في أقاصي هور الحويزة الواقع شرق محافظة ميسان (366 كلم جنوب بغداد)، كان دخان كثيف يغطي الأفق كأنه ضباب شتائي، وبالرغم من حرارة الشمس التي بلغت ذروتها في تموز، إلا أن الناشط البيئي أحمد صالح نعمة، كان يقف مع وفد يمثله اثنان من وزارة الزراعة، بحثا عن أسباب تصاعد الدخان الذي بدأ يغزو المدن والقصبات المجاورة للهور منذ أربعة أيام.
كان الشك يدور حول وجود حرائق مفتعلة، لكن نعمة ينفي ذلك، ويؤكد أنها “انبعاثات دخانية طبيعية من الأرض نتيجة جفاف الأهوار تسببت في حرائق هنا وهناك”.
ويشير نعمة، إلى أن “الأهوار كانت قبل جفافها كوابح للانبعاثات الغازية والحرارة، وتعمل كمبردات طبيعية للمكامن النفطية التي تصدر روائح وأبخرة وغازات، وتحترق بشكل مخيف وكثيف”.
وشكا محافظ ميسان حبيب الفرطوسي، الاثنين الماضي، من شح المياه في الأقضية والنواحي، نتيجة قطعها بالكامل عن الأهوار، معربا عن قلقه من جفاف الأهوار، ونفوق الثروة السمكية.
يسترسل نعمة: “وصلنا إلى نقطة نهاية الحدود العراقية مع إيران، وكان ذلك واضحا جدا، لفك تكن هناك حرائق مفتعلة، وإنما غازات وحرائق تنشب جراء الحرارة والانبعاثات”.
“أبلغنا ضابط الحدود الموجود، وهو يشير بيده إلى مساحة شاسعة، أن هذه المنطقة التي أمامنا ليس فيها حريق، لكنها ستحترق خلال أقل من ساعة”، -يروي نعمة- “سألناه لماذا أقل من ساعة؟”.
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة والنصف صباحا، وستصل درجة الحرارة بعد ساعة إلى وقت الذروة، وهذا ما حدث بالفعل، يضيف الناشط البيئي “صرنا نشاهد حرائق في أماكن كنا نشاهدها قبل ساعة ولم يكن فيها أي شيء، وبالتالي تحققنا من وجود غازات وانبعاثات دخانية وكربونية تساهم أثناء ارتفاع الحرارة في إشعال حرائق”.
ميسان أكثر تضرراً
ويتابع نعمة أن “ميسان إحدى أكثر المحافظات تضررا بالجفاف، إذ تشهد تدهورا مائيا خطيرا جدا، بعدما جفت أهوارها بنسبة مئة بالمئة للمرة الرابعة خلال خمس سنوات، ما أثر سلبا على التنوع البيولوجي وأيضا على التوزيع الجغرافي للسكان فقد حدث تغيير ديمغرافي، وأيضا حدث تدهور بالنظام البيئي فالسلم الغذائي للحيوانات والحشرات تضرر بشكل كبير جدا”.
ويضيف متحسرا، أن “الشح المائي الموجود في ميسان هو أقصى شح مائي تمر به المحافظة منذ عقود طويلة وهي الأكثر تضررا من بين كل المحافظات، نعم توجد محافظات متضررة كالبصرة والناصرية والسماوة، ولكن ميسان لديها أطول شبكة إروائية وبالتالي هي المتضرر الأكبر”.
ويرجع نعمة بعض الأسباب إلى “سوء إدارة ملف المياه من قبل وزارة الموارد المائية، بسبب تجهيز وزارة الزراعة بكل الحصة المائية للخطة الزراعية التي أنتجت بها أكثر من 6 ملايين ونصف طن من الحنطة، فكان استهلاك هذه المياه وبالاً على الطبيعة وعلى المحافظات الجنوبية”.
وحاولنا الحصول على إجابة من متحدثي وزارتي الموارد المائية والزراعة، حول إدارة المياه في خطط الزراعة في الموسم الحالي، إلا أن أحدا منهما لم يجب على الاتصالات.
ويردف نعمة: “كان على الحكومة أن تعمل بمبدأ تقاسم الضرر، وتوزع الماء القليل بعدالة، ولو عملت به، لما جفت المحافظات الجنوبية مثلما جفت الآن، وبالتالي تضرر الأهالي ومات الجاموس ونفقت مليارات الأسماك، وانتهت السياحة في الأهوار، وفي هذا العام إذا وصلنا إلى شهر تشرين الثاني نوفمبر ولم تأت الأمطار فنحن في مشكلة حقيقية قد تصل إلى عدم وصول الماء إلى المنازل حتى في العاصمة وليس في المحافظات فقط”.
وحذر ناشطون من كارثة بيئية وإنسانية تضرب أهوار الحويزة، بعد تعرض أكثر من 15 قرية، وأنهار رئيسية كانت تغذي المنطقة للجفاف، ما تسبب بنفوق واسع للجاموس.
وتتعرض المجتمعات الريفية لتغيير ديمغرافي وحركة نزوح تحت وطأة الجفاف الذي يشتد في عموم أنحاء العراق ولا سيما في المحافظات الجنوبية، ما تسبب في تدهور الثروات الحيوانية والسمكية، وتراجع جودة التربة، وأثر سلبا على السلم الغذائي والتوازن البيئي الموجود في الأرياف.
الأسوأ منذ 80 عاما
من جهته، يؤكد خبير الأهوار والناشط البيئي جاسم الأسدي، أن “العراق يمر بأسوأ أزمة مائية منذ أكثر من ثمانين عاما”، مشيرا إلى أن “الأزمة الحالية تُعد الأخطر في تاريخ البلاد من حيث الاستمرار والعمق والتأثيرات البيئية والاقتصادية”.
ويضيف الأسدي، أن “المسؤولين العراقيين يؤكدون أن الوضع المائي الحالي هو الأسوأ منذ عام 1940″، مضيفا: “هو كذلك فعلا، إذ إن 97 بالمئة من مياه نهر الفرات مصدرها من خارج الحدود، وتحديدا من تركيا وسوريا، وكذلك الحال مع نهر دجلة إلى حد كبير”.
ويوضح أن “تركيا أكملت بناء سد أليسو، تلاه سد آخر، وتعتزم بناء سد ثالث يُدعى “الجزرة” لا يبعد سوى 35 كم عن الحدود السورية”، مبينا أن “هذه المشاريع تؤثر بشكل مباشر على كميات المياه المتدفقة إلى العراق”.
ويشير الأسدي إلى أن “إيران هي الأخرى أنشأت نفقا لتحويل مياه نهر الزاب باتجاه أراضيها، ما أدى إلى انخفاض منسوب المياه الواصلة إلى سد دوكان إلى أقل من متر مكعب واحد في الثانية خلال فترات معينة من هذا العام”.
ويتابع أن “الخزين الاستراتيجي في السدود الكبرى مثل الموصل وحديثة ودوكان وحمرين وحوض الثرثار، إضافة إلى السدود الصغيرة الأخرى، لا يتجاوز اليوم 8 مليارات متر مكعب، بعدما كان العراق يمتلك خزينا مائيا تجاوز 65 مليار متر مكعب في نهاية عام 2019″، عازيا هذا التراجع الكبير خلال عامين فقط، إلى “سوء الإدارة المائية، وتبديد المياه إما بتصريفها نحو البحر، أو بالاستهلاك الزراعي الداخلي غير المنظم”.
ويوضح قائلا: “للأسف الشديد، الجفاف الحالي هو جفاف طويل ومستمر منذ بداية عام 2021 وها نحن على أبواب دخوله عامه الخامس”، مبينا أن “هذا الجفاف لم يترك مجالا إلا وطاله، بدءا من الأراضي الزراعية، مرورا بالأهوار، وانتهاء بالثروات الحيوانية والسمكية”.
ويشير إلى أن “الخطة الزراعية تم تخفيضها بأكثر من 60 بالمئة نتيجة التصحر، فيما لم يتبق من الأهوار المغمورة سوى أقل من 20 بالمئة من الخطة الموضوعة”، لافتا إلى أن “العراق فقد أكثر من 95 بالمئة من مخزونه السمكي، كما تضرر أكثر من 32 بالمئة من الجاموس والمحميات البيئية، والطيور المهاجرة لم تعد تقصد الأهوار، بسبب جفاف البحيرات وفقدان مواطنها الطبيعية”.
وفي سياق حديثه عن العلاقات المائية مع تركيا، يؤكد الأسدي أن “العراق لا يتلقى الكميات التي يحتاجها، وإن ما يصل اليوم إلى سد الموصل لا يكفي الاحتياجات المحلية”، مضيفا أن “تصريف المياه من السد زاد في الفترة الأخيرة بمعدل 100 متر مكعب في الثانية، رغم أن الخزين المتبقي فيه أقل من 2.5 مليار متر مكعب”.
الخزين الميت !
ويتابع “قد لا أجزم بأن سد الموصل سيجف تماما العام المقبل، لكن المؤشرات تقول إنه سيصل إلى مرحلة الخزين الميت، التي لا يمكن فيها استخدام المياه إلا عبر المضخات، كما حدث مع بحيرة الثرثار”، مشيرا إلى أن “العراق اضطر، ولأول مرة في تاريخه، إلى ضخ المياه من بحيرة الثرثار لتعزيز نهري دجلة والفرات، وهو مؤشر خطير على أزمة غير مسبوقة”.
وينتقد الأسدي تجاهل صناع القرار للأزمة المائية، وفيما يشير إلى أن “الاهتمام الرسمي ظل منصبا على النفط بوصفه مصدر التمويل الأساسي للرواتب والنفقات”، يضيف: “للأسف، لم نراعِ الظروف المائية الحالية ولا المستقبلية، ولا نملك فريقا تفاوضيا قويا ومزودا بالمعلومات والإمكانات”، مؤكدا أن العراق وقع عام 1964 بروتوكولا مائيا مع تركيا، كان يقر للعراق بحق بناء سدود على أعالي دجلة والفرات، لكن شيئا من ذلك لم يُنفّذ”.
ويختتم الأسدي محذرا من أن “العراق مقبل على كارثة، فإذا لم تهطل الأمطار هذا الشتاء، ولم نحصل على واردات إضافية، فإن صيف 2026 سيكون الأخطر، وقد تصبح الأهوار قاحلة بالكامل بحلول تموز من ذلك العام”.
ويعتمد العراق على مصادر مائية خارج حدوده بنسبة تتجاوز 70 بالمئة من موارده المائية الكلية، وتحديدا من نهري دجلة والفرات القادمين من تركيا وإيران وسوريا. ومع تزايد إنشاء السدود الكبرى في تركيا ضمن مشروع “الأناضول الكبرى GAP”، بدأت حصة العراق المائية بالتراجع بشكل متسارع منذ التسعينيات.
في السنوات الأخيرة، تفاقمت الأزمة بشكل غير مسبوق. وقد بدأت تركيا بتشغيل سد إليسو على نهر دجلة عام 2020، وهو ما أدى إلى انخفاض كبير في مناسيب النهر داخل الأراضي العراقية، وتبع ذلك تشغيل سد “تشو” وسد “روائي”، وتخطيط لبناء سد “الجزرة”، مما يعني مزيدا من التحكم في التدفقات المائية نحو العراق.
ورغم الاجتماعات الرسمية والاتفاقات الفنية، لم تُثمر جهود التفاوض العراقي عن ضمانات دائمة أو ملزمة لتحديد حصة مياه مستقرة، بل اكتفت تركيا غالبا بـ”دفعات مؤقتة” من المياه لتخفيف الأزمة، وهي دفعات محدودة وغير كافية وفق مختصين.
وفي بداية تموز الحالي، وافق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على طلب العراق بزيادة معدل إطلاق المياه إلى 420 مترا مكعبا في الثانية لحل أزمة الجفاف في البلاد.
وعن ذلك، يعلق الخبير المائي تحسين الموسوي، بأن “العراق لم ير شيئا من تلك الإطلاقات، وكنا تحدثنا أن هذه الإطلاقات اذا جاءت فأنها لا تروي، إنما ستكون لدفع الضرر والتلوث والتبخر، لفترة معينة، لكن اتضح أن تركيا لم تف بالتزاماتها”.
وبشأن الوضع المائي الحالي، يشير إلى أن “الأزمة تصاعدت في محافظة ذي قار وكذلك السماوة والديوانية ووصل الأمر إلى بابل، وسنشهد معاناة حتى في أعالي بغداد وهذا أمر متوقع مع انتهاء الخزين الاستراتيجي تماما وارتفاع درجة الحرارة خلال شهري تموز وآب وزيادة نسبة التبخر”.
ويشير إلى أن “الوضع المائي حرج جدا، وسيكون الأمر أسوأ من دون إطلاقات من دول المشاركة المائية، لذا يجب الضغط على الجانب التركي سواء بالدبلوماسية النشطة أو اللجوء إلى المحاكم الدولية إذا اضطررنا، لأن ما يجري هو إضرار كبير للعراق”.
ومنذ عام 2021، يواجه العراق موجة جفاف غير مسبوقة، هي الأطول والأشد خلال القرن الحالي. وقد أدى هذا الجفاف إلى انخفاض مستويات المياه في السدود والأنهر إلى مستويات حرجة، وتراجع المساحات الزراعية بنسبة تجاوزت 60 بالمئة، وجفاف أكثر من 80 بالمئة من مساحة الأهوار المسجلة ضمن لائحة التراث العالمي، ونفوق أعداد ضخمة من الجاموس والأسماك وانهيار الحياة البرية، ونزوح آلاف العائلات من مناطق الأهوار إلى أطراف المدن.
وعلى الرغم من التحذيرات المحلية والدولية، لم تضع الحكومة العراقية حتى الآن استراتيجية مائية شاملة مستدامة، وسط تحديات تتعلق بالتغير المناخي، وسوء الإدارة الداخلية، وضعف الموقف التفاوضي مع دول الجوار المائي.
لحظة صادمة
إلى ذلك، يصف عضو تجمع حماية البيئة والتنوع الإحيائي أحمد حمدان، الشح الذي يواجهه العراق هذا العام بـ”غير المسبوق”، مؤكدا أن “الجفاف وصل إلى مراحل متقدمة وسيعيش الجنوب العراقي أوضاعا صعبة بجفاف أغلب الأنهار الفرعية، فأغلب سكان الأهوار هرعوا إلى المدن القريبة بعد نفوق مواشيهم في أطراف الأهوار”.
ويضيف، “إنها لحظة صادمة في تاريخ العراقيين، لاسيما الناشطين في مجال الزراعة والبيئة وتربية الحيوانات والمواشي، ويجب أن يتخذوا إجراءات احترازية للحؤول دون ضياع مزارعهم وثروتهم الحيوانية”.
ويشير إلى أن “جميع الحلول بعيدة الأمد، ولا حلول آنية إلا بالضغط على دول المنبع، فوضع السدود والخزانات لحصاد المياه، قد تكون حلولا ناجعة لكن على المستوى البعيد”، فيما يأمل أن “تنخفض حدة هذه الشحة والجفاف بحلول الشتاء وتساقط الأمطار قريبا”.