• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

ذكريات أكاديمية ... كيف ندرس فتاوى الفقهاء

ذكريات أكاديمية ... كيف ندرس فتاوى الفقهاء

  • 9-01-2024, 16:08
  • مقالات
  • 66 مشاهدة
د. صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 

علم الإسلام Islamology  ربما يتساءل كثير من الناس : ما معنى هذا العلم؟ وماذا يعني ؟ وهل هو مصطلح جديد وما أصله؟ وهل هو علم يشابه العلوم الطبيعية الأخرى كالجيولوجي والبيولوجي؟ الجواب : نعم هو اصطلاح جديد لعلم قديم . والاسم مشتق من لفظين : إسلامو Islamo ولفظة لوجي logia أي علم ، فيصبح علم الإسلام .  
منذ قرون يدرس العلماء الغربيون والمستشرقون الإسلام والمجتمعات الإسلامية. وألفوا عشرات الآلاف من المصنفات والكتب والموسوعات التي تتناول الإسلام والمسلمين. وأغلب الجامعات الغربية والشرقية لديها قسم أو معهد لدراسة الإسلام.  هذا العلم يدرس الإسلام وتأثير الإسلام وعقائده وتعاليمه وأحكامه على المجتمعات الإسلامية وطبيعة العلاقات بين أفراد المجتمع و العلاقة بين السلطة والمجتمع. كما يدرس القوانين الإسلامية وقضايا الحلال والحرام في الشريعة والعادات والتقاليد في المجتمعات الإسلامية.
فهو علم يدرس جميع مظاهر المجتمع الإسلامي الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية والسياسية والسلوك الاجتماعي ودور المؤسسات الدينية ورجال الدين والمرأة والأسرة في المجتمع الإسلامي. كما يدرس أوضاع الإسلام والاقليات المسلمة في الغرب والعالم ومدى تكيفها واندماجها مع المجتمعات المضيفة لها. ومع ذلك فعلم الإسلام  لا يدرس العقائد الإسلامية أو مسائل التوحيد والنبوة والجنة والنار والبعث والقيامة والملائكة والجن . انه ليس معنيا بالعقائد الإسلامية والفقه الإسلامي . يمكن القول بأنه لا يدرس أشياء غير خاضعة للعلم والتجربة والواقع العملي أو ما يطلق عليه بالانكليزية Untestable أي لا يمكن فحصه أو اختباره. إنه علم يتناول كل ما يتعلق بالمجتمع الإسلامي  فقط . ومثال على ذلك يدرس موقع المسجد في المجتمع الإسلامي وما هو دوره وما هو دور الإمام ؟ إذ أن المسجد هو مدرسة ومكان للصلاة والعبادة ومكان لمناقشة كثير من الأمور.  وحتى كلمة محراب أخذت من الحرب . وهكذا نجده يدرس وظيفة المسجد ، ومن يتردد عليه. كما يقوم بدراسة وظيفة أو أهمية الفتوى وتأثيرها على سلوك أفراد المجتمع أو السلطة الحاكمة. في حين لا يحد نفسه معنياً بدراسة أساس الفتوى ومبناها الفقهي أو كيفية استنباطها بل يدرس تأثيرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي وربما سبب صدورها, أو يدرس اختلاف الفقهاء في الحكم على نفس الموضوع.

فتوى التنباك الشهيرة
ونضرب مثلاً بتأثير فتوى رجل الدين على الدولة والمجتمع ، ومثال ذلك فتوى الميرزا الشيرازي بتحريم التنباك 1891 في إيران. فقد أصدر فتوى يحرم بها تدخين السكائر والناركيلة في جميع أنحاء إيران . وقد التزم بالفتوى جميع الإيرانيين بما فيهم الفقهاء ومراجع الدين الذين ربما لديهم رأي آخر لكنهم التزموا بها.
في الفقه الشيعي هناك ما يسمى بالفتوى وهي دائمة. وهناك الحكم الفقهي الذي هو حكم مؤقت يزول بزوال السبب. كما أن الحكم يسري على الكل حتى غير المقلدين للمرجع أو الفقيه الذي أصدرها. أما الفتوى فتسري على مقلدي وأتباع الفقيه الذي أصدرها. وهو فرق بمساحة الفتوى وتأثيرها والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي رافقتها.
بدأت قصة فتوى التنباك الشهيرالفتوى.قام الشاه الإيراني آنذاك بإعطاء امتياز لشركة ريجي الانكليزية ، ويسمى امتياز انحصار التبغ حيث عدت جميع النشاطات المتعلقة بالتبغ هي احتكار لهذا الشركة الانكليزية كالزراعة والشراء والتجارة والنقل بحيث انه لم يبق أي شيء للتاجر الإيراني والفلاح الإيراني. ساد الكساد والفقر والبطالة لدى أوساط الإيرانيين فاشتكوا أوضاعهم لدى المرجع الديني الميرزا الشيرازي. قام المرجع بإرسال رسول إلى الشاه طالباً منه إلغاء منح الامتياز للشركة الانكليزية .  وكانت الشركة تدفع 5 آلاف ليرة سنوياً إلى الشاه لمنحها هذا الامتياز والهيمنة على جميع نشاطات التبغ. لم يكن الشاه مستعداً للتفريط بالمبلغ السخي فرفض عرض الشيرازي.
كان الميرزا الشيرازي يسكن سامراء وقتذاك ، والمرجعية والحوزة كانت هناك أيضاً . لم يكن أمام المرجع سوى مواجهة الشاه والشركة . ولم يكن يملك سلاحاً أقوى من الفتوى . أصدر الشيرازي فتوى بسطر واحد قلبت التاريخ السياسي في إيران وهو (اليوم استعمال التبغ حرام كمن حارب الإمام الغائب عليه السلام). سرت الفتوى كالنار في الهشيم ، وتم نشرها وتوزيعها عبر أجهزة التلغراف والبرقيات والاستنساخ اليدوي. التزم غالبية الإيرانيين بالفتوى وامتنعوا عن استخدام التنباك الذي تنتجه الشركة . ومنعت بعدها استعمال السكائر ومنع للتدخين علناَ، ولم يجرؤ أحد على التدخين في الأماكن العامة بشكل لم تشهده إيران من قبل . وبلغ من قوة الفتوى أن وصلت إلى داخل قصر الشاه حيث امتنع الخدم عن تقديم الناركيلة وغيرها للسلطان وحاشيته وضيوفه. بعدها أفلست الشركة وتم إلغاء الامتياز ، وعادت الأمور بشكل طبيعي كما كانت. عندما نصنف هذه الفتوى فهي اقتصادية أولاً ثم سياسية ثانياً.  هنا يأتي الباحث لدراسة ما يأتي:
-نص الفتوى من حيث اللغة والعبارات والمضامين ، وتحليل ونقد النص والتأكد من صدورها في ذلك الوقت أو من المرجع المنسوبة إليه.
-خلفية الفقيه الفكرية ومدرسته الفقهية ومدى تأثره بالشؤون السياسية. وهل سبق وأن مارس إصدار فتاوى معارضة للسلطة الحاكمة.
-مدى شعبية المرجع وإمكانية نجاح الفتوى من عدمها، ومدى التنافس مع الفقهاء الآخرين على استقطاب الساحة والجماهير.
-ظروف الفتوى التاريخية وعوامل نجاحها أو إخفاقها ، إضافة إلى تحليل الأوضاع السياسية السائدة آنذاك.
-النتائج السياسية والاقتصادية للفتوى وتأثيرها في الأحداث السياسية فيما بعد.

فتوى اليزدي بجهاد القوات البريطانية
هناك مثال آخر وفتوى أخرى وهي التي أطلقها المرجع الأعلى السيد كاظم اليزدي عام 1914 بعد دخول القوات البريطانية إلى الفاو جنوب العراق. وهذه تصنف بأنها فتوى أمنيَة باعتبار أنه أوجب على العراقيين والمسلمين أن يدافعوا عن العراق تجاه القوات البريطانية الغازية. تحركت المرجعية وكثير من علماء الدين أمثال السيد محمد سعيد الحبوبي ، الذي ينتصب تمثاله في وسط مدينة الناصرية ، ومنهم الإمام السيد محسن الحكيم رحمه الله عليه و كان شابا ، والسيد أبو القاسم الكاشاني، الذي أصبح بطل تأميم النفط الإيراني عام 1951 . كما تحرك آخرون كالسيد محمد الحيدري والسيد هبة الدين الشهرستاني في بغداد سلاح دولة ولمواجهة عسكرية وقتالية رغم أن أسلحتهم كانت قديمة لا تقارن مع سلاح  دولة عظمى مثل بريطانيا، لكن كانت معهم العشائر التي سرعان ما استجابت للفتوى.
لقد غيَرت الفتوى طبيعة تعامل الإدارة البريطانية مع احتلال العراق . إذ أدت إلى نشوب عدة معارك كالشعيبة والرارنجية والكوت مما أخرت عملية احتلال العراق ثلاث سنوات أي حتى سقوط بغداد في آذار 1917 .
 وكذلك تأتي فتوى ثورة العشرين 1920 التي أصدرها الشيخ محمد تقي الشيرازي. وكانت تلك تتضمن أيضا سطرا واحدا فقط. فعندما لجأ الثوار وقادة العشائر إلى المرجع الشيرازي أصدر فتواه الشهيرة.  وبسبب تلك الفتوى قامت ثورة العشرين وتغيرت المعادلة البريطانية الموضوعة في العراق. وكانت هذه الفتوى السبب الرئيس الذي أدى إلى تأسيس الدولة العراقية الحديثة , وبدونها لكان العراق قد بقى حتى الآن ملحقًا بالهند كتابع للإدارة البريطانية في الهند. وكان ذلك هو المخطط الأساس المرسوم للعراق آنذاك. ومن يراجع مذكرات المس بيل والسير برسي كوكس وغيرهم حيث كانوا يستهجنون: كيف نعطي هؤلاء الرعاع دولة مستقلة؟
 دخل الإنكليز في عام 1917 للعاصمة بغداد ، ولم يكن هناك تقدم وتطور يذكر. لقد بقي العراق لأربعة قرون مستمرة مجرد ضيعة عثمانية يتوالى عليها الولاة المعينين بأمر السلطان . وكان العراق بلداً متخلفاً ومهملاً عموما إلا فيما ندر عندما قام بعض الولاة كمدحت باشا وغيره بالمجيء ببعض الآلات وإنشاء مشاريع والقيام بإصلاحات. لقد كان منصب والي بغداد  يباع في الأستانة مقابل بضعة آلاف من الليرات الذهبية . وهكذا بالنسبة لبقية الولايات في العراق.
إن بغداد في العصر العثماني كانت يقصد بها العراق.  فهو ليس مدينة بغداد فحسب، بل ولاية بغداد ويقصد بها مقاطعة بغداد التي كانت تشمل الموصل وبغداد والبصرة. ثم جرى فصل مقاطعة الموصل ومقاطعة البصرة لتصبح ولايات لوحدها في القرن الثامن عشر. كانت ولاية البصرة تشمل قطر والبحرين والكويت والأحساء في السعودية. والخرائط لا تزال موجودة والتي تتحدث عن صدق هذا الكلام وموصوف بكتب كثيرة.
هنا يأتي دور الباحث في دراسة الإسلام كفتوى وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. ويدرس نصوصها ومدى استجابة المجتمع لها، وتسليط الضوء على ردود أفعال مختلف طبقات الشعب تجاه الفتوى. إضافة إلى مواقف السلطة وجماعات الضغط والجهات المتضررة والمستفيدة من الفتوى. وكل ذلك تجري دراسته بمنهجية علمية وبحث موضوعي يهدف إلى الكشف عن نقاط القوة والضعف في المجتمع المسلم .
وهذا ما فعلناه في كتابنا (المرجعية والاحتلال الأجنبي : فتوى السيد اليزدي ضد الاحتلال البريطاني). إذ قمنا بدراسة سيرة المرجع السيد كاظم اليزدي وحياته ودراسته ومدرسته الفقهية وانتقاله من أصفهان إلى النجف. إضافة إلى نبذة عن الحوزة العلمية ومنهجها الدراسي وطريقة اختيار المرجع وموارد المراجع المالية . وتناولنا موقفه المعادي لثورة الدستور 1905 ووقوفه ضد مواقف بقية المجتهدين المؤيدين للمشروطة. كما درسنا موقف الفقه الإسلامي من الجهاد بنوعيه الابتدائي والدفاعي، وركزنا على فتاوى الفقهاء الشيعة باعتبار أن اليزدي ينتمي إلى هذه المدرسة الفقهية.  
وقمنا بجمع النصوص الأصلية لفتواه والبرقيات التي تبادلها مع زعماء القبائل والتي تضمن فتواه وتفاصيلها بوجوب الجهاد ضد القوات البريطانية. ودرسنا البرقيات من منظور النقد النصي Textual Criticism   للتأكد من وثاقتها والشخصيات المرسلة منها وإليها، إضافة إلى تحديد تاريخ صدور البرقية اعتماداً على النص ومضامينه والشواهد والحوادث الواردة فيه. كما تناولنا مواقف بقية العلماء المعاصرين لليزدي كعلماء السنة ، وموقف الأقليات اليهودية والمسيحية العراقية من الاحتلال البريطاني والإدارة الإنكليزية للعراق. ولم نعتمد فقط على المصادر العراقية أو الإسلامية بل راجعنا المصادر البريطانية وباللغة الإنكليزية والتي تؤرخ لتلك الفترة وتذكر تلك الأحداث بتفاصيل وتحليلات من وجهة النظر البريطانية ومقارنتها بالمصادر العراقية.  

فتوى السيستاني في انتخابات البرلمان
يعد المرجع الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله الوارف الناس من العلماء المتميزين في تحركهم ونظرتهم الثاقبة ، إضافة إلى العناصر القيادية التي تجعله أقرب إلى العبقرية السياسية إلى جانب الموقف الاجتهادي الذي يهدف إلى تشكيل دولة ديمقراطية تحترم إرادة الشعب الذي يقرر تغيير الحاكم من خلال صناديق الاقتراع. لذلك يؤكد السيد السيستاني على أهمية الدور الذي يلعبه البرلمان العراقي في إدارة الدولة من خلال دوري الرقابة والتشريع، إضافة إلى أهمية وجود دستور دائمي ينظم عمل الدولة ويقسم السلطات بين المؤسسات الدستورية. ولذلك رفض السيستاني كل المحاولات والمبادرات التي تمحورت في فترة بعد سقوط النظام على تعيين أو اختيار لجنة أو هيئة لتدوين الدستور، وأصر سماحته على ضرورة انتخاب جمعية تأسيسية أو مجلس مؤقت لتدوين الدستور ، وهذا ما حدث بالفعل.
تتذكرون في الانتخابات البرلمانية الأولى عام 2005 كان الناس  لا يعرفون: هل نشارك أم لا؟ وإذا ما شاركنا نختار من ؟ لم يترك السيستاني الناس لحيرتهم ، بل سرعان وما تدخل مباشرة وأصدر عدة فتاوى واضحة تؤكد على أهمية التصويت وانتخاب الأصلح والأفضل. كما أصدر فتاوى أشبه بالتعليمات للناس بضرورة المشاركة وحتى المرضى وكبار السن . كما أوعز لوكلائه لتوجيه الناس وشرح فتواه لهم ، ومناقشة جميع الأمور المتعلقة بالعملية الانتحابية. إن تدخل السيد السيستاني المباشر في الشؤون السياسية قد يخالف توجه مدرسته الفقهية التي لا تؤمن بولاية الفقيه المطلقة مثل بعض المراجع كالإمام الخميني والسيد كاظم الحائري والشهيد الأول السيد محمد باقر الصدر والشهيد الثاني السيد محمد محمد صادق الصدر قدس الله أرواحهم.  
وهكذا بقيت المرجعية الدينية تلعب دوراً كبيراً في توجيه السياسيين والمسؤولين والناس . كما كان لفتواها ومواقفها تأثير كبير في كل العملية السياسية في العراق. ولا نبالغ إذا قلنا أن  وجود السيد السيستاني جزءاً من نجاحها ، ودعمه لها سددَها وأنقذها في كثير من الأزمات السياسية والمنعطفات الأمنية، وإلاَ لا نعلم كيف كانت الأمور ستسير لو كان غيره في هذا الموقع وفي هذه الفترة التاريخية .
وهذا ما فعلناه في دراستنا لفتاوى السيد السيستاني في دراستين الأولى بعنوان: دور المرجعية الدينية في الانتخابات البرلمانية في العراق. والأخرى بعنوان: دور المرجعية الدينية في تعزيز الوحدة الوطنية في العراق.  

دفاع عن الإسلام
إن علم الإسلام يدرس الإسلام بمنهج علمي وموضوعي واضح . وقد تستغربون عندما تجدون أن اغلب هؤلاء الدارسين للإسلام هم غير مسلمين ، وأنهم متخصصون بهذا الموضوع ولكنهم غير مسلمين ويسمون عادة بالمستشرقين . تجد بعضهم قد تخصص في جانب واحد من الإسلام كالتاريخ الإسلامي والدول والسلالات الحاكمة وسيرة الرسول (ص) أو أهل البيت (ع) أو الفقه أو القانون الإسلامي والشريعة أو التصوف أو العلاقات الدولية أو الجماعات الإسلامية أو في المساجد والأئمة أو النظام الاقتصادي وأمور الربا والخراج والزكاة أو في شؤون الأسرة والمرأة والحجاب والزواج والطلاق وغيرها. ويوجد قسم آخر يسمى بالمستعربين وهم الذين درسوا وتخصصوا باللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة والشعر العربي الجاهلي وما بعده والأدب العربي. وقد ألفوا قواميس ومعاجم ومصنفات في الأدب العربي في مختلف العصور لعل أشهرهم كارل بروكلمان صاحب كتاب (تاريخ الأدب العربي). كما يوجد مستشرقون متخصصون في بلد إسلامي معين كمصر أو الجزيرة العربية أو شمال أفريقيا أو العراق والشام، أو إيران أو إندونيسيا . أو متخصصين في فترة تاريخية معينة مثلاً في تركيا العثمانية أو الإسلام في الأندلس ، أو في الإسلام السياسي والحركات الأصولية الحديثة.
هؤلاء غالبيتهم يؤمنون باختصاصهم بالفرع والعلم الذي درسوه وتخصصوا فيه. ولن يترددوا في الرد على أية فرية أو مغالطة أو كذبة تتعلق بالإسلام ومن ضمن اختصاصهم. لذلك تراهم ينبرون للدفاع عن الإسلام ليس لأنهم يؤمنون به ، بل لأنهم يرون أنفسهم مختصين وخبراء ولن يقبلوا من يتعدى على اختصاصهم العلمي الدقيق. ولا يعني ذلك أن بعضهم لا يتحامل على الإسلام أو يتجاوز حدود المنهج العلمي أو يدلي بآراء لا تعجب المسلمين. وهذا منهج غير مقبول خاصة إذا خالف الشروط المهنية والموضوعية والعلمية. ولكن على العموم هناك لديهم رأي موضوعي مبني من فهمهم للإسلام وأحكامه وتعاليمه. وإذا ما خرجوا عنه فهناك من يعترض عليهم من زملائهم أو من العلماء المسلمين أو حتى من الغربيين المعتنقين للإسلام.
وقد شهدت شخصياً العديد من المناقشات التي رأيت فيها بعض المستشرقين يدافعون عن الإسلام في ندوات ومؤتمرات علمية محلية وعالمية. وسأذكر بعضا منها:
١-في أحد المؤتمرات العلمية عن الإسلام تحدث محاضر سوداني مسلم اسمه ناعم أحمد ناعم يعمل في جامعة بريطانية. فاتهم على الإسلام واتهمه بقمع الحريات الدينية وأنه لا يسمح بالرأي الآخر. فما أكمل محاضرته عن حقوق الإنسان في الإسلام) انبرى له بعض المستشرقين وطالبوه بأدلة تؤيد نظريته هذه.  ثم ذكر أحدهم إن ما تقوله يفتقد للمصداقية التاريخية ، فلو كنت دقيقاً وعلمياً لذكرت (دستور المدينة) وهي الوثيقة التي وقع عليها الرسول محمد (ص) عندما دخل المدينة المنورة . وتضمنت الوثيقة أول اعتراف رسمي من دين بأديان مواطني الدولة المقيمين فيها. إذ أقر الرسول (ص) لليهود حرياتهم الدينية وحقوقهم المدنية . وهو أمر لم يسبقه إليه أحد في التاريخ لا قبله ولا بعده، فالإسلام أول شريعة أو دين يعترف بالحرية الدينية للآخر . نذكر هنا ما فعله الأسبان بعد سقوط غرناطة عام 1492 ، عندما خيَروا المسلمين الأندلسيين بثلاث خيارات قاسية: إما أن تتحول إلى المسيحية وتترك الإسلام، أو تغادر إسبانيا وتترك أموالك ومزارعك وبساتينك ومخازنك ومصانعك وبيوتك ، أو تواجه مصير القتل. فلم يكن هناك أي تسامح أو قبول بالمختلف الديني. ولم تعترف أوربا والغرب بالآخر الديني إلا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. في بريطانيا في القرن الحادي عشر الميلادي صدرت إرادة ملكية بتحريم دخول اليهود إلى أراضيها . إذن لم تعرف أوربا التسامح إلا متأخراً ، والإسلام أقر التسامح الديني قبل أربعة عشر قرناً . هذا كلام علماء غربيين ومسيحيين متخصصين وليس رأيي الشخصي أو لأنني مسلم.
يتبين من ذلك أن الإسلام أول من اعترف بالأخر الديني قبل كل الديانات والحضارات والدول الأمم والشعوب والثورات الإنسانية. وحتى الثورة الفرنسية لم تعترف بحريات الآخرين الدينية وحقوقهم المدنية إلا في وقت متأخر من عمرها تجاوز القرن. ففي فرنسا في عصر بعد الثورة  لم يكن بإمكان أن يصبح البروتستانتي ملكاً لفرنسا حتى يعلن انه قد غيَر مذهبه إلى الكاثوليكي.  
كل هذه وغيرها من انجازات الحضارة الإسلامية وديننا الإسلامي . لقد اعترف بها القاصي والداني من العلماء والمؤرخين والباحثين والمستشرقين الغربيين.  وعلينا أن نعتز بهذه الحضارة الإسلامية وهذا الدين العظيم ونبيه الكريم (ص).  وأقول الحضارة الإسلامية فلا اقصد بها المسلمين فقط لأن غالبية المجتمع الإسلامي كانوا مسلمين ، ولكن المجتمع الإسلامي كان يضم أديان ومذاهب وشعوب وأمم وقوميات متنوعة . أبناء ذلك المجتمع كلهم شارك في بنائها وازدهارها ، ومنهم من غير المسلمين كالمسيحيين واليهود والصابئة ومن مختلف القوميات والأعراق. فبرز منهم أطباء وفلكيون وشعراء وأدباء وغيرهم كالأخطل واسحق وولده حنين وهم مسيحيين فضلا عن الصابئة أيضا كابي اسحق الصابي الشاعر وغيرهم من الأدباء الذين شاركوا ببناء الحضارة الإسلامية .
٢-غادر الدكتور حامد نصر أبو زيد بلده مصر بعد اتهامه بالردة وصدور حكم قضائي بتطليق زوجته منه. وصل أبو زيد إلى هولندا وجرى الاحتفاء به لأنه هاجم العقائد الإسلامية وتعرض للطرد من بلده، وعيَن وحاضراً في جامعة ليدن العريقة. وكنت ألتقيه في مرات عديدة وكانت ترافقه زوجته ابتهال، ومرة دعوته إلى إلقاء محاضرة على الشباب المسلم في روتردام. وشارك معه الدكتور حسن حنفي.
عندما كنا في دراسة الماجستير (بين عامي 1996 و1997 ) كانت هناك محاضرة أسبوعية يلقيها متخصص في الإسلام سواء غربي أو مسلم. في أحد الأيام ألقى الدكتور أبو زيد محاضرة تناول في القسم الأول منها الموضوع الذي أثار الرأي الإسلامي العام في مصر وخاصة الأزهر الشريف، وملخصه أن الوحي يتأثر بالواقع المعيشي للمجتمع الإسلامي، وبالتالي فإن ما موجود في اللوح المحفوظ هو رد فعل لأحداث مجتمع مكة والمدينة والجزيرة العربية. أثار تجريده للوح المحفوظ من صفة الخلود كونه من علم الله سبحانه وتعالى وهم علم لدنَي وأبدي، وأن ما مكتوب في اللوح المحفوظ من الخلق الأول سيحدث حتماً لأنه من القدر المقدر والواقع لا محالة، أثار عليه لغطاً وجدلاً لأنه يشم منه إنكار لعلم الله أو لمضمون اللوح المحفوظ. الأمر الذي أدى إلى محاكمة أبو زيد وإدانته.
بعد انتهاء أبو زيد من حديثه انبرى له عدد من المستشرقين رادين عليه خوضه في شؤون لا علم له بها، فهو لم ير اللوح المحفوظ كي يتأكد من أنه رد فعل لما يحدث في  المجتمع. كما أن الجدل في قضايا لاهوتية أو ما وراء الغيب ليس من اختصاص الباحث الأكاديمي ، فهذا متروك لعلماء الفقه والعقائد والمختصين باللاهوت وعلم الكلام. وتم التركيز على أن أبي زيد يتناول أموراً لا مجال لامتحانها أو وضعها تحت المعايير العلمية  ، فهي حسب تعبيرهم Untestable أي غير قابلة للفحص والتجريب. فهو يخوض فيما لا علم له به بل مجرد تكهنات وافتراضات بحاجة إلى أدلة علمية.
في القسم الثاني من محاضرته تناول الدكتور أبو زيد حقوق المرأة في الإسلام وذكر فيها رأيه بأن الإسلام يمنع تعدد الزوجات وأن آية إباحة التعدد تختص بوجود أرامل لديهن أيتام فقط دون غيرهن (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع.) (النساء :)  . وأن الآية نزلت لحل مشكلة الأرامل والأيتام بعد معركة أحد. وأن المسلمين مخطئون في تبنيهم تعدد الزوجات بشكل واسع ومفتوح.
طلبتُ الحديث وسألت د. أبو زيد : هل أن تعتقد أنك وحدك تفسر النص القرآني حسب ما ورد في تفسيرك للآية المذكورة؟ هل تعتقد أن النبي (ص) لم يعرف تفسيرها؟ لماذا لم يمنع الصحابة من تعدد الزوجات؟ لماذا لم يفرض عليهم أن تكون الزوجة أرملة ولديها أيتام ؟ لماذا لم يعرف تفسير الآية أئمة أهل البيت (ع) والصحابة والتابعين وزعماء المذاهب الإسلامية وبقية العلماء والفقهاء على مدى القرون الخمسة عشر الماضية؟ إن ما ذكرتم من تفسير تنفرد به دون سائر العلماء والفقهاء. ولا يعدو كونه افتراضاً يفتقد للدليل العلمي والسند التاريخي، وهو بعيد جداً عن المنهج العلمي أولاً في تفسير الأحداث التاريخية، كما أنه بعيد عن منهج التفسير القرأني حيث أجمع المفسرون والفقهاء المسلمون على جواز تعدد الزوجات في كل الأحوال ودون شرط أن تكون الزوجة أرملة ولديها أيتام.

أخر الأخبار