سلطت صحيفة "الغارديان" البريطانية الضوء على مخاطر الجفاف التي تهدد مناطق الأهوار العراقية التي يعتقد بأنها كانت تاريخياً بمثابة جنة عدن، بسبب التعامل معها وسكانها كأنهم صفقات ومصالح تتقاسمها شركات النفط، وتتسبب بجفافها الذي وصل إلى مستوى غير مسبوق، بسبب اعتماد النشاطات النفطية، على موارد المياه.
وتناول التقرير الاستقصائي في الصحيفة البريطانية ، قصة مصطفى هاشم (23 عاماً) الذي كان يبحر بقاربه الخشبي في مياه الأهوار الضحلة في منطقة الحويزة، ثم يوقف المحرك ويتنقل للاعتماد على مجداف تقليدي لتجنب الجذور المائية والطين الكثيف، وهو ما يجعل وصوله إلى منطقة "أم النعج" يستغرق حوالي ساعة ونصف، والتي كانت في الماضي بحيرة حافلة بالحياة تعج بالقوارب وغناء الطيور، لكن الآن يبلغ عمق المياه فيها حوالي نصف متر فقط.
ونقل التقرير البريطاني عن مصطفى قوله، فيما بدا في الأفق وميض النيران المنبعثة من حقول نفط "حلفايا"، إنه "قبل عامين، كانت هناك عائلات وصيادون في كل مكان، وكان بمقدورك سماع الضحكات، وتخبط السمك في الماء، لكن اليوم لا يوجد شيء".
ووصف التقرير الأراضي الرطبة في الجنوب العراقي، والمعروفة باسم "أهوار بلاد ما بين النهرين"، بأنها من بين أكثر النظم الإيكولوجية المهددة بالانقراض في العالم، حيث يعتقد البعض أنها كانت تضم جنة عدن بحسب معتقدات دينية، مذكراً بأنه تم الاعتراف بها كموقع للتراث العالمي لليونسكو في العام 2016 ومحمية منذ العام 2007 كأراضي رطبة تتمتع بأهمية دولية بموجب "معاهدة رامسار".
ولفت التقرير إلى أن الأهوار امتدت في السابق على طول 200 كم من الناصرية إلى البصرة، وشكلت مجتمعاً مائياً ثرياً وواسعاً.
وتابع التقرير أنه تحت سطح المياه، كان هناك نوع آخر من الثروة وهو النفط، لافتاً إلى أنه تتداخل فيها 3 امتيازات نفطية استراتيجية مع المنطقة المحمية، وهي حلفايا وحويزة بالإضافة إلى حقول مجنون التي تعتبر إحدى عمالقة الآبار في العالم باحتياطيات مقدرة بنحو 38 مليار برميل.
وأوضح التقرير أن النشاطات المعتمدة من أجل استخراج هذا النفط، تستدعي شهية كبيرة للمياه، في هذه الأرض المهددة فعلياً بالجفاف والتصحر.
وأشار التقرير إلى أن جد مصطفى، قاصد (87 عاماً) قاد قاربه في يوم من الأيام، مسافة أكثر من 100 كيلومتر، من الحويزة إلى البصرة معتمداً على المجداف الخشبي فقط وعلى ذاكرته للطريق.
ونقل التقرير عنه قوله "لم نكن نعرف ما هي السيارات، ولم نكن بحاجة إليها.. فقد كنا شعباً من الماء".
وتابع التقرير أن ابنه هاشم (41 عاماً)، وهو والد مصطفى، عاش وهو يعمل في الصيد في مياه الأهوار، لكنه قبل 4 سنوات، وضع شباكه جانباً وقال بهدوء إنه "لم يعد يوجد ما يكفي من الماء للحياة".
ولفت التقرير إلى أن مصير أهوار الحويزة يرتبط بشكل وثيق بمصير صناعة النفط في العراق الذي يعتبر سادس أكبر منتج في العالم، مضيفاً أنه منذ غزو روسيا لأوكرانيا في العام 2022، سعت أوروبا إلى بدائل للنفط الروسي، وأصبح العراق مصدراً رئيسياً.
لكن التقرير نوه إلى أن العلاقة بين استخراج النفط وشح المياه، مباشرة ومدمرة، موضحاً أنه "يجري تشغيل حقل نفط حلفايا الذي تمتلك فيه شركة الطاقة الفرنسية توتال إينرجي أيضاً حصة، من قبل (كونسورتيوم بتروتشاينا) حيث يمتد العمل في هذه المنطقة على مساحة 3 أضعاف مساحة مدينة باريس، وتتضمن 300 بئر و3 مصانع لمعالجة النفط، ومرفق لمعالجة المياه، ومطار خاص لنقل العمال الأجانب بين الموقع والمطارات الدولية"، مشيراً إلى أن هذا الموقع يعتبر أكبر مشروع خارجي لشركة "بتروتشاينا" المملوكة للدولة الصينية.
ولفت التقرير إلى أنه منذ حوالي عقد من الزمان، بعد فترة وجيزة من بدء "بتروتشينا" عملياتها في المنطقة، جرى بناء 6 محطات لضخ المياه على طول نهر دجلة الذي هو بمثابة شريان الحياة الذي يغذي الأهوار.
وأوضح التقرير أنه يتم استخراج حوالي 60 ألف متر مكعب من المياه يومياً، وهو ما يعادل الاستهلاك اليومي لمدينة متوسطة الحجم، حيث يتم تحويل هذه المياه إلى حقول النفط، وحقنها في الآبار لتعزيز عمليات استخراج النفط.
وبحسب التقرير، فإن السدود التي أُقيمت في المنبع في تركيا وإقليم كوردستان، خفضت من تدفق المياه إلى جنوب العراق بأكثر من 50٪ منذ سبعينيات القرن الماضي، في حين أن السدود الإيرانية على نهر الكرخة الذي يغذي أهوار الحويزة، حدت أيضاً من امدادات المياه في المنطقة.
وتابع التقرير، أن تشغيل مجمع النفط الصناعي هذا، يكبد السكان خسائر في بيئتهم وأسلوب حياتهم، موضحا أن مصطفى هاشم أقل قلقاً حالياً فيما يتعلق بتناقص الثروة السمكية من قلقه بشأن نقاط التفتيش العسكرية.
وأشار التقرير إلى أنه يجري قطع القنوات المائية بدوريات عسكرية حيث يسيطر الحراس المسلحون على تحركات الوصول إلى مياه الأهوار، مما يستدعي من الصيادين المحليين ورعاة الجاموس، تقديم بطاقات هوياتهم للدخول.
وأضاف أن الأهوار تحولت إلى منطقة عسكرية حيث تقول السلطات إن الوجود الشرطي والعسكري المتزايد دفه منع التهريب وتأمين الحدود القريبة مع إيران.
إلا أن التقرير تابع أنه وفقاً لسكان الأهوار فإن هذا الوجود الأمني المتزايد هدفه قمع الاحتجاجات المحلية.
ونقل التقرير عن مصطفى قوله إن "الاحتلال يتبع النفط، وهم يريدون قطعنا عن أرضنا حتى يتمكنوا من استغلالها دون مقاومة".
وذكر التقرير أنه في ظل جفاف الأهوار، فإن مصطفى هاشم قام بما اضطر كثيرون إلى القيام به وهو الانضمام للعمل في قطاع النفط الذي يحمله مسؤولية تدمير الأهوار، حيث عمل هو ووالده في العام 2023 كعمال متعاقدين في "بتروتاشينا".
ونقل التقرير عنه قوله "شاهدت الأمور عن كثب، يسمون هذا تطوراً، لكنه دمار متنكر في شكل تقدم"، ولهذا فإن بحلول صيف ذلك العام، كان قد قدم استقالته من الشركة.
وفي العام نفسه، قال التقرير إن الجفاف بلغ ذروته واندلعت احتجاجات في كافة أنحاء المنطقة، وانضم مصطفى إلى المتظاهرين.
وذكر التقرير أن استخراج النفط في المنطقة ارتبط أيضاً بتلوث مدمر، ونقل أيضا عن مدير إدارة الزراعة في محافظة ميسان ماجد السعدي قوله إن "هذا الاقتصاد يقتل الناس حرفياً".
ولفت التقرير إلى أن السعدي وفريقه قاموا في آواخر العام 2024، بتجميع تقرير سري للحكومة المحلية عن آثار استخراج النفط على المنطقة حيث يوثق التقرير الذي اطلعت عليه صحيفة "الجارديان"، التركيزات المقلقة للهيدروكربونات والمعادن الثقيلة والمواد الكيميائية في مياه الشرب وانهيار الزراعة المحلية.
وتابع التقرير أن السعدي سلم في أوائل العام 2025، التقرير إلى وزارة البيئة العراقية، ويقول إن المسؤولين وعدوه بإجراء محادثات مع وزارة النفط. لكنه يشك في أن أي إجراء سيتبع ذلك.
وختم التقرير بالإشارة إلى استمرار توسيع حقول النفط في المنطقة، بحسب ما تظهره صور ومقاطع فيديو مسربة، التي تم تحديد موقعها جغرافياً من قبل "الجارديان"، ومن خلال تحليل صور الاقمار الصناعية.
ونقل التقرير عن اليونسكو، التي اتصلت بها "الغارديان"، تأكيداتها على "قلقها الكبير بشأن استمرار ضعف المكونات الطبيعية للممتلكات أمام عمليات تطوير النفط والغاز".
وبعدما لفت التقرير إلى أن سكان الحويزة حرموا من سبل عيشهم، وتركوا أمام خيارات قليلة وجرى التخلي عن مئات المنازل، نقل عن مصطفى قوله "نحن نكافح حتى يتمكن الجيل القادم من معرفة الأراضي الرطبة التي قام أسلافنا بحمايتها لآلاف السنين... ما تبقى في الأهوار هو حرب هادئة على الأرض والماء والذاكرة.. لقد حولتنا الحكومة والشركات إلى كعكة يتم تقسيمها، وهم يتعاملون مع هذه المياه كفرصة عمل، لكن بالنسبة إلينا، أنها الحياة".