن السياق الذي تمت فيه لم يكن متكافئًا.
وفي 2013، وقّع العراق مع الكويت معاهدة لتنظيم الملاحة في الخور، لكنها لم تُصادق عليها المؤسسة التشريعية وفقًا للضوابط الدستورية، إذ مرت بأغلبية بسيطة، بينما كانت تتطلب أغلبية الثلثين. هذا الخلل الإجرائي دفع المحكمة الاتحادية لاحقًا إلى إلغاء المصادقة عليها.
الكويت.. بين الطموحات البحرية والسياسات الضاغطة
بموازاة هذا، بدأت الكويت تنفيذ مشروع “ميناء مبارك الكبير”، على بعد كيلومترين فقط من الأراضي العراقية، في خطوة فُسرت بأنها تهدف لخنق مشروع ميناء الفاو الكبير، ومبادرة “القناة الجافة” التي يعوّل العراق عليها للخروج من التبعية الاقتصادية.
ولم يقتصر الأمر على الموانئ، بل اتُهمت الكويت بمحاولات مشبوهة لتوسيع مياهها الإقليمية، عبر اعتماد مرتفعات رملية مثل “فيشت العيج” كجزر وفق تأويلات مشكوك بصحتها من القانون الدولي، بما يسمح بامتداد الحدود البحرية بشكل يضيّق على العراق عمليًا.
الفساد والامتيازات: البوابة الكويتية إلى بغداد
وإن كانت الأنظمة السابقة قد تعاملت مع ملف الكويت بصيغة حادة، فإن ما بعد 2003 اتسم بلغة أكثر ليونة. وهذا لم يكن فقط نتاج الرغبة في تصفير المشاكل أو الخروج من الفصل السابع، بل أيضًا بسبب عامل آخر أكثر خطورة: الفساد.
لقد أدركت الكويت – كما يلاحظ كثير من المراقبين – أن الطريق الأسهل للتأثير على القرار العراقي لا يمر عبر الضغوط الأممية كما في الماضي، بل عبر شراء الولاءات وتقديم الامتيازات والمنافع لعدد من السياسيين العراقيين، سواء على شكل صفقات أو هدايا أو تسهيلات مالية. وهكذا تحولت ملفات سيادية خطيرة إلى أوراق للمساومة داخل دهاليز السياسة العراقية، وجرى اختزالها إلى أرقام في عقود أو تصريحات إعلامية جوفاء.
العراق بعد الفصل السابع: قوة تفاوضية جديدة
اليوم، وبعد أن خرج العراق من طائلة الفصل السابع، لم يعد مجبرًا على الخضوع لما يُفرض عليه، بل بات يمتلك قدرة تفاوضية وسيادية أفضل. ومن هنا، فإن الدعوات تتزايد للتمسك بقرار المحكمة الاتحادية وعدم إعادة إحياء معاهدة ثبت بطلانها دستوريًا، خاصة وأنها لا تدخل ضمن الالتزامات الأممية الملزمة.
وإذا ما بادرت الكويت إلى رفع دعاوى ضد العراق، فبإمكان الأخير أن يقدم دفوعات قانونية قوية، ويثبت أن المعاهدة المعنية لم تُجز وفقًا للأصول، فضلًا عن أنها لم تكن ضمن التزامات ما بعد 1990، بل جاءت في لحظة ضعف سياسي استغلها الجانب الكويتي بدهاء.
مسؤولية الحكومة العراقية: سيادة لا تُشترى
إن حكومة بغداد اليوم مطالبة بإدارة هذا الملف بحزم ومسؤولية، وألا تسمح بأن تتحول مصالح العراق العليا إلى ضحية لحسابات ضيقة أو فساد ناعم. فالمطالبة بحقوق العراق، خصوصًا في ما يتعلق بمنافذه البحرية وموانئه، ليست نداءً شعبويًا أو نزعة توسعية، بل دفاع عن حق وجودي وسيادي.
ويجب على العراق أن يطرح هذه القضية في المحافل الإقليمية والدولية، لا بل في القمم العربية المقبلة، لكن من موقع الضحية لا الجاني، ومن موقع القانون لا التهديد. ولعل العودة إلى المعاهدات التي أُبرمت في لحظات اختلال الموازين تكشف أن كثيرًا من حقوق العراق تم التنازل عنها دون سند قوي، ويجب إعادة فتح هذه الملفات بعين السيادة والمصلحة الوطنية.
خاتمة
قضية خور عبد الله ليست تفصيلًا تقنيًا ولا نزاعًا مؤقتًا، بل هي مرآة تعكس عمق الإشكال في العلاقة العراقية الكويتية منذ عقود. وهي امتحان لسيادة العراق ولصدق الإرادة السياسية في تجاوز مرحلة التبعية والتنازلات غير المبررة.
ولذلك، فإن التعاطي معها يجب أن يكون بعقل بارد وإرادة صلبة، تُجيد التفريق بين حسن الجوار والاستسلام، وبين الدبلوماسية والرشوة. فسيادة العراق لا تُشترى، ومنافذه لا تُهدى، والمياه الإقليمية ليست مساحة للمساومات بل شريان سيادة لا يقبل التمدد أو الانكماش حسب مزاج الجغرافيا السياسية.
3-05-2025, 13:31 المدنيون مستمرون بالنزوح من صحنايا وجرمانا بريف دمشق
اليوم, 15:15 خور عبد الله.. عقدة تاريخية تتجدد بين العراق والكويت
كريم محسن29-04-2025, 23:13 مقترح تحويل الوزارات الحكومية الى أهلية
هادي جلو مرعي28-04-2025, 15:10 ميلاده المشؤوم وصمة عار في جبين كل بعثي
د. عطور الموسوي22-04-2025, 12:58 الإصلاح بالوعي العلمي والعقلي والالتزام العقائدي
وليد الحلي