بيوت بغدادية تراثية متروكة تنتظر الاهتمام .. سلسلة أبنية تراثية بغدادية

بيوت بغدادية تراثية متروكة تنتظر الاهتمام .. سلسلة أبنية تراثية بغدادية

• 14-10-2023, 11:15
• مقالات
• 221 مشاهدة

مشاركة عبر :

صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 
 
بيوت بغدادية تراثية ١٣

قصور مهجورة على نهر دجلة

أثناء جولتي في معالم بغداد التراثية عثرت على بيوت في شارع النهر. دخلت زقاقاً واسعاً من  شارع النهر إلى الشارع المحاذي للنهر. في يمين الزقاق يوجد سوق للأرمن تم إنشاؤه حديثاً. وفي نهايته تقع مفرزة الدفاع المدني المجهزة بسيارات إطفاء عن الطوارئ في المنطقة. تحدثت مع المفوض حيدر وهو قديم في المنطقة فدلني على بيتين متجاورين متروكين.
البيت الأول يعاني من الاهمال وتوجد أضرار كبيرة في الواجهات والشبابيك والشرفات (لاحظ الصور المرفقة). البيت مبني في الثلاثينيات حيث لا توجد باحة داخلية (حوض) بل بهو عال فيه درج يؤدي إلى الطابق العلوي والسطح.
ينقسم الدرج إلى ثلاثة أقسام وصحنين كي يصل إلى الطابق العلوي. وللدرج محجر جميل وما زال محافظاً على وضعه القديم عدا حدوث أضرار وسقوط جزء منه. والمحجر من الخرسانة الجاهزة يعلوها ممسك رشيق.

الشرفات المطلة على دجلة ذات طراز فيكتوري جميل ، فالمحجر من الخرسانة المسلحة على شكل أعمدة قصيرة تتخللها كرتان مع قاعدتين علوية وسفلية. وتوجد في شقوق وأجزاء متضررة ، والأرضية مملوءة بالأوراق والأغصان اليابسة ، حيث الأشجار المعمرة تغطي واجة المنزل تماماً. تستند الشرفة على عمودين حجريين بيضاوين ذات تيجان مزخرفة ، يشبهان الأعمدة الرومانية.

جدران الواجهة سقط عنها الغطاء في بعض أجزائها. ويبدو أن الغطاء السمنتي (اللبخ) جاء في وقت متأخر لأن البناء البغدادي التقليدي يستخدم الطابوق للبناء وللديكور ، لكن ما حدث قد شوه الجدران بشكل فظيع. للدار سرداب يؤدي إليه سلم من البهو الداخلية.

في الطابق الأرضي توجد عدة غرف واسعة تطل شبابيكها على النهر ، تعرضت جدرانها للتشويه والصبغ بلون وردي. وزجاج الشبابيك متضرر جدا. وفوق الشباك توجد نقش من البورك الأبيض توضع الستارة خلفه.
كما توجد في كل غرفة مدفأة حطب (Fire Place) إنكليزية الصنع مصنوعة من الحديد (الآهن) المصبوب. وعليها زخارف جميلة.
وفي الطابق العلوي يوجد بهو عالي ينفتح على الشرفة الوسطية المسقفة. في حين تنفتح الشرفتان الأخرين من الغرف المجاورة للبهو. وهي أيضاً تعرضت للضرر بفعل الطلاء وتقشر الجدران. كما توجد مدافئ حطب.

من الواضح أن الدار تعود لأسرة ميسورة بما فيها من فخامة وأبهة. وحسب قول المفوض حيدر أنه في التسعينيات كانت تسكنها سيدة عجوز تقول إنها بنت عبد الرحمن النقيب الكيلاني، وكانت تساعد الفقراء بالمال والطعام. وكانت لديها ابنة تعمل في القناة الثانية لعدي في برنامج رياضي. ولما ماتت لم يسكن البيت أحد. وبقي البيت خالياً حتى جاء صاحب محل خياطة وشغل الدار تجاوزاً وجاء بماكناته لكن لم يحفظ الدار جيداً، تركه متضرراً.

أما الدار الثانية فهي بحالة جيدة لكنها مغلقة ويبدو سليماً ومحافظ على شكله ومتانته وهو مقفل. ولم أتمكن من دخولها فالتقطت بعض الصور لها من الخارج. وتوجد أمامها مولدات كهرباء تعود للمحلات المجاورة والمخازن التي تشغل البيوت القديمة في المنطقة.

بالطبع توجد بيوت تراثية أخرى متروكة بحالة سيئة ، وأخرى ما زالت تستخدم كمخازن لمحلات شارع النهر.

بيت يهودي قُتِل أصحابه

في زقاق قريب من مفرزة الدفاع المدني القريبة من شارع النهر، دلني المفوض حيدر على منزل قديم تشغله حالياً عائلة متجاوزة على الدار. يقع مدخل الدار في الزقاق لكن إحدى واجهاته تطل على النهر مباشرة. وأضاف حيدر: في منتصف التسعينيات سمعنا صوت إطلاقات نار فتوجهنا إلى المنزل وكانت تسكنه عائلة يهودية من كبار السن امرأة وأخويها أحدهما اسمه صهيون. سرعان ما جاءت عناصر المخابرات الصدامية وقاموا بتطويق المنطقة ومنع أي شخص من الاقتراب من الدار. جاءت سيارات الإسعاف ونقلت جثتي الرجلين ، أما المرأة فكانت في الطابق العلوي ونجت من الحادث. اتضح فيما بعد أن القاتل فلسطيني جاء قبل سنتين وأقام في بغداد ، وقام برصد المنزل وحركة سكانه ، ثم في صباح أحد الأيام حمل رشاشته ونفذ جريمته وهو يصيح: أولاد الكلب! ، تطردوننا من منازلنا وتسكنون هنا بكل راحة!
تم إلقاء القبض على القاتل وهو شاب في الثلاثين من عمره ، ثم تم تسليمه إلى المخابرات ، وتم التكتم على الخبر. ولم نعرف هل تمت محاكمته لأنه أجنبي قتل مواطنين عراقيين في العراق أم لا؟


دار المهندس فهمي دولت

يقع دار المهندس اللبناني فهي دولت في منطقة الشواكة ، مقابل البيوت التراثية من الجهة الأخرى من الشارع. وتعرض الدار لأضرار كثيرة . وقد شغله متجاوزون في وقت ما ، وحالياً تشغله مفرزة شرطة رفضت دخولنا إلى الدار لتوثيقه.

الدار من طابقين ، وتوجد بالطابق العلوي شرفات ثلاث من جهة الشارع. وسقف الشرفات ربما كان من القرميد لكنه سقط في وقت سابق، ووضعت مكانه ألواح من الزنك (الچينكو) بشكل بائس. تستند الشرفة الوسطية على عدة أعمدة خشبية ، مع إزارة خشبية تحيط بالسقف. السقف بشكل مائل ، مرتفع في الوسط وينخفض نحو الجانبين. والشرفة التي على اليمين متهدمة تماماً . كما وضع جدار خرساني أمام الدار ، ويحجب الطابق الأرضي. وهناك غرفة خشبية على سطح الدار مغطاة بستارة ربما لإبعاد نور الشمس.
في خلف القسم الأمامي من الدار توجد هناك بقية الدار التي تبدو بحالة سليمة ، ولا أعرف هل هو القسم الخلفي لدار فهمي دولت أم مبنى آخر يقع خلفه؟ الصور الجوية للدار تبدو هناك عدة أبنية وساحة خلفية كبيرة لكن لا يمكن القطع بذلك. وهناك صورة لدار فهمي دولت نشرها المهندس معاذ الآلوسي التقطها المهندس الألماني مارنكوز من شرفته ، يظهر فيها القسم الخلفي لدار دولت ومنها شرفة وتحتها غرفة جلوس تطل على الحديقة الخلفية. كما تظهر الشرفة الأمامية بشكل جزئي.  

يذكر المهندس المعماري معاذ الآلوسي (١٩٣٨- ) في مذكراته عن فهمي دولت فيقول أن الدار: (شُيّدت بطراز (آرت ديكو) وبمواد محلية مطورة. وكنا قد درسناها أنا والعتيد فيصل وأثرت على عملنا لاحقاً. الإشاعة في الشواكة كانت تقول ان دولت كان على علاقة رومانسية قوية مع زوجة المهندس الألماني مارنكوز حيث يجاور منزل دولت. وكان مارنكوز يعمل في إنشاء سكة قطار الشرق السريع . وكلمة مارنكوز تعني نجار باليونانية والتركية). (١)

وفي مكان آخر يذكر الألوسي (إن إحدى المعارف (ريم) وهي من سكنة ليماسول (في قبرص) لبنانية/ موصلية الأصل من آل عجاج ، عرفتني على أمها وكانت من آل دولت. تجرأت وسألتها عن علاقتها بالمعمار اللبناني الأصل ، الكرخي النشأة ، من سكنة الشواكة ، شارع حيفا اليوم ، فأجابتني وأنا مغمور بالدهشة والسحر ، بأنها جدها. وكانت قد زارت الدار في صباها. أخبرتني عن مدى ثقافة وأناقة المعمار جدها. وأكدت أن الألمانية لم تكن عشيقته ورنما تزوجها بعد أن انفصل عنها المهندس الألماني ولم يخلف منها. في اليوم التالي أعددت لها ألبوماً مفصلاً لصور الدار التي كانت بحوزتي. دمعت عيناها عندما أعلمتها أن الدار مفهرس وسيُحافظ عليه إلى الأبد ، إن لم يسقط بإحدى الصواريخ العابرة. والحال لابد من أن المفخخة التي استهدفت وزارة العدل مؤخراً قد أثرت عليه) (٢)
للأسف لم نعثر على ذلك الألبوم المفصل عن دار فهمي دولت.

وبتوصية من المهندس الاستشاري رفعت الجادرجي (١٩٢٦- ٢٠٢٠) تم الإبقاء على الدار ضمن مشروع شارع حيفا حيث تم تهديم مئات البيوت القديمة من أجل شق الشارع وبناء عمارات سكنية مكانها.

أتذكر الدار في الستينيات والسبعينيات وهي قائمة بكل شموخ وهيبة وأناقة ، وستائره مُسدلة ، ومصابيحه مُنارة. إن تصميم الدار يبدو متميزاً ويشابه الطراز الغربي من حيث الواجهات والسقوف المائلة.

نأمل من الجهات المعنية في وزارة الثقافة والسياحة والآثار أو أمانة بغداد والمهتمين بالتراث البغدادي الالتفات لهذه البيوت التي في طريقها إلى الاندثار والانهدام مثل بيوت ومبان تراثية أخرى.

الهوامش

١-معاذ الألوسي (نوستوس ، حكاية شارع في بغداد) ص ٢٤٢ -٢٤٣ ، منشورات الرمال ، ط ١ ، قبرص: ٢٠١٢
٢- الألوسي ص ٢٤٣

• طباعة