• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

ينابيع القار في هيت .. نار لا تطفئ منذ آلاف السنين

ينابيع القار في هيت .. نار لا تطفئ منذ آلاف السنين

  • 17-10-2025, 18:55
  • تقاير ومقابلات
  • 25 مشاهدة
"Today News": متابعة 


تتدفّق من جوف الأرض في مدينة هيت على ضفاف الفرات، عيونٌ سوداء لزجة تفوح منها رائحة التاريخ والنار معاً، حيث لا تزال ينابيع القار تتنفس منذ آلاف السنين، شاهدة على حضارات مرّت من هنا وتركت آثارها في الطين والنار والقطران.

ويقول الباحث الجيولوجي أكرم الراوي ، إن "مدينة هيت تضم نحو خمس إلى ست ينابيع طبيعية تقذف بمادة القار الساخنة بشكل مستمر، وهي ظاهرة جيولوجية نادرة في العالم، ناتجة عن تسرب القطران من طبقات نفطية عميقة إلى سطح الأرض عبر الشقوق الصخرية".

ويضيف الراوي، ان "حرارة القار الخارج من العيون تتجاوز أحياناً ثمانين درجة مئوية، ويتصاعد منه بخار كثيف في الصباح، ما يمنح المكان طابعاً غامضاً ومثيراً".

ويتابع أن "القار الهيتي من أنقى أنواع القطران الطبيعي في الشرق الأوسط، وكان يُستخدم منذ العصور السومرية والآشورية في البناء والتحنيط والعزل المائي، خصوصاً في الزقورات والمعابد القديمة".

ويشير المؤرخ محمود خليل الهيتي، في حديثه لوكالة شفق نيوز، إلى أن "هيت كانت تُعرف قديماً باسم (إيس) في النصوص البابلية، وتعني القار أو القطران، وهو ما يؤكد أن شهرتها بهذه المادة تمتد إلى ما قبل الميلاد بقرون طويلة".

ويضيف أن "هيت كانت محطة رئيسية في طرق التجارة القديمة، حيث تُصدّر القار والملح والكبريت إلى مدن بلاد الرافدين عبر نهر الفرات"، مبيّناً أن "مادة القار الهيتي كانت تُنقل إلى الجنوب عبر القوافل، ومنها إلى مناطق أور ونفر، ما جعل تلك المناطق تُعرف لاحقاً باسم (ذي قار)، أي الأرض التي يُستعمل فيها القار".


هيت.. نار لا تنطفئ


ويقول عبد الله الهيتي، أحد سكان المدينة القدامى، إن "عيون القار لم تنطفئ يوماً، فهي تتدفق صيفاً وشتاءً، وتُعد جزءاً من هوية المدينة".

ويبين ان "الأهالي اعتادوا على رائحة القار وأبخرته، ويعتبرونه رمزاً للخير والبركة، فيما يقصّ كبار السن حكايات عن كيف كان القار يُستخدم في طلاء الزوارق وسدّ الشقوق في بيوت الطين".

ويتابع أن "كثيراً من الزوّار الأجانب والعراقيين يأتي إلى هيت لمشاهدة هذه العيون، خاصة في ساعات الفجر، حين يتصاعد البخار من القار كأنه أنفاس الأرض".


إرث حضاري


ويقول الخبير في شؤون البيئة أحمد عواد العيساوي ، إن "ينابيع القار في هيت ليست مجرد ظاهرة طبيعية، بل ثروة جيولوجية نادرة تستحق التسجيل كموقع تراث طبيعي عالمي".

ويضيف أن "هذه الينابيع تُظهر التكوينات النفطية العميقة في العراق وتدل على ثراء المنطقة بالموارد الجيولوجية، لكنها للأسف تفتقر إلى الحماية القانونية والبيئية".

ويحذّر العيساوي، من أن "الإهمال المستمر قد يؤدي إلى تلوث المنطقة أو طمر بعض العيون بفعل النشاطات العشوائية للسكان، إذ لا توجد لافتات أو سياجات تحمي الموقع من العبث".

ويؤكد ضرورة "تنسيق الجهود بين وزارة البيئة وهيئة السياحة والآثار لتحويل الموقع إلى مقصد سياحي تعليمي آمن، يتيح للزائرين التعرّف على التاريخ الجيولوجي للعراق".


رائحة الماضي التي ما زالت تفوح


ويشير المدرس المتقاعد حسن زيدان، وهو من أبناء هيت ، إلى أن "القار المستخرج من هذه العيون ما زال يُستخدم في طلاء بعض الأسطح وسد الفجوات في القوارب الخشبية الصغيرة، كما كان يفعل الأجداد قبل آلاف السنين".

ويضيف ان "الناس يعتبرون القار جزءاً من التراث الحيّ للمدينة، لذلك يحرصون على نقله للأجيال القادمة من خلال القصص والزيارات".

ويتابع زيدان ان "هيت كانت وما زالت تُعرف بأنها مدينة النار الطيبة، فالقار الذي يخرج منها لم يؤذِ أحداً، بل كان سبباً في رزق الناس وحماية بيوتهم".


محاولة لإحياء السياحة


ويقول الباحث التاريخي قاسم الحمداني ، إن "بعض الشباب في هيت بدأ ينظم جولات سياحية تطوّعية لتعريف الزائرين بتاريخ عيون القار وأهميتها، في محاولة لإعادة تسليط الضوء على هوية المدينة الحضارية".

ويضيف ان "هيت من الممكن أن تكون وجهة فريدة للسياحة البيئية والتاريخية إذا ما توفرت لها البنية التحتية المناسبة، لأنها تجمع بين الماضي والحاضر في مشهد واحد".

ويتابع أن "القار الذي استخدمه السومريون في بناء زقورة أور هو نفسه الذي يتدفق اليوم من جوف الأرض في هيت، وهذا وحده كافٍ لجعلها رمزاً حياً للحضارة الرافدينية".

ويؤكد الجيولوجي، أكرم الراوي ، أن “هيت تمثل متحفاً جيولوجياً مفتوحاً، إذ تتلاقى فيها عناصر النار والماء والنفط في مشهد واحد"، داعياً إلى "إدراج ينابيع القار ضمن قائمة التراث الوطني لما تمثله من قيمة علمية وتاريخية نادرة".

ويضيف ان "العيون السوداء في هيت تذكّرنا بأن هذه الأرض لا تزال تتحدث بلغة الماضي، وأن ما تحت أقدامنا من ثروات ليس مجرد مادة، بل ذاكرة أمة".

ويعتبر أهالي مدينة هيت، أن مدينتهم بعيونها تبقى شعلة لا تنطفئ، في زمنٍ تتغير فيه المدن وتذبل الذاكرة، حيث يشتعل في جوفها القار كما يشتعل التاريخ في ذاكرة العراقيين.

ويقولون إن "العيون السوداء تخبر كل من يراها، هنا حيث التقت النار بالماء، بدأت أولى صفحات الحضارة، وهنا، ما زال اللهب يروي الحكاية".

أخر الأخبار