• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

انتخابات العراق … أزمة التمثيل وإشكالية التفويض

انتخابات العراق … أزمة التمثيل وإشكالية التفويض

  • اليوم, 12:10
  • مقالات
  • 13 مشاهدة
إبراهيم العبادي

"Today News": بغداد 

في كتابه الشهير عن الديمقراطية، يشترط عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين ضرورة الانتخاب الحر والدوري للحاكمين من قبل المحكومين كشرط حاسم لقيام الديمقراطية، مؤكدًا أنه «لا ديمقراطية من دون تمثيل، ولا تمثيل من دون اختيار حرّ للمسؤولين». فالمعنى الجوهري للديمقراطية لا يتحقق إلا حين يتمكن المواطنون من التعبير عن مصالحهم واحتجاجاتهم عبر مؤسسات المجتمع المدني، ويختارون ممثلين عنهم بملء إرادتهم الحرة.

من هذا المنطلق، يرتكز جوهر العملية الديمقراطية على فكرة التفويض الشعبي (Popular Mandate)، وهو مفهوم سياسي–قانوني يشير إلى السلطة والشرعية التي يمنحها الشعب لممثليه في البرلمان أو الحكومة لممارسة الحكم واتخاذ القرارات بإسمه، استنادًا إلى برنامج سياسي واضح جرى التصويت عليه. لكن هذا التفويض ليس مطلقًا ولا دائمًا، بل هو عقد سياسي مؤقت ومشروط بتحقيق الوعود والالتزامات التي صوّت الناس لأجلها.

الانتخابات في جوهرها آلية للمساءلة الدورية؛ فهي تمنح المواطنين فرصة لتجديد أو سحب التفويض بناءً على تقييم الأداء. فحين تنتهي مدة التفويض، يحتفظ الجمهور بحقه في المحاسبة السياسية: فيكافئ من أنجز بإعادة انتخابه، ويعاقب من أخفق بعدم التصويت له. هذه الدورة هي التي تمنح الديمقراطية معناها الحيوي وتجعل من السلطة ممارسةً شرعية تستمد مشروعيتها من الإرادة العامة.

لكن الوعي بأهمية التمثيل الصحيح والتفويض المشروط ما يزال ناقصًا في العراق. فالبنية الاجتماعية والسياسية المنقسمة جعلت التصويت محكومًا بالمحركات الطائفية والمصلحية أكثر من ارتباطه بالمصلحة الوطنية أو البرامج التنموية. لقد بدأ هذا النمط خجولًا في الدورات الانتخابية الأولى بعد 2003، لكنه ترسخ لاحقًا حتى غدا سمةً مميزة للعملية الانتخابية.

الانتخابات المقررة في 11 تشرين الثاني المقبل تمثل اختبارًا جديدًا لهذه الإشكالية. فبدل أن تكون مناسبة لاختيار ممثلين أكفاء لإدارة الدولة وفقًا لمقتضيات الصالح العام، أصبحت في كثير من الأحيان ساحةً لتوظيف المال السياسي واستثارة العصبيات وتكريس الولاءات الفئوية. وغابت البرامج والرؤى الإصلاحية لحساب الولاءات العشائرية والزبائنية الحزبية، ما أدى إلى تهميش التفكير التنموي والإصلاحي.

يصف نعوم تشومسكي هذه الظاهرة بـ”تصنيع القبول” (Manufacturing Consent)، حيث تُستخدم وسائل الإعلام والخطاب السياسي لخلق إجماعٍ زائف يخدم مصالح النخب المهيمنة، في حين يُقصى الجمهور عن الفعل السياسي الحقيقي. بهذا المعنى، يصبح التفويض الذي يُمنح للممثلين شكليًا ومشوهًا، لأنه لا يستند إلى إرادة حرة واعية، بل إلى تعبئة نفسية وإعلامية موجّهة.

إن تشوهات العملية الانتخابية تقود في النهاية إلى تمثيل زائف للناس، وإلى مؤسسات مفوّضة شكليًا لكنها عاجزة عن ممارسة المساءلة أو تمثيل الإرادة العامة. ولذلك يبدو تراجع فاعلية البرلمان وتقلص دوره التشريعي والرقابي نتيجةً منطقية لخلل بنيوي في آلية التفويض والتمثيل. فحين يحتكر المال والإعلام والنفوذ عملية إنتاج القرار السياسي، تتحول الانتخابات إلى طقس سياسي يمنح الشرعية لذوي القوة والثروة والسلاح للتمكن من الهيمنة على مقاليد الامور  ، بدل أن تكون وسيلة لتحديثها صورة ومعنى .

التوقعات للانتخابات المقبلة لا توحي بتغير كبير؛ فالأرجح أن النخبة السياسية  ستُعيد إنتاج ذاتها  مع اختلافات طفيفة في الموازين. ومع ذلك، ما يزال الخطاب العام يزخر بدعوات إلى التغيير والإصلاح والبحث عن بدائل سياسية قادرة على إخراج العراق من حالة الدولة الهشة، التي تُنفق مواردها دون أن تحقق نموًا مستدامًا أو عدالة اجتماعية تكبح توالد سلوكيات الاحتجاج وتهدأ السخط المزمن، بسبب تفشي الفساد وهيمنة الاقتصاد الريعي والزبائنية السياسية.

لم تنجح التجربة الانتخابية العراقية حتى الآن في التحول إلى عقد سياسي واعٍ بين الحاكم والمحكوم، قائم على تمثيل صادق وتفويض فعّال يفضي إلى تداول حقيقي للسلطة وصناعة بدائل سياسية. وما لم يتحول التصويت إلى اختيار عقلاني قائم على البرامج والكفاءة لا الولاءات الضيقة، ستبقى الديمقراطية العراقية أسيرة أزمة التمثيل وإشكالية التفويض، تدور في حلقة مفرغة بلا  تجديد ولا تغيير.

أخر الأخبار