انتخابات العراق … من الصراع على السلطة إلى البناء التنموي (4)
"Today News": بغداد
يشير الإنفاق المالي الضخم على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في الدول الديمقراطية الراسخة – كالولايات المتحدة – إلى الكلفة الباهظة التي تتطلبها أدوات الإقناع والتأثير في الناخبين. فنظام التبرعات العلنية من الشركات الكبرى ورجال الأعمال وصغار المتبرعين، إلى جانب الموازنات الحزبية الضخمة، يشكّل المصدر الرئيس لذلك المال السياسي الهائل. وبذلك، تبدو عملية بناء هياكل السلطة هي الأغلى عالميًا، وتزداد كلفتها مع كل دورة انتخابية رئاسية أو برلمانية، تبعًا لتصاعد معدلات التضخم وحدّة التنافس السياسي والإعلامي.
هذا الارتفاع الهائل في الإنفاق يثير تساؤلات مشروعة حول الغاية من إنفاق المال بهذا الحجم، وجدواه العملية، والعائد المتوقع منه. والإجابة، بطبيعة الحال، ترتبط بطبيعة الثقافة السياسية الأمريكية وبنية النظام الانتخابي والحزبي، والقدرة المؤسسية على توظيف المال ضمن أطر قانونية محددة للتأثير على خيارات الناخبين.
حجم الاقتصاد الأمريكي، بصفته الأول عالميًا، ووجود شركات عملاقة ذات مصالح سياسية واستراتيجية، يجعلان من التمويل الانتخابي أداةً لتبادل المصالح بين رجال المال وصنّاع القرار. فالمساهمات المالية غالبًا ما تقابلها وعود سياسية أو تشريعية تصب في مصلحة الممولين. هذه العلاقة المتبادلة تثير دهشة المراقبين، لكنها لا تفاجئ المواطن الأمريكي الذي تعوّد على هذا النمط من “الصفقات الديمقراطية” بوصفها جزءًا من قواعد اللعبة السياسية المعروفة والمفهومة.
أما في الديمقراطية العراقية الناشئة، فإن المشهد مختلف تمامًا. فحجم الإنفاق الانتخابي المتزايد مع كل دورة يثير قلقًا حقيقيًا حول طبيعة المال السياسي ومصادره. وتشير تقديرات المراقبين إلى أن انتخابات عام 2025 ستسجّل رقمًا قياسيًا في الإنفاق الانتخابي، إذ تتراوح الكلفة الإجمالية بين ستة إلى عشرة تريليونات دينار عراقي، وهو رقم غير مسبوق. هذا الإنفاق الضخم كشف عن تضخم دور المال السياسي، وعن صعود طبقة “الأوليغارشية الانتخابية” الجديدة التي راكمت ثروات هائلة في ظرف زمني قصير، وربطت المال بالسلطة في علاقة تبادلية خطرة.
السؤال الجوهري هنا: هل صار الوصول إلى كرسي السلطة غايةً في ذاته تستحق هذا الإنفاق الفاحش؟ أم أن التزاحم بين الزعامات والطموحات الشخصية يدفع بعض القوى إلى خوض سباق الإقصاء والإزاحة بأي ثمن؟ وكيف تُستعاد هذه الأموال بعد الفوز؟ هل يكون العائد من العقود والمقاولات والصفقات الحكومية كافيًا لتغطية ما أُنفق، في بلدٍ ما تزال الدولة فيه المهيمن الأكبر على الاقتصاد، وما زال الريع النفطي مصدر الثروة الأساس؟
إن خطر هذه المعادلة يكمن في تحوّل الانتخابات من وسيلةٍ للتداول السلمي للسلطة إلى آلية لتدوير المال السياسي والفساد. فحين يدخل رأس المال الفاسد في صلب العملية السياسية، تتراجع المعايير المهنية، وتضعف المؤسسات العامة، ويتحول الأداء الاقتصادي إلى رهينة مصالح الزعامات ومموليها. وهكذا يتكرّس الانطباع بأن السياسة طريق الثراء، لا وسيلة للبناء الوطني.
ومع ذلك، ومن أجل ألا نسقط في فخ العدمية والتعميم، يجدر بنا أن ننظر إلى النصف المملوء من الكأس. فالعراق يمتلك فرصة حقيقية لبناء مؤسسات سياسية راسخة تقوم على ثقافة اجتماعية بنّاءة، قادرة على تحويل العملية الانتخابية من صراع سلطوي إلى مشروع وطني للتنمية والإصلاح.
في مقالات سابقة أشرتُ إلى “الفقر البرامجي” و”نقص المناعة القيمية” في الممارسة الانتخابية، وإلى ضعف الثقافة السياسية لدى المواطن والمرشح على حد سواء. أما في هذه المقالة، فأركّز على محور واحد: كيف نجعل من الانتخابات ميدانًا لبناء ثقافة تنموية قائمة على منطق تحقيق الحلم العراقي؟
الحلم العراقي هو بناء دولة ناهضة، مزدهرة، قوية، يسودها القانون، ويشعر فيها المواطن بالأمن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. غير أن تحقيق هذا الحلم يتطلب رؤى واضحة تتبناها الأحزاب بخطط عملية واقعية، لا بخطابات عاطفية. معظم القوى المتنافسة اليوم لا تمتلك تصورًا لما بعد “اليوم التالي للانتخابات”، ولا لما بعد تشكيل الحكومة. فشعارات “الدولة القوية ذات السيادة” تبقى مجرد عناوين عامة ما لم تُترجم إلى برامج وخطط تستند إلى إمكانات العراق وواقعه الجيوسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
كثير من الخبراء يجادلون بأن الديمقراطية، بحد ذاتها، ليست شرطًا مسبقًا للتنمية، بل إن التنمية تنجح حين تتوافر مؤسسات تفكير وتخطيط وإدارة وتنفيذ عقلانية التكوين، علمية الأداء، وموضوعية التشخيص. ولهذا يؤكد فرانسيس فوكوياما في كتابه بناء الدولة على أن فعالية المؤسسات وقوتها هي حجر الزاوية في أي مشروع للنهوض الوطني واستدامة التطوير.
وفي غياب أحزاب برامجية تنموية، ونشوء أحزاب تكتنز المال وتبحث عن البقاء في السلطة، لن يتمكّن الناخب العراقي من الاختيار بين البرامج والمشاريع، بل بين الأسماء والصور والانتماءات. تتحوّل العملية الانتخابية إلى منافسة على “الولاء” لا على “الأداء”، وعلى “الهوية” لا على “الرؤية”.
إن قضية القضايا في العراق اليوم هي غياب الرؤية لكيفية إدارة الدولة وإنهاضها من كبوتها. والحلّ يكمن في تحويل الشعارات من وعودٍ فضفاضة إلى خططٍ عملية قابلة للتنفيذ، وفي هندسة الخطاب الانتخابي بحيث يُعبّر عن رؤية محددة المدى، واقعية المقاصد، تنتهي من تحالفات الهويات إلى تحالفات السياسات والحلول الإجرائية.
لقد توفي ماو تسي تونغ في أيلول 1976، وبعد أربع سنوات فقط أطلق دنغ شياو بنغ مشروع “الحلم الصيني” الذي غيّر وجه الصين لأنه امتلك رؤية واضحة وبرنامجًا تنفيذيًا دقيقًا. والعراق، بدوره، يحتاج إلى حلم وطني مماثل، وإلى زعماء يمتلكون الشجاعة والعقل لبناء هذا الحلم وتنفيذه، كي تتحول ثقافة السياسة من صراع على السلطة إلى ثقافة بناء وتنمية، ومن ثقافة التخويف والكراهية إلى ثقافة العمل والإنجاز.
نحو انتخابات تنموية لا سلطوية
إنَّ التحول من الانتخابات بوصفها صراعًا على السلطة إلى الانتخابات بوصفها مدخلًا للبناء التنموي هو التحدي الحقيقي للديمقراطية العراقية. فالدولة لا تُبنى بشعارات المنافسة وحدها، بل ببرامج ورؤى واقعية تصنع الثقة بين المواطن ومؤسساته.
الانتخابات القادمة ستكون اختبارًا لوعي الناخب والنخبة على السواء: هل نعيد إنتاج الأزمة ذاتها بأسماء جديدة، أم نفتح الطريق أمام جيلٍ سياسيٍّ جديد يجعل من السلطة وسيلةً لخدمة التنمية، لا غايةً في ذاتها؟
حين تنضج هذه المعادلة، سيتحوّل صندوق الاقتراع من محطةٍ للتجاذب إلى منصةٍ للتخطيط الوطني، ويصبح صوت الناخب خطوةً في طريق تحقيق الحلم العراقي المنتظر .
30-10-2025, 12:46 الملح "يأكل" اثار بابل وأور .. مهد الحضارات على وشك الاندثار
اليوم, 13:23 انتخابات العراق … من الصراع على السلطة إلى البناء التنموي (4)
إبراهيم العبادي29-10-2025, 14:19 الجدل حول القرآن .. موقف الشرع والعقل
د.رعدهادي جبارة27-10-2025, 19:54 في رحاب ولادة السيدة زينب الكبرى (ع): صوت البطولة والوعي والعدالة الإلهية
د. وليد الحلي27-10-2025, 12:10 انتخابات العراق … أزمة التمثيل وإشكالية التفويض
إبراهيم العبادي