• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

أزمة النخبة البرلمانية في العراق .. بين مسؤولية التشريع وضياع الكفاءة

أزمة النخبة البرلمانية في العراق .. بين مسؤولية التشريع وضياع الكفاءة

  • اليوم, 12:40
  • مقالات
  • 43 مشاهدة
د.محمد عصمت البياتي

"Today News": بغداد 

إن التشريع والرقابة ليسا مجرد صلاحيات شكلية يمنحها الدستور للبرلمان، بل هما جوهر الدولة وروحها، والميزان الذي يُقاس به استقرار الأوطان ورسوخ مؤسساتها. فالتشريع هو الذي يضع القوانين الكفيلة بحماية الحقوق وصون الحريات، والرقابة هي الحارس الأمين على المال العام وأداء الحكومات. غير أن هذه المسؤوليات الجسيمة، التي تتطلب عقلاً راجحاً وخبرة عميقة ورؤية بعيدة المدى، تحولت في التجربة العراقية إلى منصبٍ يتسابق إليه من لا يملك الأهلية ولا الخبرة، بل أحياناً من لا يملك سوى الطموح الشخصي أو الولاء الحزبي.


لقد شهد العراق في سنواته الأخيرة صعود أعداد غير قليلة من النواب الذين لا تتوفر فيهم مقومات القيادة والتشريع، حتى صار مقعد البرلمان في نظر البعض بوابة وجاهة اجتماعية أو مطمعاً لمكاسب شخصية. هذا الانحدار في معايير الاختيار أوجد ظاهرة خطيرة، حيث يسعى الكثيرون للوصول إلى البرلمان وهم يدركون تماماً أن لا علم لديهم ولا قدرة على حمل المسؤولية الثقيلة، وكأن القضية لا تتعلق بمصير شعب ولا بمستقبل وطن.


إن أخطر ما في هذه الظاهرة ليس حضورها الراهن فحسب، بل ما تتركه من أثر عميق على مستقبل العراق السياسي. فالبرلمان الذي يفتقد إلى الكفاءة لن يكون قادراً على سنّ قوانين عادلة، ولا على مراقبة أداء السلطة التنفيذية بحزم. وفي ظل هذا الضعف، تتفاقم الملفات الأمنية والاقتصادية، وتظل الأزمات البيئية والخدمية بلا حلول جذرية، وتزداد الفجوة بين المواطن والدولة حتى يفقد الناس ثقتهم بالديمقراطية ذاتها. وما قيمة ديمقراطيةٍ تُفرز مؤسسات عاجزة عن القيام بأبسط واجباتها؟


غير أنّ الطريق إلى التصحيح ليس مستحيلاً. فإنتاج نخبة حقيقية من نواب الشعب يحتاج إلى إرادة سياسية صادقة، وإصلاح للقوانين الانتخابية بحيث تضع معايير صارمة للترشح وتغلق الأبواب أمام المال السياسي والنفوذ الضيق. كما يحتاج إلى وعي مجتمعي متنامٍ يدرك أن البرلمان ليس ميداناً للوجاهة ولا ساحة لتصفية الحسابات، بل هو مصنع القرارات المصيرية التي تحدد مصير البلاد.

وهنا يأتي دور الشعب العراقي. فالشعب هو المصدر الأول للسلطة، وهو الذي يملك الكلمة الفصل في تشكيل البرلمان. وإذا ظل المواطن يمنح صوته لمن لا يستحق، بدافع عشائري أو حزبي أو شخصي، فإن الدائرة المفرغة ستستمر، وستبقى الأزمات تتكاثر كالأمواج المتلاطمة بلا رادع. أما إذا نهض الشعب إلى مسؤوليته، ووقف موقفاً حازماً من الفاسدين والعاجزين، ومنح ثقته لأصحاب الكفاءة والنزاهة، فسيكون بذلك قد وضع أول لبنة في مسار الإصلاح الحقيقي.


إن العراق اليوم يقف على مفترق طرق: فإما أن يبقى أسيراً لبرلمان لا يملك من التشريع سوى اسمه، ولا من الرقابة سوى صوته، وإما أن يستعيد روحه عبر نخبة وطنية قادرة على مواجهة التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية والبيئية التي تحاصر البلاد. وما من قوةٍ قادرة على صنع هذا التحول سوى إرادة الشعب الواعي، وإصراره على أن يكون ممثلوه بحق "نواب الشعب"، لا نواب الأحزاب أو الطوائف أو المصالح الضيقة.

وفي النهاية، فإن إصلاح البرلمان ليس ترفاً سياسياً ولا مطلباً نخبوياً، بل هو ضرورة وجودية لبقاء العراق دولةً قادرة على الحياة، ولضمان مستقبل أجياله القادمة. والبرلمان الذي نريده ليس الذي يكتفي بالكلام والشعارات، بل الذي يترجم آلام الناس إلى قوانين، ومعاناتهم إلى حلول، وآمالهم إلى واقع ملموس. ذلك هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يعيد الثقة بالدولة، ويمنح العراق حقه في أن يعيش مستقراً كريماً وسط أمواج الأزمات.

أخر الأخبار