وسط ضباب سياسي كثيف يخيّم على طهران، وفي لحظة تتقاطع فيها أزمات الداخل مع التحولات الإقليمية المتسارعة، يعود علي لاريجاني إلى واجهة القرار بعد عقد من الغياب.
الرجل الذي كان يومًا مهندس التفاهمات النووية ومعبّر المؤسسة عن براغماتيتها، وجد نفسه مجددًا في صدارة المشهد، بعدما عيّنه الرئيس مسعود بزشكيان في آب 2025 أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للأمن القومي، الهيئة التي تُمسك بمفاتيح الملفات الأخطر في البلاد، من النووي إلى السياسة الإقليمية وقرارات الحرب والسلم.
تفسير العودة يتجاوز البعد الإداري إلى ما هو أعمق، فهو يعكس إعادة ترسيم لتوازن القوى داخل النظام الإيراني بين جناح متشدد يفضّل المواجهة، وآخر براغماتي يسعى لإدارة الصراع بهدوء. وتُقرأ هذه العودة كإشارة إلى مرحلة مقبلة قد تتأرجح بين التصعيد والانضباط، وبين محاولة استعادة النفوذ الذي تراجع منذ حرب غزة في السابع من تشرين الأول 2023، وإعادة إنتاج خطاب القوة الإيرانية بلغة أكثر عقلانية وأقل صخبًا.
إعادة تعيينه تزامنت مع سردية رسمية عن "تصحيح بوصلة الأمن القومي" بعد الحرب الأخيرة، وتقليص نفوذ الوجوه الأكثر تشددًا في إدارة الملفات الحساسة. كما أن الرسالة إلى الداخل تعني الحاجة إلى "مدير أزمة متمرّس"، وإلى الخارج تعني أن "قنوات التفاوض لا تزال مفتوحة دون التخلّي عن الخطوط الحمراء".
رجل في نظام
رغم أن القرار الرسمي صدر بتوقيع الرئيس مسعود بزشكيان، فإن مؤشرات عديدة داخل طهران تُظهر أن المرشد الأعلى علي خامنئي كان صاحب الكلمة المرجِّحة في إعادة لاريجاني إلى موقعه الجديد.
فالموقع الحساس للأمانة العامة للمجلس الأعلى للأمن القومي لا يُحسم دون موافقة القيادة العليا، ولاريجاني ما زال يُعدّ من مستشاري المرشد المقربين الذين يُستدعون عند المنعطفات الدقيقة.
وراء هذه العودة يقف سجل طويل لرجل لم يغب فعليًا عن مؤسسات الدولة، وإن غاب عن عناوينها. ينتمي لاريجاني إلى طبقة "رجال الدولة" المقربين من الرشد، ومن الذين لا يُستبعدون نهائيًا في الجمهورية الإسلامية. كلما تبدلت الموازين يُستعاد وجهٌ قديم لمرحلة جديدة.سيرته متعرجة بين المؤسستين العسكرية والسياسية، إذ بدأ في الحرس الثوري إبّان الحرب مع العراق، ثم تدرّج إداريًا وإعلاميًا حتى وصل إلى رئاسة البرلمان لعقد ونيّف.التعيين الجديد جاء بعد جولة تصعيد عسكري استمرت 12 يومًا بين إيران وإسرائيل، وما أعقبها من إعادة هيكلة للمؤسسة الأمنية، تضمنت إحياء "مجلس الدفاع" بصيغة محدثة لتوحيد القرار العسكري داخل الدولة.
قبل سنوات، كان لاريجاني الاسم الأبرز في البرلمان والملف النووي والإعلام الرسمي، لكنه بعد انتهاء ولايته الطويلة في رئاسة البرلمان عام 2020 وجد نفسه على الهامش، ثم استُبعد مرتين من سباقات الرئاسة بقرار من مجلس صيانة الدستور من دون تفسير علني.
منذ انخراطه في الحرس الثوري عقب الثورة، بنى شبكة نفوذ داخل مؤسسات الدولة الحساسة من الجيش إلى الإعلام ثم السياسة، وهو من القلائل الذين جمعوا بين الشرعية الدينية والعسكرية والفكرية، فوالده من كبار علماء قم، وهو حاصل على دكتوراه في الفلسفة الغربية.
قاد هيئة الإذاعة والتلفزيون في التسعينيات، ثم أمانة مجلس الأمن القومي خلال عهد أحمدي نجاد، وكان المفاوض النووي الرئيسي بين 2005 و2007 قبل أن يستقيل بسبب خلافات حول أسلوب التعامل مع الغرب. لاحقًا، وبصفته رئيسًا للبرلمان، لعب دورًا محوريًا في تمرير الاتفاق النووي عام 2015، ما جعله في نظر المتشددين رمزًا للانفتاح "الذي ذهب أبعد مما يجب".
لماذا يعود الآن؟
يرى مراقبون من طهران، أن النظام الإيراني لا يعاني من أزمة شرعية بقدر ما يواجه أزمة إدارة معقّدة، ويحتاج إلى شخصيات خبيرة قادرة على التحدث بلغة الحرس الثوري من جهة، وبالمنطق الدبلوماسي مع الغرب من جهة أخرى.كما الرسالة من تعيين لاريجاني مزدوجة بين طمأنة الداخل بأن المؤسسة لا تفقد قبضتها، وطمأنة الخارج بأن إيران لا تبحث عن حرب شاملة.
بالمجمل فإن لاريجاني لا يمكن تصنيفه بسهولة ضمن معسكر "الحمائم" أو "الصقور"، إذ يؤمن بـ"السلام من موقع القوة"، ويكرر أن طهران لن تتخلى عن برنامجها النووي ولا عن دعم حلفائها، لكنها تسعى إلى تثبيت الردع لا إشعال المواجهة.
حيث أن خطابه الحالي يجمع بين البرود الاستراتيجي والرمزية الثورية، فعندما لوّح الغرب بإعادة فرض العقوبات ردّ بأن إيران "قد تعيد النظر في التزاماتها بمعاهدة حظر الانتشار النووي"، لكنه أضاف أن "الدبلوماسية هي الطريق الأمثل لتجنّب الصدام".
فمنذ تسلّمه المنصب، تحرك لاريجاني في ملفات حساسة، فزار بغداد لتنسيق التعاون الأمني بعد التوترات الحدودية، ثم بيروت حيث أكد أن "إيران تحتاج إلى حزب الله بقدر ما يحتاج حزب الله إلى إيران"، في عبارة فسّرها البعض بأنها استعادة للغة قديمة بلمسة دبلوماسية جديدة.
في بيروت أيضًا، أطلق تصريحات تُعبّر عن ثبات النهج الإيراني تجاه "محور المقاومة"، رافضًا أيّ طرح لنزع سلاح حزب الله، لكنه حرص في المقابل على التهدئة مع الحكومة اللبنانية بتأكيد احترام "السيادة اللبنانية" وضرورة حلّ القضايا بالحوار الداخلي.
التناقض الظاهر في خطابه يعكس ما يمكن تسميته بـ"الواقعية الثورية"، إذ تحاول طهران الحفاظ على حلفائها من دون إثارة مواجهة إقليمية شاملة في توقيت اقتصادي هش.
بالنسبة للنخبة الإيرانية، عودة لاريجاني ليست حدثًا بروتوكوليًا بل تحولًا سياسيًا مدروسًا، يشير إلى رغبة القيادة في استعادة توازن داخلي وإدارة أكثر مرونة.
من موقعه الجديد يبدو لاريجاني مهندس المرحلة المقبلة، الرجل الذي يرمم الجسور في الداخل ويعيد ترتيب الاصطفافات في الخارج، في لحظة تتطلب إعادة ترميم صورة إيران بعد خسائر غزة وضغوط العقوبات.
عودة لاريجاني ليست استعادة لوجه قديم بقدر ما هي محاولة لإنقاذ النظام من تشدده، وإعادة صياغة النفوذ الإيراني بوسائل أكثر حذرًا ودهاءً، حيث تُدار الحرب بالتصريحات وتُخاض السياسة بصمت محسوب ينتظر لحظة الانفجار التالية.
المصدر : شفق نيوز