• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

سلسلة أبنية تراثية بغدادية .. بيوت تراثية بغدادية ١١

سلسلة أبنية تراثية بغدادية .. بيوت تراثية بغدادية ١١

  • 5-10-2023, 15:45
  • مقالات
  • 206 مشاهدة
د . صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 

شهرزاد الانكليز أجاثا كريستي تحكي في بغداد

هي أشهر كاتبة في التاريخ ، تُرجمت قصصها البالغة (٤٠٥) كتب إلى (١٠٣) لغة ، وبلغ ما بيع منه أكثر من مليار نسخة في أنحاء العالم. هذا الكاتبة العالمية عشقت بغداد واستقرت بها مدة من الزمن ، وكتبت قصصها الشهيرة (جريمة في بغداد)  وقصة (وصلوا الى بغداد) وقصة (جريمة في قطار الشرق السريع). فهي تحاكي شهرزاد بغداد بطلة ألف ليلة وليلة التي انتشرت قصصها في بلدان العالم وترجمت إلى لغات عديدة منذ عام ١٧٠٤م. ولا أشك أبداً أن كريستي قرأت قصص ألف ليلة وليلة مما منحها ذلك الخيال الخصب الواسع. وربما تعود جذور بعض الشخصيات الجنية إلى تأثرها بهذا السفر الخالد.

الأسرة والنشأة

ولدت أغاثا ماري كلاريسا Agatha Mary Claressa  في ١٥ أيلول ١٨٩٠ لأب أمريكي وأم إنكليزية  (توفيت ١٩٢٦)، في مدينة توركوي Torkoy ، مقاطعة ديفون Devon البريطانية. وكانت الابنة الأصغر سناً لوالديها الأثرياء من الولايات المتحدة. في عائلة ميلر. وكان لديها خ وأخت هما أختها مارغريت فراي (١٨٧٩- ١٩٥٠) وأخوها لويس مونتان مونتا (١٨٨٠- ١٩٢٩) .
تعلمت أغاثا القراءة والكتابة بالشكل وليس بالحروف ، أي ليس بتهجئة الكلمات.  كما تعلمت الموسيقى في المنزل. خلال الحرب العالمية الأولى، عملت  كممرضة في المستشفى. وكانت تحب هذه المهنة ووصفتها بأنها واحدة من أكثر المهن المفيدة التي يمكن أن يفعلها الإنسان. وعملت أيضا كمساعدة في صيدلية، مما جعلها تعطي السم دوراً في قصصها.  
في عام ١٩١٤ تزوجت أغاثا بالعقيد آرتشيبالد كريستي (١٨٨٩- ١٩٦٢) Archibald Christie وكان عسكرياً ورجل أعمال بريطاني. وقد انضم إلى سلاح الطيران الملكي. وارتبط بعلاقة مع نانسي نيل التي كانت تعمل كاتبة في شركة التأمين التي كان يعمل فيها. في نيسان ١٩٢٨ قدم طلباً للطلاق ثم تزوج عشيقته.
وقد رزقت أغاثا من زوجها الأول بطفلة وحيدة هي روزاليند هيكس (١٩١٩- ٢٠٠٤) Rosalind Margaret Clarissa Hicks . في مدينة توركوي.  وعاشت مع زوج أمها ماكس مالوان وتزوجت عام ١٩٤٠ من ضابط في الجيش هو هوبرت بيشا ، ورزقت منه بابنها ماثيو بيشا عام ١٩٤٣. في عام ١٩٤٩ لقي زوجها مصرعه في ساحة المعركة. بعد ذلك تزوجت من أنتوني هيكس الذي حملت اسمه. في ٢٨ تشرين الأول ٢٠٠٤ توفيت روزاليندا تاركة ممتلكات تقدر بستمائة مليون جنيه إسترليني ورثتها من والدتها أغاثا كريستي.


زواجها بماكس مالوان
بدأت علاقة أجاثا بزوجها الثاني عالم الآثار ماكس مالوان Max Mallowan (١٩٠٤- ١٩٧٨) في لقاء صدفة. فقد كانت أجاثا تزور بغداد بين حين وآخر وتلتقي بوولي وزوجته اللذين كانا صديقين لها وطالعا بعض رواياتها. وكان ماكس يعاني من التهاب الزائدة الدودية، فكان يقيم في منزل وولي. في آذار ١٩٣٠ جاءت أجاثا لزيارتهما، فطلبت كاثرين زوجة وولي من ماكس أن يصطحب أجاثا في جولة في بغداد ، واطلاعها على الصحراء والأماكن المشوقة في الرحلة. زارا خرائب نفّر ، إحدى دويلات سومر، وأعجبا بمعالمها وبالزقورة الكئيبة. قضيا الليل في الديوانية مع ديتشبيرن المسؤول السياسي البريطانية. وكان فظاً ومستاءً من استضافتهما. توجها صباحاً إلى النجف الأشرف ، ولم يسُمح لهما بدخول المرقد المقدس لدى الشيعة. وشاهد عربات ترام تجرها الجياد وكانت جميلة لم ير نظيراً لها سوى في بريطانيا وسان فرانسيسكو. من النجف توجها بالسيارة إلى كربلاء لزيارة حصن الأخيضر الأموي الذي وصفته المس بيل وصفاً مفصلاً في كتابها (من خراب إلى خراب Amurath to Amurath). بعد ذلك توجه ماكس وأجاثا نحو بحيرة ملحية (الرزازة) لكن إطارات السيارة غرزت في الرمل فعادا إلى كربلاء حيث قضيا الليل في مركز شرطة ، كل في زنزانة منفردة!
بعد زيارة كربلاء توجها نحو بغداد فنزلا في فندق مود Maude على اسم القائد الانكليزي الجنرال ستانلي مود فاتح بغداد في ١١ آذار ١٩١٧ ومات فيها بنفس العام لإصابته بالكوليرا. كان اسم الفندق (فندق دجلة) وبعد الاحتلال البريطاني قام صاحبه (lمايكل زيا) وهو مسيحي بتغيير اسمه إلى (فندق مود).
من بغداد ركبا معاً قطار الشرق السريع المسمى قطار طوروس السريع متوجهاً إلى حلب ثم تركيا وبرلين حتى لندن. بعد تلك الصحبة الجميلة طلب يدها ثم تزوجا في ١١ أيلول ١٩٣٠. كانت تكبره بثلاثة عشر عاماً.
سافرا إلى مدينة البندقية الإيطالية لقضاء شهر العسل ، ثم توجها إلى أثينا حيث زارا بعض المتاحف والآثار هناك. تمرضت أجاثا بالتسمم التوميني (تعفن الأنسجة) ، وكان على ماكس أن يصل بغداد في ١٥ تشرين الأول ١٩٣٠ ، وبعد تعافيها سافر بالطائرة لوحده إلى بغداد. من هناك توجه إلى أور حيث باشر ببناء جناح جديد في بيت بعثة التنقيب. ودعاه الدكتور كامبيل تومسون للذهاب إلى نينوى ومساعدته في التنقيب في موقع هام.
عاشت أجاثا مع زوجها ماكس في إنكلترا في منزل في أكسفورد شاير. كما عاشا مدة من الزمن في لندن. وكانت تصاحبه في جولاته التنقيبية في الشرق الأوسط. فأقامت في نينوى وبغداد.

عالم الآثار ماكس مالوان
ولد ماكس مالوان في ٦ مايس ١٩٠٤ في لندن لعائلة موسرة. كان والده فريدريك مالوان  نمساوياً (١٨٧٤- ١٩٥٩) عمل ضابطاً في صنف المدفعية. توفي في لندن. وكان جده واسمه ماكس مالوان من أصل سلافي ، وكان يمتلك مطحنة قمح تعمل بالبخار حتى حصل على وسام ذهبي الامبراطور فرانز جوزيف. بعد الحرب العالمية الأولى احترقت المطحنة ، فأصبحت العائلة في عسر. الأمر الذي اضطر والده إلى ترك الجيش ويعمل خارج النمسا. في لندن أسس مشروعاً تجارياً في تجارة لب جوز الهند المجفف والشحوم والزيود. ثم أصبح رئيساً لشركة يونيليفر الشهيرة Unilever .
ووالدته هي السيدة دوفيفييه ، ولدت عام ١٨٧٦ وتوفيت عام ١٩٥٠ وبقيت محافظة على ثقافتها الباريسية رغم أنها عاشت خمسين عاماً في إنكلترا. وكان والدها مهندساً ووالدتها مغنية أوبرا مشهورة لمع اسمها في بروكسل في ثمانينيات القرن التاسع عشر لدورها في تجسيد شخصية سالومي في زمن النبي يحيى (ع).
درس ماكس في مدرسة روكبي Rokeby School في ضاحية ومبيلدون Wimbledon  بلندن ، ثم دخل مدرسة لانسنج Lansing  الخاصة في كانون الثاني ١٩١٧. في عام ١٩٢١ غادر المدرسة بسبب رفضه دخول طقوس التعميد وأداء الصلاة مرتين في الأسبوع. دخل جامعة أكسفورد ودرس فيها أربع سنوات ١٩٢١-١٩٢٥ . أعجب مع درس التاريخ وطرق التفكير والفلسفة وعلم الاجتماع والملاحم اليونانية وعلم الآثار والنحت الاغريقي. وكان يزور المتحف البريطاني ويشاهد عن كثب تفاصيل الآثار الرافدينية والرومانية واليونانية والمصرية  فزاد حباً وحماسة بالآثار. وعندما تخرج من الجامعة سأله عميد الكلية عن خططه فأجاب: أريد شيئاً واحداً هو الآثار. زوده العميد برسالة تعريف إلى المستشرق ديفيد هوكارث  ( ١٨٦٢-١٩٢٧) أمين متحف الاشموليان Ashmolean داخل جامعة أكسفورد. وكان هذا قد استلم في صباح ذلك اليوم رسالة من علم الِاثار تشارلز ليونارد وولي (١٨٨٠- ١٩٦٠) Charles Leonard Woolley تطلب منه إرسال مساعد ليعاونه في التنقيب في أور والموصل. ذهب مسرعاً إلى المتحف البريطاني واشترى تقريراً عن أور الخاص باكتشاف معبد الإله القمر كتبه وولي. وكان وولي قد اكتشف مدينة أور بين عامي ١٩٢٢- ١٩٢٤، حيث قضى موسمين من العمل في تل العمارنة. وهو مكتشف قبر الملكة موابي وأبنية دينية بالقرب من الزقورة.

اكتشاف آثار أور
في تشرين الأول ١٩٢٥ وصل ماكس مالوان  إلى أور ليلاً برفقة وليونارد وولي والمهندس المعماري أ. س. ويتبرن. استقلوا القطار من بغداد ثم السيارات من مفرق أور في رحلة استغرقت ١٢ ساعة. سكن الثلاثة في بين من الطابوق المفخور الذي جُمع من سطح التل الأثري ، وكان عمر أقدم طابوقة خمسة وعشرين قرناً. وعندما انتقلوا إلى أريدوا فككوا المنزل وبنوه مرة أخرى.
يقول ماكس: كان وولي يأمل دائماً في أن يكتشف بعض الإشارات إلى إبراهيم في الألواح المسمارية ، لكنه أفلح في أعادة تكوين خلفية الوطن الأصلي لنبي العهد القديم قبل هجرته من سومر (التي سميت بلاد بابل فيما بعد) إلى فلسطين. (١)
ويمضي ماكس بالقول: هذا الاتجاه في التفكير جعل وولي يشعر بأن هدف مهمته الحقيقي هو إعادة تكوين الصور المختفية للحضارة السومرية. وكان ذلك أعظم إنجازاته . وسيبقى إلى الأبد يحمل اسمه ، لأن اكتشافاته أظهرت أن أور السومرية كانت حقاً أحد مهاد الحضارة ، ولا تقل أهميتها عن مصر. هنا في الوادي الجنوبي لنهر الفرات وضع الكتبة القدماء نظاماً للكتابة بالخط المسماري المثلث الشكل الذي كان أحد الاختراعات الرئيسة في العالم وتمخّض أخيراً عن أول أبجدية وضعها الفينيقيون لاستعمال التجار بعد عام ١٤٠٠ قبل الميلاد.
لقائه بالمس بيل
يتحدث ماكس عن المس بيل (١٨٦٨- ١٩٢٦) Gertrude Bell التي كانت تزور أور بين حين وآخر لأنها أيضاً كانت مهتمة بالآثار ، فيقول: كانت سمعتها السياسية قد ضعفت لأنها تجاهلت تحذيرات المندوب السامي السير آرنولد ويلسون (١٨٨٤- ١٩٤٠) Arnold Talbot Wilson من نشوب اضطرابات خطيرة في العراق (يقصد ثورة عام ١٩٢٠ ) ، ولكن الاضطرابات الخطيرة وقعت فعلاً بما في ذلك مقتل الكثيرين خصوصاً في لواء الديوانية حيث تعرض قطار لهجوم كان يُستخدم كمستشفى. ثم تحول اهتمام المس بيل إلى تأسيس متحف ودائرة للآثار القديمة في العراق على أساس سليم. وكانت تقضي عدة أيام في أور تصارع وولي على حصة العراق من اللقى الأثرية. وكان المفروض التوزيع مناصفة، ولكن لم يكن بوسع أية لبوة أن تصون حقوق العراق أفضل منها. كانت آنذاك في السابعة والخمسين من العمر وكانت ما تزال ذات حيوية غير عادية. وأتذكر جيداً جولة في أريدو معها في يوم حار عندما لم يجرؤ أي من الرجال على أن يقترح عليها التوقف عن التجوال في المنطقة المتربة لتناول الغداء. وأتذكر يوم كان المتحف العراقي رفاً واحداً تشغل الآثار المختلفة وتكلّف المترجمين والمراجعين الأكفاء بترجمتها ومراجعتها.
يضيف ماكس: زرتها مع ويتبرن في منزلها الصغير في بغداد في طريق عودتنا إلى أرض الوطن عام ١٩٢٦ لنعبّر لها عن احترامنا. وقد سُرّت بزيارتنا ، إذ كانت تشعر بالوحدة والألم لأنها لم تعد ذات نفوذ في البلاد. وبعد ثلاثة أشهر من زيارتنا لها توفيت اثر جرعة زائدة من عقار منوّم يُظن أنها تعمدت تعاطيه.  

بعثة تنقيب إلى الموصل
في عام ١٩٣٢ تم تكليف ماكس مالوان لأول مرة لينّقب دون رئيس عليه. إذ كلفه السير إدجار بونهام كارتر (١٨٧٠- - ١٩٥٦) Edgar Bonham Carter  رئيس المدرسة البريطانية للآثار في العراق. ضمت البعثة ماكس وزوجته أجاثا والمعماري جون روس الذي سبق أن عمل في أور. وكان مدير الآثار في بغداد ألمانيا اسمه يوليوس يوردان. نزل الثلاثة في فندق مود وهو فندق بسيط ، ولكن صاحبه مايكل زيا كان لطيفاً ومضيافاً.
انطلق أعضاء البعثة بالقطار من بغداد إلى الموصل . بسبب هطول الأمطار نزلوا في استراحة محطة قطار الموصل التي كان يديرها مسيحي آثوري، لأنه من الصعب التوجه إلى منطقة الآثار في الأريجية. واكتشف ماكس أن الأرض مرهونة من قبل أربعة عشر تم نقلهم إلى المصرف العثماني ليوقعوا بالإبهام على العقد. استأجر ماكس داراً واسعة في الموصل يملكها داود الساعاتي يبلغ من العمر ٩٠ عاماً.
هناك اكتشفت البعثة إحدى عشرة مستوطنة من عصر العبيد ، ولقى ومقتنيات وحلي وتعاويذ وخرز وأختام طينية وتماثيل. كما اكتشف أواني فخارية وألواح وقبور بلغ عددها ٤٥ قبراً، وأسس لبيوت ومعابد. كما عثروا على تماثيل لأسود ودببة وعظام أسود في المقابر والمعابد. مما يشير إلى تواجدها هناك في تلك العصور. كما وجدوا عناصر مشتركة في فن العمارة بين آشور وأورك ، مما يعني أن المدينتين كانتا تحت سلطة مشتركة ، وأن النفوذ البابلي ربما امتد شمالاً إلى وادي الخابور. كما وجد تشابه واضح في أشكال التجارة والصلات الشخصية بين المدينتين العظيمتين ، مع أن أوروك كانت الأكبر فعلاً.  وحصل نزاع على توزيع اللقى بين الانكليز والعراقيين حتى وصل الأمر إلى مجلس الوزراء العراقي فتم تعديل القانون القديم لتوزيع الآثار المكتشفة في الموصل.
في عام ١٩٣٣ أنجز ماكس مالوان سجل التنقيبات مع الرسوم حيث كان السجل الوصفي في (٦٠٠) صفحة ومزين ب (٢٧٣) لوحاً مع مخطط للمقابر.  
خلال الحرب العالمية الثانية انتمى ماكس مالوان إلى استخبارات القوة الجوية البريطانية (٢-أ). وكان قائد السرب ستيفن جلانفيل (١٩٠٠- ١٩٥٤) Stephen Glanville الذي أصبح أستاذاً فيما بعد وعميداً لكلية الملك في كامريدج ، وكان سابقاً عام ١٩٢٥ موظفاً في هيئة موظفي قسم الآثار المصرية في المتحف البريطاني. أمضى ماكس عام ١٩٤٢ سنة في وزارة الطيران ، وكانت أجاثا تعيش معه في هامستيد Hampstead  شمال لندن. وكانت لندن تتعرض للغارات الألمانية فتهدم وتحرق الأبنية.
قد يتعجب القارئ عندما يشاهد هذه العلاقة القوية بين علماء الآثار وبين الأجهزة العسكرية والاستخبارية. وإذا كان ماكس وجلانفيل كذلك ، فقد سبقهما المس بيل ولورنس العرب وغيرهم. وكان ايدون ادواردز عالم الآثار المصرية يعمل في السفارة البريطانية في القاهرة.
تمت ترقية ماكس إلى رتبة قائد سرب ونُقل إلى القاهرة حيث التحق بمقر القوة الجوية البريطانية في القاهرة. وكانت أجاثا ترافقه وتعّرفت على ستيفن ، وهو الذي أقنعها بتغيير إحدى رواياتها خلافاً لرأيها. إذ كانت التي وضعتها أكثر إثارة وكانت أحداث الرواية تدور في مصر القديمة وحملت عنوان (الموت يحل في النهاية). في القاهرة استأجر ماكس وأجاثا بيتاً مطلاً على نهر النيل مقابل نادي الجزيرة الرياضي حيث كانا بإمكانهما مشاهدة مباراة الكريكت.
بعد أن خدم عاماً كاملاً في مقر قيادة القوة الجوية في الشرق الأوسط انتقل للعمل موظفاً للشؤون المدنية في إقليم طرابلس بليبيا.

ماكس يعود إلى التنقيب في العراق
في عام ١٩٤٩ تم تكليف ماكس بالتنقيب في نينوى. ولما وصل بغداد التقى بالدكتور ناجي الأصيل مدير الآثار العام الذي كان يدعم التنقيبات الواسعة التي تعود لعصور ما قبل التاريخ في أريدو بإشراف فؤاد سليمان اللوس سفر (١٩١١- ١٩٧٨) وسيتون لويد (١٩٠٢- ١٩٩٦) Seton Lioyd. أخبره الأصيل بموافقة جامعة شيكاغو على تمويل التنقيب في مدينة نفر. فآبدى ماكس رغبته في التنقيب في نمرود.
اصطحب ماكس زوجته إلى الموصل مع عضوين آخرين في البعثة الأول هو روبرت هاملتون (١٨٦٧- ١٩٤٤) Robert Hamilton المتخصص بآداب الاغريق والرومان ، وكان يتكلم العربية بطلاقة. والثاني  هو الدكتور محمود الأمين ممثل مديرية الآثار القديمة . وكان قد حصل على الدكتوراه في اللغات الشرقية من جامعة برلين قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية  ، ونشر كتابه (شريعة حمورابي). وأخيراً وجد حقل اختصاصه مدرساً في جامعة بغداد. وقد خلفه عالم الآثار طه باقر (١٩١٢- ١٩٨٤) في منصبه فيما بعد. وكان زميله فؤاد سفر الذي أصبح مفتش الآثار العام يتمتع بقابليات غير عادية ، وكان بارعاً في علم اللغة واشتهر بالتنقيب في أريدو.
 أقام أعضاء البعثة في منزل يعود للشيخ عبد الله النجفي وكان موسراً ومهذباً ومضيافاً ومتعاوناً. كان المنزل من طابقين سكن ماكس وأجاثا غرفة في الطابق العلوي ، ومقابلهما غرفة سكن فيها روبرت ومحمود معاً. والطابق الأرضي كان لغرفة الجلوس وغرفة الطعام وقاعة آثار وغرفة مظلمة لتحميض الأفلام. وكان المطبخ ومكان الخدم في الجهة المقابلة. وكان الخادم الهندي إبراهيم يطبخ لهم أكلات هندية بالكاري مع الرز بالزعفران. كان العمال الشرقاطيون الماهرون يعملون مع البعثة ، وكان رئيسهم عبد الخلف العنقود والثاني محمد خلف المصلح.
لم يأت لزيارة البعثة سوى الآباء الدومينيكان وفيليب براد بيرن نائب القنصل البريطاني الشاب في الموصل. وكان مساعده نسطورياً اسمه أبرام، وكانت ايسم زوجة فيليب قد كرست حياتها للعناية بالمقبرة الإنكليزية واشتهرت بأعمالها الصالحة. وكان هناك جون سبرنكفورد مدير معهد الآثار البريطاني وزوجته فيليس اللذان كانا متحمسين لشروع البعثة بالعمل. في عام ١٩٥١ اكتشفت البعثة مسلة آشور ناصربال. استمر البعثة في نينوى أحد عشر عاماً من عام ١٩٤٩ إلى عام ١٩٦٠.

انتاجها القصصي
في عام ١٩١٦ كانت أول رواياتها هي رواية (ثلوج على الصحراء snow upon the desert) التي لم يقبلها أي من الناشرين. ألفت بعدها رواية أخرى وهي (قضية ستايلز الغامضة) التي ظهر فيها هركول (هيركيول) بوارو (المحقق البلجيكي) للمرة الأولى وقد أدخلتها هذه القصة عالم الكتابة عندما قبلها أحد الناشرين عام ١٩٢٠ بعد أن رفض ستة من الناشرين طباعة وتوزيع روايتها.
وكانت أجاثا تكتب باسم مستعار هو ماري ويستماكوت Westmacott  Maryرواية (لوحة غير منجزة Unfinished Portrait) عام ١٩٣٤. في تلك الرواية تحدثت عن حياتها منذ طفولتها حتى بداية منتصف العمر. والرواية لا تصنف ضمن أفضل رواياتها لأنها مزيج من الأشخاص الحقيقيين والأحداث الخيالية. إذ تجسد شخصية سيليا صورة أجاثا الحقيقية.

ماكس يصف روايات أجاثا
بعد تسريحه من الخدمة عاد ماكس وأجاثا إلى بلدة توركوي وسكنا في بيت جميل زينته أنامل أجاثا بلمسات رائعة. وكان ماكس معجباً بها مع احترام لموهبتها في كتابة القصص البوليسية المشوقة.  
يقول عنها زوجها ماكس في مذكراته: في الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور أكملت أجاثا ٨٥ كتاباً أي بمعدل كتاب واحد لكل سنة من عمرها. وهو رقم خارق من حيث الإنتاجية نادراً ما فاقه أحد. كيف نفسر هذه الظاهرة؟ إنها ناشئة عن حالة دائمة من الخيال الجامح. منذ طفولتها المبكرة وهي تعيش في عالم خيالي من صنعها ، وتحيا باستمرار مع مخلوقات من تصورها. (٢- ب)
كتبت أجاثا شعراً وطبعت قصائدها الأولى بعنوان (طريق الأحلام) ونشرت آخرها بعنوان (قصائد) عام ١٩٧٣. ربما كانت أكثر مؤلفاتها رواجاً وإبداعاً سلسلة قصيرة من القصص الدينية لموسم الميلاد بعنوان (نجمة فوق بيت لحم) عام ١٩٦٥. لقد أدخلت أجاثا هذه الحكايات الجميلة المتعة الخالصة في نفوس الكثيرين، ويمكن تسميتها (القصص البوليسية المقدسة).
في كتابها (تعالوا احكوا لي كيف تعيشون) تضمن رحلة في الحياة الآثارية عندما تصف فيه الحياة اليومية في بعثة آثارية إلى شمال سوريا بين عامي ١٩٣٥ و ١٩٣٨. وقد ظهرت دعوات كثيرة لإعادة نشر هذا الكتاب على نحو غير عادي وصدر ثانية عام ١٩٧٥ ، واجتذب الكثير إلى علم الآثار الشرقية. (٢- ج)
من بين الصور الأدبية التي جربتها أجاثا القصص التي تحمل عنوان (السيد كْوِين الغامض The Mysterious Mr Quin) التي نشرت في مجموعة آذار ١٩٣٠. وهي قصص بوليسية كُتبت بإسلوب خيالي يقرب من قصص الجن ، وهي نتاج طبيعي لخيال أجاثا الفريد. يظهر السيد كوين الغامض ذو الوجود غير المرئي الذي يعمل وسيطاً في إحداث التغيير في الأوقات الحرجة دون أن يُعرف له مكان ومن غير تقديم أية مساعدة ظاهرية.
هناك قصتان نموذجيتان ، الأولى بعنوان (البيت في شيراز) وهي تذكّر خيالي يستند إلى زيارة قمنا بها إلى هذا المسكن المنعزل في عام ١٩٣٣. وكان له سقف مطلي يضم مجموعة صور تمثل زيارة مالك البين لإنكلترا في العقد التاسع من القرن التاسع عشر. وكانت بينها صورة تمثل جسر هولبورن ، واعتقد أن الشاه استخدم هذا البيت قصراً صيفياً. وهي تحفة رائعة في علم النفس . والقصة الأخرى المرتبطة بمكان تحمل عنوان (لؤلؤة الثمن) ، وهي تسجل زيارة البتراء في الأردن قمنا بها في الوقت نفسه. وتوضح هذه المجموعة من القصص المدى غير العادي لخيال أجاثا. (٢)
وعندما يسألها المعجبون عن أي الروايات المفضلة لديها ، وتجيبهم أن آراءها تتغير من حين إلى آخر ، لكنها تذكر دوماً رواية (قتل روجر أكرويد) (١٩٦٢) ، و (الحصان الشاحب) (١٩٦١) و (الاصبع المتحرك) (١٩٤٣) و (الليلة اللانهائية) (١٩٦٧). والرواية الأخيرة من الروايات المفضلة لدي أيضاً. ويعود السبب جزئياً إلى بنيتها: الفهم العميق لشخصية منحرفة سنحت لها فرصة التحول إلى الخير واختارت سبيل الشر. إن الدراسة الضمنية للخير والشر لا تغيب عن معظم كتب أجاثا مع فهم أصيل وبديهي للدراسة النفسية المرافقة له. (٣)
في رواية أخرى مفضلة بعنوان (الحصان الشاحب) وهو عنوان يشير إلى سِفْر الرؤيا للقديس يوحنا المعمدان. واستخدمت أجاثا السم الذي أشار به عليها طبيب في أمريكا. كان يمكن أن يؤدي السم إلى أنواع كثيرة من الموت ، ولكن هناك عارض تشخيصي واحد للطريقة التي قُتلت بها الضحية. فالرواية تستند إلى معرفة علمية دقيقة.
في يوم وصلت أجاثا رسالة من أحد دول أمريكا اللاتينية مؤرخة في ١٥ حزيران ١٩٧٥ تذكر فيها حالة كانت زوجة شابة تحاول قتل زوجها بدس سم الثاليوم له بجرعات صغيرة متكررة في فترة طويلة نسبياً. واختتمت الرسالة بهذه السطور: (أنا واثقة بذلك تماما ، ولو أنني لم أكن قد قرأت رواية (الحصان الشاحب) ، وعرفت آثار سم الثاليوم لما نجا (س) الذي لم ينقذه سوى المعالجة السريعة. وحتى لو توجه إلى المستشفى لما عرف الأطباء المشكلة في الوقت المناسب. مع تقديري وإعجابي).
تدور حوادث روايتين في مصر ، ويعود أحد الأسباب في ذلك إلى أننا سافرنا معاً ، ولكنهما لا تشيران إشارة خاصة إلى علم الآثار. إن بعض الأماكن التي أقمنا فيها مثل قصر الشتاء وإحدى رفيقات السفر، وهي ليدي فيرنون الشخصية اللطيفة المسنة ، تثير ذكريات شخصية. ويرد ذكرها في رواية (موت على النيل) ، وقد حُوّلت في عام ١٩٤٦ إلى مسرحية بعنوان (جريمة قتل على نهر النيل). والرواية الثانية التي تدور أحداثها في مصر هي (الموت يأتي في النهاية) عام ١٩٤٥.
تعد رواية (جريمة قتل في بلاد الرافدين) (١٩٦٣) أوثق صلة بعملنا. ولم يكن بالإمكان كتابتها إلا بفضل معرفة أور الكلدانيين ودوري كمدير بعثة ، وهو الدور الذي تولاه قبلي المرحوم ليونارد وولي وزوجته كاثرين الميالة للسيطرة. هنا ربما اقتربت أجاثاً من الوقائع ، وأظهرت قلقاً على ما يمكن أن تقوله هذه الشخصية الروائية. وقد صورتني أجاثا بالشخص إيموت ، الشخصية الثانوية المحترمة. (+) ص ٢٨٣
 وتأتي رواية (غائب في الريح) (١٩٤٤) تتحدث عن خلفية مألوفة لدى أجاثا ، وهي العراق. إذ تتناول القصة امرأة عائدة من زيارة ابنتها في العراق وهي مشلولة الحركة في القطار ، بسبب غرق خط السكة الحديد بمياه الفيضان. وهي حادثة مررنا بها فعلاً. القصة تقوم على الاستبطان  ، وهي إعادة تقويم الشخصية وتأمّل خطر التظاهر بالتفوق على الآخرين في المعرفة. ولقيت الروايا تقديراً عالياً في صحيفة نيويورك تايمز من قبل دوروثي هيوز (١٩٠٤- ١٩٩٣) Dorothy Hughes حيث كتبت: (لم أتأثر عاطفياً بقصة منذ قراءتي رواية (لقاء قصير) مثلما تأثرت برواية (غائب في الربيع). إنها تجربة تتطلب القوة، وهي أثر أدبي من الطراز الأول). (٤)
أما رواية (جريمة في قطار الشرق السريع Orient Express) (١٩٣٣) التي كتبتها في فندق بارا بالاس Para Palace في إسطنبول فقد تضمنت مشهداً حدث قبل كتابتها للرواية. فعندما كانت أجاثا في محطة قطار كاليه بفرنسا ، زلت قدمها على الرصيف وسقطت على السكة ، ولحسن الحظ كان أحد الحمالين قريباً وانتشلها قبل أن يشرع قطار الشرق السريع بالحركة. وكانت أجاثا تستخدم هذا القطار في سفرها من لندن إلى الشرق الأوسط وخاصة بغداد. ولذلك فهي خبيرة بتفاصيل عرباته وحراسه وخدمه وطبيعة الركاب ، وتعلم محطات وقوفه وكم يستغرق وقوفه في كل محطة ، والمناطق والدول التي يمر فيها. كل ذلك جسدته أجاثا في روايتها الشهيرة.
تم تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي (متوفر على اليوتيوب) وحاز على جائزة عام ١٩٧٤ بوصفه أكبر صادرات بريطانيا. كما حصل الفيلم على ثلاث جوائز من مجموع الجوائز السنوية البريطانية لعام ١٩٧٥، وأخير أفضل فيلم لعام ١٩٧٥، واختير ألبرت فيني أفضل ممثل ، واختيرت وندي هيلر أفضل ممثلة في ذلك العام. وقد حضرت أجاثا العرض الأول للفيلم وكان عمرها ٨٥ عاماً ، وقد تمتعت به كثيراً ، كما حضرت مأدبة في فندق كلاريجز Claridges Hotel   بحضور اللورد مونتباتن (١٩٠٠- ١٩٧٩) Louis Mountbatten ثم يودعها باحترام وتقدير.  
وتأتي مسرحية (مصيدة الفئران) التي نجحت نجاحاً منقطع النظير ، والتي استمر عرضها أكثر من أية مسرحية أخرى في العالم. توقعت أجاثا أن يستمر عرضها ثلاثة شهور عندما بدأ عرضها في مسرح السفير Ambassador الصغير عام ١٩٥٢ وكان لا يتسع أكثر من (٥٠٠) متفرج، وفي ٢٤ تشرين الثاني ١٩٧٥ تم الاحتفال بمرور ٢٣ عاماً على بدء عرضها. وقد تم عرضها (٢٧٠٠٠) حتى نيسان عام ٢٠١٩. من الطريف أنه في ١ نيسان ١٩٥٨ وخلال عرض خاص للمسرحية في سجن وورمود Wormwood Scrubs  تمكن سجينان من الفرار من السجن.
وكان الممثلون يتغيبون عن أداء العرض بسبب الوفاة أو المرض فيأتي آخرون مكانهم. وقد أدى التمثيل قرابة ١٣٢ ممثلاً وممثلة. لقد أصبح حضور مسرحية (مصيدة الفئران) أحد معالم لندن الشهيرة لا يقل عن زيارة قصر باكنغهام أو برج لندن التي لابد لأي زائر أو سائح أن يراها.
في ١ أيلول ١٩٦٥ أصدرت أجاثا كريستي مذكراتها بعنوان (أجاثا كريستي سيرة ذاتية Agatha Christie, A Autobiography ) التي استغرقت كتابتها خمسة عشر عاماً .

تكريم ماكس وأجاثا
في عام ١٩٥٥ كانت كريستي أول من تلقى جائزة كراند ماستر ، وهي أعلى تكريم لكتّب الغموض في أمريكا. وفي العام نفسه حازت على جائزة إدغار عن رواية (مقاضاة الشاهد). وفي عام ٢٠١٣ صوت أعضاء رابطة كتّاب الغموض على أن رواية (مقتل روجر اكرويد) أفضل رواية جريمة على الاطلاق. وفي ١٥ أيلول ٢٠١٥ ، وبالتزامن مع عيد ميلادها الـ ١٢٥ ، حازت رواية (ثم لم يبق أحد) على لقب (رواية كريستي المفضلة لدى الجمهور).
في عام ١٩٦٠ مُنح ماكس وسام قائد الإمبراطورية البريطانية C B E ، ثم وسام الفروسية عام ١٩٦٨. كما مُنحت أجاثا كريستي لقب السيدة Dame عام ١٩٧١. في عام ١٩٧٦ مُنح ماكس مالوان وسام المس بيل من قبل المدرسة البريطانية للآثار في العراق عن (الخدمات البارزة لعلم آثار بلاد الرافدين).

مشاهد بغدادية في روايات كريستي
في رواية (وصلوا إلى بغداد) تبدأ كريستي الفصل الأول بمشهد خروج أحد شخصيات الرواية (الكابتن كروسبي) من أحد المصارف في شارع البنوك (شارع السموأل) المجاور لبنك المركزي ومصرف الرافدين في شارع الرشيد. وتصف كريستي ذلك البنك فتقول : كان الجو بارداً قاتماً ورطباً ، يسيطر ضجيج الآلات الكاتبة ، الذي ينبعث من كواليسه. ثم تعرّج على وصف تفاصيل الشارع فتقول ( أما خارج شارع البنوك ، فقد كان الطقس مشمساً ، مفعماً بالغبار وصاخباً بأنواع مريعة من الضجيج حيث تختلط أصوات أبواق السيارات المتواصلة، بصراخ الباعة من مختلف الأصناف. كانت هناك مشاجرات ساخنة بين مجموعات صغيرة من الناس تبدو وكأنها مستعدة لقتل بعضها بعضاً. غير أنها في الواقع خليط من أصدقاء أوفياء. كانوا رجالاً ، وصبية وأولاداً يبيعون من كل أصناف الأشجار والمربى ، البرتقال والموز ، مناشف الحمام ، الأمشاط، شفرات الحلاقة ، وبضائع أخرى متنوعة يحملونا على صواني ويتنقلون بها عبر الشوارع بسرعة.. وتسمع أصوات راكبي الحمير والخيول والحمالين وهم يدفعون عرباتهم يصيحون: بالك! ، بالك Balek!, Balek! (يقصدون انتبه)) (٥)
فهي تصف تفاصيل الشارع والكسبة والبسطيات ومحتوياتها من السلع الصغيرة وكأنها كاميرا تلتقط الصور بعينيها وتحفظها في ذاكرتها ثم تستعيدها وهي تكتب سطور روايتها.
وتستخدم كريستي أسماء عراقية لشخصيات الرواية مثل (داكين) ويبدو مسيحياً أو يهودياً، وهو صاحب خان في الرواية. والشخصية الأخرى هو (صلاح حسن) الذي يقوم بنقل الرسائل السرية (٥-أ).  وعندما ركبت فيكتوريا قارباً من البصرة عبر شط العرب باتجاه بغداد كان (عبد السليمان) يقود المركب. ثم تصف أجاثا ملابس راكب من عرب الأهوار ، وتقول أنه زي شاذ يخلط بين الشرق والغربي. فوق ثوبه الطويل (الدشداشة) القطني المقلم ، كان يرتدي سترة كاكية بالية ، عتيقة مبقعة وممزقة. كان يضع شالاً أحمر باهتاً حشره في معطفه المهلهل، غير أن رأسه أنقذ أخيراً شرف الرداء العربي: حيث كانت الكوفية (الشماغ) ، وهي الزي التقليدي سوداء وبيضاء مشدودة في مكانها بواسطة عقال حريري. (٦)
في رواية (جريمة في بغداد) يبدأ المشهد الأول في فندق تايگرس بالاس (قصر دجلة) الواقع في السنك على شارع الرشيد من جهة ، ونهر دجلة من الجهة الأخرى. وسبق لي أن كتبت عن الفندق قبل عامين. وكانت كريستي تقيم فيه قبل زواجها من ماكس مالوان عام ١٩٣٠ . تبدأ بالقول (في بهو فندق تايگريس بالاس ببغداد كانت احدى الممرضات تكاد أن تفرغ من تحرير خطاب . ) (٧)  
وتذكر أن أحد إبطال الرواية وهي الممرضة ليذران سافرت بالقطار إلى كركوك. ومن القطار ركبت سيارة باتجاه مدينة الحسينية، وتصفها بأنها كبيرة وجميلة رائعة بمآذنها ونهرها وجسرها. وهذه المدينة خيالية من ابداع الكاتبة ، ولا يوجد اسم (الحسينية) لمدينة قرب كركوك. فهو ذو خلفية إسلامية وظفته أجاثا في الرواية. وقد سألت أحد أبناء كركوك إن كان اسماً قديماً في العهد الملكي فنفى ذلك وقال توجد مدن صغيرة قرب كركوك مثل قصبة امام فيها مقام منسوب للامام زين العابدين (ع). وتوجد آلتون كوبري وفيها نهر وجس ، وتوج طوزخرماتو وفيه نهر وأشجار، لكنها لم تحمل اسم الحسينية أبداً.

أجاثا في فندق قصر دجلة
قبل زواجها من ماكس كانت أجاثا كريستي تقيم في فندق قصر  ( تايگرس بالاس Tigris Palace Hotel). وفي مذكراتها (بالانكليزية) تصف الفندق فتقول: الفندق ليس سيئاً إطلاقاً. بعد أن تعبر المدخل المظلم تصل إلى بهو واسع لاستقبال الزوار يضم غرفة طعام ، مع ستائر مسدلة دوماً. في الطابق الأول توجد شرفة تحيط بكل الغرف. إذ يمكنك الجلوس أو الاستلقاء بلذة. أحد جوانب الفندق يطل على نهر دجلة حيث يمكنك التمتع بمنظر ، القوارب والقفف تغدي وتروح في النهر. عندما تحين وجبة الطعام تنزل إلى الطابق الأرضي حيث الظلام شبه دامس بسبب ضعف المصابيح الكهربائية. هناك تجد عدة وجبات في آن واحد، وجبة تلو الأخرى ، كل منها يحمل طعماً غريباً عن الأخرى. كتل كبيرة من اللحم المسلوق أو المقلي مع الرز، مع بطاطا ومخفوق البيض بالطماطة وغيرها. (٧-أ)
في جانب آخر من مذكراته تقول كريستي: لمتكن تعجبني حياة الفندق لأنه يشبه الحياة الإنكليزية. بغداد مدينة شرقية وما زالت. هناك أسواق عديدة مثل سوق النحاس (الصفافير) وهم يصنعون ويطرقون الأواني النحاسية ، وكل شيء يحتاجه المرء.
وفاة أجاثا كريستي
توفيت كريستي بسلام في 12 كانون الثاني عام 1976 في سن 85 لأسباب طبيعية في منزلها الذي يقع في وينتربروك Winter Brook، والينغفورد Waling Ford، أكسفورد شاير Oxfordshire. دُفنت بالقرب من باحة كنيسة سانت ماريSant Mary  . وكانت قد اختارت قطعة أرض لمثواها الأخير مع زوجها السير ماكس قبل عشرة أعوام من وفاتها. حضر مراسم الجنازة البسيطة نحو 20 مراسلًا من الصحف والتلفاز، إذ سافر بعضهم من مناطق بعيدة مثل أمريكا الجنوبية.
زُيّن قبر كريستي بثلاثين إكليلًا، بما في ذلك واحد من طاقم تمثيل المسرحية طويلة الأمد، (مصيدة الفئران)، وأرسلت دار نشر لارج بّرينت بوك في أولفير سكروفت إكليلًا بالنيابة عن العدد الكبير من القراء الممتنين.
كتب على شاهد القبر:
AGHATHA Mary CLARISSA
MALLOWAN
DBE
Agatha Christie Author- Playwright
Born 15 SEPTEMBER 1890 – DIED 12 JAN 1976
AFTER HUSBAND
MAX EDGAR LUCIEN
MALLOWAN
KT
Archeologist & Orientalist
Born 6 MAY 1904 – DIED 19 AUG 1978
 
منزل أجاثا كرسيتي في بغداد
يقع منزل ماكس مالوان وأجاثا كريستي في كرادة مريم على ضفة نهر دجلة قريباً من جسر الجمهورية ومبنى وزارة التخطيط. والدار حالياً مهدم وآيل للسقوط وفقد الكثير من جوانبه ومعالمه.
كريستي تصف بيتها
في مذكراتها وصفت أجاثا كريستي هذا المنزل بالقول: (لقد نسيت ذكر منزلنا في بغداد. كان لدينا منزلاً تركياً قديماً يقع على الضفة الغربية من نهر دجلة. لم يكن يشبه المنازل الحديثة التي تشبه الصناديق، بل كان بارداً وبهيجاً. كانت هناك باحة فيها عدة نخلات تصل إلى محجر الشرفة العلوية الداخلية. خلف الدار توجد بساتين نخل مروية ، وكوخ صغير مبني من الصفيح (التنك) حيث يلعب الأطفال بسرور . النساء يدخلن ويخرجن ويذهبن إلى النهر لغسل الصحون والقدور. الثري والفقير يعيشان متلاصقين  معاً في بغداد.
وتضيف أجاثا الحياة العمرانية في نهاية الأربعينيات فتقول (أغلب منازل بغداد الحديثة مستنسخة من مجلات فرنسية وألمانية وإيطالية . وهي قبيحة المنظر ، وغير ملائمة للمناخ في العراق. في بيتنا يمكنك النزول عدة درجات إلى السرداب البارد الذي يحفظك من حرارة النهار. والشبابيك ليسك صغيرة في أعلى الجدران يحفظك بارداً من شعاع الشمس الحارقة. ربما تحسنت توصيلات أنابيب المياه ، والمراحيض ملونة ، وكذلك أحواض المطابخ (السنگ) . أما مياه الصرف الصحي فتذهب مباشرة إلى النهر. ومياه السيفون لتنظيف المرحاض تبقى غير كافية. (٧-ب)
أما ماكس مالوان زوج أجاثا كريستي لأكثر من أربعين عاماً لم يذكر شيئاً في مذكراته عن منزله في بغداد. لكن الكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا (١٩١٩- ١٩٩٤) الذي كان صديقاً له وللكاتبة كريستي قد ذكر المنزل في مذكراته (شارع الأميرات) التي كتبها قبل وفاته بأشهر. ولد في بيت لحكم من أسرة سريانية أرثوذكسية.
جاء جبرا إلى العراق عام ١٩٤٨ ليعمل مدرساً في جامعة بغداد وبقي فيه لثلاثة عقود ، عاصر فيها العهد الملكي لمدة تسع سنوات ثم عاصر جمهوريات قاسم وعارف والبكر. وكانت له صداقات وعلاقات وثيقة مع أدباء وفنانين ومثقفين عراقيين. وهو رسام وشاعر وروائي وناقد أدبي. أنتج نحو (٧٠) من الروايات والكتب والمواد المترجمة. اعتنق جبرا الإسلام السني ليتزوج بلميعة العسكري. عمل في شركة نفط العراق ثم في وزارة الثقافة والاعلام العراقية لإجادته اللغة الإنكليزية وشهادته من جامعة هارفارد (١٩٥٢-١٩٥٤). وأصبح مواطناً عراقياً.
  توفي في بغداد ودُفن في مقبرة محمد السكران. وكان يسكن في منزله الذي بناه على قطعة أرض اشتراها في شارع الأميرات من علي حيدر الركابي، وبقي يدفع قسطها الشهري قرابة عشرين عاماً. كان منزله قريباً من السفارة المصرية ، وسكنته زوجته بعده. وفي عام ٢٠١٠ تعرضت السفارة لانفجار سيارة مفخخة أدى إلى سقوط ضحايا بالعشرات ، وحصلت أضرار في الشارع وكان بينها منزل جبرا حيث فقدت رسائله ولوحاته ومقتنياته الشخصية.
يقول جبرا: في أحد أيام عام ١٩٤٨ ذهبت إلى مكتبة مكنزي  (تأسست عام ١٩٢٠ ويديرها شخص اسكتلندي اسمه كينيث مكنزي  (١٨٨٠- ١٩٣٠)Kenneth MacKenzie  ، وتعرضت للحرق المكتبة للحرق في تظاهرات تشرين في ٢٥ تشرين الأول ٢٠١٩) . وكان يديرها كريم وهو عراقي ورث المكتبة من أصحابها الانكليز. وغدت له خبرة بالكتب الأجنبية ، إضافة إلى الكتب العربية التراثية والعراقية الحديثة . كانت تقع في شارع الرشيد في بناية بيت لينج. وكانت المكتبة ملتقى للمثقفين من عراقيين وأجانب ، وكانوا يسمون صاحب المكتبة كريم مكنزي.
في المكتبة التقى صدفة بروبرت هاملتون ( ١٩٠٥- ١٩٩٥) Robert Hamilton الذي كان يعمل في الآثار ، وكان مديراً لمتحف روكفلر Rockefeller  للآثار الفلسطينية  في القدس. وانضم إلى بعثة الآثار البريطانية في بغداد. قال له هاملتون: أتعرف ماكس مالوان؟ فقال: لا. فقال له: يجب أن تتعرف عليه ، انه شخصية فذة. لعلك لا تعرف الكثير عن الآثار العراقية. ماكس مالوان يعيد اكتشاف نمرود وأنا أعمل معه. دعاه هاملتون لتناول العشاء في منزل ماكس مالوان. ولما سأله عن العنوان قال: إنها دار الملك علي في كرادة مريم ، على شاطئ النهر. وأضاف: إنها دار تركية تعود للعهد العثماني ، ومن أجمل بيوت بغداد القديمة. فما كان من جبرا الذي لا يعرف محلات بغداد وأزقتها آنذاك إلا أن ناول هاملتون ورقة وطلب منه أن يرسم خريطة تعينه في الوصول إلى تلك الدار القائمة في الضفة الأخرى من نهر دجلة، لأن جبرا كان يسكن في جانب الرصافة في غرفة في بناية بالأعظمية أصبحت فيما بعد كلية العلوم. (٨)
يقول جبرا: عند الساعة الثامنة مساءً في اليوم التالي وصلت إلى الدار بطرازها البغدادي العثماني. والباحة محفوفة بالأشجار والورود في وسط بناء من طابقين، يُصعد إلى الأعلى منهما بدرج خشبي خارجي يؤدي إلى شرفة ضيقة طويلة تمتد مع امتداد الواجهة الداخلية، وتطل عليها أبواب الغرف العليا، كان أحدها مفتوحاً مضاءً في انتظار القادمين.
صعدت الدرج الخشبي ، وعلى كل درجة أصيص مزروع. وفي الحال خرج إليّ واستقبلني رجل مربوع القامة  في أواسط الأربعينات من عمره. نشيط الحركة ، بادي الذكاء، وقال لي على الفور: السيد جبرا؟ تمام؟ أنا ماكس مالوان. ثم جرّني من يدي إلى الداخل ليعرّفني على سيدة الدار ، المسز مالوان التي صافحتني بدورها، وقدمتني إلى رجلين آخرين في الغرفة قائلة: المستر روبرت هاملتون الذي تعرفه ، وقد أفرحني أنه دعاك إلينا هذا المساء ، والمستر سيتون لويد مستشار دائرة الآثار العراقية.
، وكانت في أواخر الخمسينات من عمرها ، على شيء من السمنة ومتانة الجسم ، عريضة الوجه ، وعلى ثقة من نفسها مع تواضع المضيّفة الكريمة. ولما علمت أنني فلسطيني طلبت مني الحدث عما جرى للقدس العزيز. فأخذتُ أتحدث ت عن فلسطين وما حدث فيها من قتل وتشريد واغتصاب الأرض من قبل الصهاينة. كانت تنصت وهي تحوك الصوف بسنارتين من كرة من الصوف في حضنها. وكانت تكرر: هذا كله يجب أن يعرفه العالم وبالتفصيل ... يجب أن يكتب المؤلفون عن هذه الفظائع. كل ذلك ولم يكن جبرا يعلم أن المسز مالوان هي أجاثا كريستي نفسها.
بعد ذلك اللقاء والعشاء في منزل ماكس وأجاثا ، التقى جبرا مرة أو مرتين في مناسبات عامة. ففي شهر نيسان عام ١٩٤٩ أقيمت حفلة تمثيلية باللغة الإنكليزية في قاعة الملك فيصل الثاني (قاعة الشعب حالياً في باب المعظم). وكانت تلك المناسبات تجمع مثقفي بغداد من عراقيين وأجانب ، لأن المدينة لم تكن قد اتسعت كثيراً عمراناً وسكاناً. وكان أساتذة الكليات والخريجون الجامعيون وهم قلائل ، تجمعهم هذه المناسبات الثقافية كالمحاضرات العامة والمعارض الفنية أو حفلات الموسيقى الكلاسيكية التي تقدمها الفرقة السيمفونية العراقية الناشئة أو المسرحيات التي تقدمها الفرق الزائرة لبغداد.
يضيف جبرا : في تلك الحفلة ، في فترة الاستراحة ، خرجتُ مع رفيق لي إلى قاعة المرطبات كغيري من المتفرجين، وإذا نحن أمام مالوان وزوجته نشرب القهوة (لم يكن البيبسي أو الكوكا كولا قد دخل العراق بعد) ، وعلّقنا على ما رأينا من تمثيل تعليقاً عابراً ، وتساءلنا عن نقطة أو نقطتين. ولما عدت إلى الكاونتر لأضع عني فنجان القهوة ، قابلني دزموند ستيوارت وسألني متفكهاً: هل وجدتم حلاً للجريمة؟ لم أفهم قصده وقلت: أي جريمة؟ أجاب: جريمة من اختراع السيدة التي رأيتك تتحدث إليها. قلت: آسف ، ما زلت لا أفهم قصدك. فقال: ألم تكن تتحدث إلى أجاثا كريستي؟ أدهشني سؤاله ، وحسبته ما زال يتندّر ، وقلت ببساطة: كنت أتحدث إلي ماكس مالوان وزوجته. وهتف: ظننتك تعلم! المسز مالوان هذه هي كاتبة الروايات البوليسية أجاثا كريستي. فصرخت: مستحيل! ، فرد عليّ: اذهب إليها وتأكد!. بعد انتهاء المسرحية أسرعت باحثاً عن المسز مالوان فوجدتها مع زوجها ينتظران سيارتهما ، توجهت إليها وسألتها: هل أنت حقاً أجاثا كريستي ؟ ، ضحكت وأجابت ببساطة: أجل. قلت : يؤسفني جدا أنني لم أكن أعلم ذلك. قالت: أحسن ، أحسن ، متى ستزورنا في نمرود؟
علمت بعد ذلك عن حياتها ومؤلفاتها ، وأنها تعرفت عليه في العراق. وأنها ترافقه إلى آقطار الشرق العربي حيث كان يعمل. وقيل أنها كانت تنفق من أموالها الخاصة على بعض مشاريعه الآركيولوجية.
وكان الموسم الذي تقضيه مع زوجها في العراق منذ سنوات يبدأ في أواخر الشتاء ، وينتهي بعد ثلاثة أشهر أو أربعة في أواسط الربيع. ولم تكن تطيل البقاء عادة في بغداد ، بل تفضل الوجود بين الحفريات وتلالها وأكوام ترابها، ومع العمال والباحثين واللقى الأثرية التي يعثرون عليها بين آونة وأخرى. وهناك تكتب ، وقد عزلت نفسها ، بشكل غريب وغير متوقع ، عن المدينة المعاصرة وحياتها ، لتحيا في جو من العلاقات والأماكن والشخصيات التي يختلقها خيالها بعيداً عما يحيط بها كل البعد ، مكاناً وزماناً وأناساً، بحيث بقي علمها الروائي عالم سنوات العشرينيات ، ورفضت أن تغير شيئاً فيه.
لقد قرأت لها أيامئذٍ روايتين تقع أحداثهما في العراق هما (جريمة في وادي الرافدين) و (جاؤا إلى بغداد). وقد وصفت فيها أسواق البصرة في واحدة ، وبعض الوصف لفندق زيا وصاحبه ببغداد في الثانية. (٩)
  زار جبرا إبراهيم جبرا موقع النمرود ، وشاهد التماثيل المكتشفة. وتحت ظليلة معدنية وجد أجاثا كريستي ومعها سكرتيرتها وثلاثة من أعضاء بعثة التنقيب وهم يشاهدون لوحة شليمنصر المكتوبة بالحروف المسمارية. وكانت أجاثا قد هيأت الشاي الإنكليزي مع الحليب البارد والمعجنات والزبدة والمربى ، كأي سيدة في منزلها في لندن.

ويومها شاهدتُ الغرفة الصغيرة المبنية من الِلبن المجفف بالشمس ، التي جعلت منها أجاثا كريستي مكتبتها وملجأها بين الأطلال وتماثيل الثيران المجنحة والجداريات الرخامية المنحوتة التي كانت بعض بقايا القصر الملكي ، وعلي مرأي من رأس مرمري هائل الحجم ملقى على الأرض.
وفي صيف ١٩٨٦ زرت نمرود ، بعد الزيارة الأولى بخمس وثلاثين عاماً ، مع أعضاء رابطة نقاد الفن في العراق ، رأيت غرفة مغلقة ، فما فتح أحد الحراس بابها الخشبي البدائي ، فإذا هي غرفة أجاثا كريستي الصغيرة إياها. وقد جعلتها الكاتبة غرفة إنكليزية ، رغم ضيقها الشديد، بما فيها الموقد الإنكليزي Fire place مع رفه التقليدي Mantel piece . وفي الموقد تحرق الأحطاب في الليالي الباردة ، وهي تخترع في ضوء مصباح نفطي تلك التداخلات والعلاقات الخفية والظاهرة في جرائم تجعل لحبكتها المعقدة سحراً يتخطى الزمان والمكان.
وأغلب الظن أنها في ربيع تلك السنة بالذات عام ١٩٥١ ، كتبت في تلك الغرفة الطينية الصغيرة ، مسرحيتها التي سمتها (مصيدة الفئران) والتي افتتح موسمها بعد ذلك بسنة واحدة في لندن، فنجحت نجاحاً عجيباً.
في أوائل الستينيات ، وقد تخطت أجاثا كريستي السبعين عاماً ، وكانت زياراتها لبغداد بدأت تتناقص ، سألتها يوماً: كم رواية كتبتِ حتى الآن؟ فقالت: أحصيتها منذ مدة ، فوجدت أنها (٥٦) رواية . ولكنني قرأت قبل أيام مقالة عني يقول فيها صاحبها إنني كتبت اثنتين وستين رواية... اعتقد أن صاحب المقالة أقرب للصواب مني ، ثم أضافت ضاحكة: في الواقع عندما تتخطى الرقم الخمسين لا يعود للرقم أهمية.


بيت أجاثا كريستي كما رأيته

في ٢٢ شباط ٢٠٢٣ زرت الدار القديمة رقم (٤٩) في المحلة رقم (٢٢٤) في الكرخ التي سكنتها أجاثا وزوجها ماكس مالوان لقرابة أربعة عقود في كرادة مريم. كانت الدار شبه مهدمة بسبب عناصر الجو والمطر والريح ، إضافة إلى الإهمال وعدم إجراء أية صيانة عليها منذ ما يقارب ربع قرن، وقد كتب على جداره عبارة (لا تقترب) و (انتبه آيل للسقوط) كتحذير من احتمال انهيار الدار في أية لحظة. ولا توجد معلومات عن صاحب الدار ولكن قيل لي بأن صاحبه يقيم خارج العراق ، ولا أحد يشتريه لأنه إصلاحه وإعماره يكلف كثيراً. والدار مسجل في دائرة التراث التابعة لوزارة الثقافة والآثار ولا يمكن هدمه وإنشاء بناية مكانه خاصة أن موقعه الاستراتيجي يجعله جاذباً للمشاريع الاستثمارية كالمطاعم والمقاهي والفنادق.

وضع الدار حالياً يختلف عن الصور القديمة لها حيث كان اللون الأبيض يكسوها وشرفاتها تطل نحو النهر كأنها نوارس تحتضن مياه دجلة الخالد. لقد سكنها الملك علي (١٨٧٩- ١٩٣٥) وهو والد الأمير عبد الإله والملكة عالية ، وشقيق الملك فيصل الأول (١٨٨٣-١٩٣٣) ، وكان قد قدم إلى العراق بعد هزيمته من المحافظة على العرش الهاشمي في الحجاز بعد والده الشريف حسين.
هذا الدار شهد زيارات الكثير من علماء الآثار المشهورين ومهندسين معماريين ورسامين وكتّاب وباحثون أجانب إضافة إلى شخصيات عراقية ومسؤولين ومهتمين بالأثار العراقية والحضارات القديمة.

لطالما جلست أجاثا كريستي في شرفة المنزل وهي تحتسي شاي الساعة الخامسة عصرا ، وهو تقليد إنكليزي عريق ما يزال قائماً. كما كانت تتأمل في نهر دجلة وتراقب الزوارق والمراكب التي تحمل البضائع مثل (شركة عبد القادر الخضيري للنقل النهري) و(شركة بيت لينج للنقل النهري) التي كانت تمخر مياه نهر دجلة من بغداد إلى البصرة. والجلوس ليلاً في الشرفة خلال صيف بغداد كان بالتأكيد يمنح الشعور بالارتياح والأمان ، ومصابيح جان

أخر الأخبار