• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

سلسلة أبنية تراثية .. بيوت بغدادية ٧

سلسلة أبنية تراثية .. بيوت بغدادية ٧

  • 16-09-2023, 16:13
  • مقالات
  • 141 مشاهدة
د. صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 

بيت عبد الرحمن النقيب الذي صار منتدى المسرح التجريبي

الأسرة والنشأة
ولد السيد عبد الرحمن بن علي النقيب بن سلمان بن مصطفى القادري في محلة باب الشيخ ببغداد عام ١٨٤١  . نشأ عبد الرحمن في أسرة دينية تتولى إدارة مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني (توفي٥٦١هـ / ١١٦٦ م) أباً عن جد. كما تتولى رئاسة نقابة أشراف بغداد والعالم الإسلامي لمدة أربعمائة عام. وكانت الأسرة تحظى باحترام ودعم الدولة العثمانية ، وتتمتع بامتيازات مالية وإدارية وزراعية.
كانت أسرة الكيلاني وغيرها وخصوصاً العلماء والقضاة والوجهاء السنة لديهم علاقات قوية مع الأتراك خلال القرون الأربعة من الحكم العثماني على العراق. وتمتعوا بجميع الامتيازات من مناصب إدارية ومحاكم وبلديات ودوائر أوقاف وغيرها. ففي عام ١٨٩٤ أصدرت الحكومة العثمانية أصدرت لائحة رسمية اعترفت فيها بخمس عائلات من الأشراف مشمولة بالمنح السلطانية والامتيازات الاستثنائية. فأثرت تلك الأسر ثراءً لا حدود له ، وامتلكت اقطاعيات واسعة. وهذه الأسر هي الكيلاني وآل الجميّل والآلوسي والسنوي والحيدري (وهي غير أسرة الحيدري الكاظمية المعروفة). وكانت المنح الكبيرة جداً التي توهب للمقام تعتبر من بين الأوقاف الأحد عشر التي كانت مستثناة من رقابة وضرائب وإشراف وزارة المالية في الإمبراطورية العثمانية. وكان النقيب مثله مثل متولي الأوقاف كان يدير العائدات بما يلائم مصالحه ومصالح عائلته. (١)  
تتلمذ النقيب على يد العديد من الأساتذة الملالي المشهورين في زمانه، أبرزهم الشيخ عبد القادر أفندي ابن الحلاوية البزاز. كما قرأ العلوم العالية (لاسيما العقلية) على يد الشيخ عبد السلام أفندي الشواف، وكذلك قرأ على يد العلامة عيسى صفاء الدين والعلّامة عيسى البندنيجي، والشّيخ عبد السّلام مدرّس الحضرة الكيلانيّة وآخرين.
وكان يتردّد على مجلسه في الحضرة الكيلانيّة أو في قصره الواقع على نهر دجلة في محلّة السنك ببغداد مختلف طبقات النّاس، ومن سائر الملل والنّحل. وكان مجلسه أشبه بمجمّع علميّ تبحث فيه مشكلات العلوم وتكشف غوامض أسرار البلد السّياسيّة، فكان محفلا سياسيّا وكلّ ذلك بفضل ما كان يتمتّع به شخص عبد الرّحمن النّقيب من أخلاق فاضلة،
يروي الدكتور عليّ الوردّي، عالم الاجتماع المعروف في مذكّراته (دروس من حياتي) المنشورة بلندن، أنّ السّيّد عبد الرّحمن الكيلانيّ النّقيب كان يأمر نساءه بلبس الحجاب عند مرور الطّائرات الإنجليزيّة، لأنّ تلك الطّائرات تحلّق بشكل واطئ، وكان يخشى على حريمه أن يراهنّ الطّيّار، ويكون بذلك خالف الدّين.

نفوذه في المجتمع البغدادي
كان السيد عبد الرحمن النقيب متولياً ومسؤولاً عن جامع ومرقد الشيخ الكيلاني الصوفي والداعية الشهير. بموجب فرمان (مرسوم سلطاني) صدر عام ١٦٩٥ منح النقيب صلاحية الاشراف على شؤون طبقة الأشراف الروحية والمدنية في بغداد ، وأن يحافظ على نقائها ويدافع عن مصالحها. وكان للنقيب كلمة في الديوان أو (الباشليق) أو مجلس الباشوية. (٢)
كما تمتع النقيب بمكانة مرموقة جعلت السلطان عبد الحميد الثاني يصدر عام ١٨٧٩ أمراً يعفي عائلته من التجنيد الاجباري الذي كان يُساق إليه العراقيون للقتال في حروب الدولة العثمانية، وعدة لا يعود أحد منهم. كما عُيّن مستشاراً للوالي وعضواً دائماً في مجلس إدارة بغداد.
وأصدر السلطان أمراً آخر يكرس ربع العشر على أراضي الدولة في العراق للأوقاف القادرية التي يشرف عليها النقيب. وكان النقيب ينتمي إلى طبقة الأجلّاء في المدينة ، الذين كانوا مستثنين من دفع أية ضريبة عن أراضيهم، وكان له الحق في معاقبة فلاحيه. وكان الكيلاني يشغل منصب رئيس بلدية بغداد حتى انسحاب القوات العثمانية ودخول القوات البريطانية في ١١ آذار ١٩١٧. وكانت للنقيب أملاك واسعة وثمينة حول بعقوبة وعلى شاطئ الفرات. وكان يملك عدة قصور على نهر دجلة ، إضافة إلى دار مجاور للحضرة القادرية يسمى (درگاه)، وقد ألحق بالجامع ليصبح جزءً منه.
تزوج النقيب مرتين وأنجب 7 بنات و13 ولدا، منهم محمود وعبد الوهاب
وكان يملك واحدة من أكبر المكتبات الخاصة في بغداد ضمت أندر المخطوطات وأنفس الكتب وتبرع بكتب كثيرة إلى مكتبة الحضرة الكيلانية .  وكان مجلسه أشبه بمجمع علمي وندوة أدبية وملتقى سياسي يحضره رجالات الدولة وأقطاب السياسة.
ومن أبرز هوايات النقيب ميله إلى العمل في المزارع والبساتين والعناية بالمزروعات عناية بالغة، حتى اشتهر بين الناس بخبرته في هذا المجال وبقيت هذه هوايته في شيخوخته.
الموقف من الاحتلال البريطاني للعراق
في بداية الغزو البريطاني للبصرة عام ١٩١٤ كان الغموض يلف موقف العلماء السنة في العراق. في حين أصدر العلماء الشيعة والمرجعية في النجف الأشرف بزعامة السيد كاظم اليزدي فتاوى الجهاد وتعبئة المقاتلين وأبناء العشائر لمواجهة القوات الغازية ، ودخلوا معها في معارك حامية.
في نهاية عام ١٩١٥ ، أي بعد عام على الغزو الأجنبي ، عقد العلماء والوجهاء السنة اجتماعاً في دار النقيب عبد الرحمن الكيلاني ، بهدف اتخاذ موقف حول كيفية التعامل مع الانكليز. وكان من بين الحاضرين موسى كاظم الباججي وجميل زادة عبد الرحمن ويوسف السويدي ويوسف الباججي وصاحب الدار السيد عبد الرحمن الكيلاني. كما حضره مجموعة من المثقفين أمثال عبد اللطيف ثويني والسيد محي الدين الكيلاني ورشيد الهاشمي. في ذلك الوقت كانت القوات البريطانية متورطة في الكوت على بعد ١٦٠ كيلومتراً جنوب بغداد. فقد أحاطت بها قوات المجاهدين مع الجيش التركي. وقد اقترح ثنيان إرسال خطاب إلى القوات البريطانية لعرض تقديم المساعدة إليها والتأييد للانكليز المحتلين. وقد وافق المجتمعون عدا الكيلاني الذي اعترض بالقول: لقد عشت كل هذه الحياة تحت الحكم العثماني (وكان قد ناهز السبعين عاماً) ولن أقاتل العثمانيين. لم ينتج الاجتماع شيئاً لكن معظم المشاركين فيه غادروا بغداد بعد الاجتماع خوفاً من الأتراك. لم يذكر شيء عن ذلك في المصادر البريطانية ، ولم يكن هناك رد فعل ملموس من البغداديين سواء في الدفاع أو الهجوم على النظام التركي. (٣)
دور عبد الرحمن الكيلاني تجاه الانكليز
لا توجد معلومات وافية عن موقف العلماء السنة بعد دخول الانكليز إلى بغداد وتأسيس إدارة بريطانية يقودها الجنرال مود والجنرال برسي كوكس ، لكن في ضوء رأي الانكليز بالنقيب وبقية علماء السنة يمكن معرفة مواقفه. ففي رسالة للمس بيل لوالدها تقول: عندما كنت مع النقيب هذا الصباح قال لي بأنه يكره تصرفات القوميين، وستكون صفقة كبيرة مع أي كافر عدا الفرنسيين. ولكن افترضي أنني ارتقيت المنبر وقلت كل ما أفكر به، سينتشر كلامي في أنحاء أفغانستان والهند حيث أجد احتراماً كبيراً هناك. وأنني في خدمة الانكليز وخائن للإسلام. (٤)
وفي مكان آخر كتبت المس بيل تقول: بعد احتلال بغداد ، قام النقيب بزيارة الجنرال مود لإظهار احترامه الشخصي لقائد الجيش. وعرض منزله المطل على النهر (في السنك) على السلطات العسكرية. وأعرب عن قناعته بأن رئيس الحكام السياسيين الانكليز (برسي كوكس) يعمل كل ما في وسعه. وكان مستعداً لصنع الجميل حتى في الأمور التي تمس مسجد وضريح جده الشيخ عبد القادر الذي عاش في القرن الثاني عشر. (٥)
اعتمد الانكليز كثيراً على عبد الرحمن النقيب ونفوذه الديني في المجتمع البغدادي ، لذلك كلفوه بتشكيل أول حكومة عراقية في التاريخ المعاصر. فهو قد منح الانكليز مقبولية واحتراماً في صفوف العراقيين لأنه رجل دين ذو سمعة واسعة. وفي عام ١٩٢٠ أصبح أول رئيس وزراء للعراق ، رغم وجود مرشحين أقوى كفاءة وخبرة في الحكومة والقضاء. تبرر المس بيل اختيار النقيب فتقول: لقد وقف النقيب بصلابة ضد زعماء ثورة العشرين حتى تم تأسيس الحكومة العربية. أليس كل هذا الارتياح في العالم قد جاء من النقيب وليس منا! تعيش الحكومة العربية! أعطوهم المسؤوليات واجعلوهم يحققون شؤونهم الخاصة سيقومون بها أفضل منا بآلاف المرات. (٦)
لقد نشأت العلاقة بين النقيب والانكليز قبل نشوب الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤ ، وقويت بعدها. ففي الوقت الذي لم يكن للعراقيين أي سبب يدفعهم لقبول الاحتلال البريطاني ، كان النقيب يعرض تقديم مساعدة مالية لبناء مستشفى عسكري للقوات البريطانية. إذ تقول المس بيل: بدأت المساهمة لبناء المستشفى ، وأول من تبرع جاء من النقيب. فقد جاء ولده بحوالة من الرجل العجوز. أعتقد وأنا على حق بقولي ، أنه لم يُعرف عنه أبداً أنه أعطى مثل هذا المبلغ الكبير في أي نشاط خيري عام طوال أعوامه الثمانية والسبعين ، وأنا شاكرة له. (٧)
لم يكن النقيب يخفي مشاعره وإعجابه تجاه الانكليز. ففي أحد أيام شهر شباط ١٩١٩ خاطب المس بيل بالقول: إني أعترف بانتصاركم ، وعندما أُسئَل عن رأيي باستمرار الحكم البريطاني أجيب: أنا تابع للمنتصر. (٨)
وفي أحد أيام شهر آب ١٩٢١ أكد النقيب ولاءه للإنكليز عندما خاطب المس بيل قائلاً: خاتون! أنت بمثابة ابنتي ، وسأقول لك ما يخطر ببالي ، بأنني منذ قدوم السير بيرسي كوكس لم أفعل أبداً ما يخالف نصيحته أو رغبة الحكومة البريطانية. (٩) الجدير بالذكر أنه لا توجد مبررات فقهية أو أسباب شرعية لهذا الموقف الغريب. ولم يعلق عليه لا باحث ولا فقيه عراقي أو باحث في بلد إسلامي آخر.
ولذلك ليس من المستغرب سكوته وبقية العلماء السنة في بغداد وعدم إصدار فتوى ضد الغزو البريطاني. في حين انفرد قاضي سني واحد هو محمد أديب الجراح القاضي في محكمة الاستئناف في الموصل بإصدار فتوى تدعو للجهاد ضد البريطانيين بعنوان (رسالة الجهاد على فتوى خليفتنا الأعظم السلطان غازي محمد رشاد). وقد طبعتها مطبعة نينوى بالموصل عام ١٣٣٣ هـ / ١٩١٤ م.
النقيب رئيساً للوزراء
في العهد العثماني كان النقيب يعد الشخصية الثانية بعد شخصية الوالي باعتباره نقيب اشراف بغداد والعلاقة بين العثمانيين والنقيب الكيلاني كانت جيدة . اما في سنة 1920 م فقد اصبح الشخصية الثانية بعد المندوب السامي البريطاني ( برسي كوكس ) حين تسلم رئاسة الحكومة المؤقتة . والظاهر أن شخصيته وثقافته ومنصبه في العهد العثماني وعلاقته الجيدة مع الانكليز هي التي أهلته لرئاسة الحكومة المؤقته ’ كما كانت السبب في ان يكون  أحد المرشحين للعرش العراقي .
اما بعد تتويج الملك فيصل على العرش العراقي فقد اصبح النقيب الشخصية الثانية بعد الملك فيصل باعتباره رئيساً لمجلس الوزراء وحائزا لثقة بريطانيا بحيث كانت الحكومة البريطانية تفرضه على الملك فيصل وتجبره على ان يترأس الوزارة على الرغم من ان فيصلا كان لا يرغب في التعامل معه ، ربما بسبب كبر سنه ووجوب زيارته في بيته عندما يرغب في التباحث معه أو باعتباره أحد المرشحين للعرش العراقي ومعارضته لمجيئ أحد ابناء الشريف حسين على العرش العراقي . ومع ذلك كانت بريطانيا دائماً تصرّح ( بأن الملك فيصل هو ملك دستوري أما النقيب فهو يمثل السلطة التشريعية والتنفيذية معاً) . وفي بعض الاحيان كان المندوب السامي يتشاور مع النقيب في بعض المسائل ولا يخبر الملك فيصل وهذا ما يثير الملك عليه .
على الرغم من اعتماد الانكليز على النقيب لأهمية دوره في تصديق المعاهدة العراقية البريطانية ’ فقد تغيرت سياسة بريطانية تجاه النقيب حيث قُدّم بدله  عبد المحسن السعدون  ليترأس مجلس الوزراء باعتباره شاباً طموحاً مؤيدا للسياسة البريطانية . ومثل هذا الموقف من البريطانيين طبيعي ، فهم يلتزمون الاشخاص بالقدر الذي تفرضه المصالح البريطانية .
بعد أن عقد مؤتمر القاهرة عام 1920م، على أثر ثورة العشرين في العراق ضد الاحتلال البريطاني، وضد سياسة تهنيد العراق، اصدر المندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس أوامره بتشكيل حكومة وطنية عراقية انتقالية برئاسة نقيب اشراف بغداد عبد الرحمن النقيب الكيلاني وتشكيل المجلس التاسيسي الذي تولى من ضمن العديد من المهام وانتخاب ملكاً على عرش العراق، وتشكيل الوزارات والمؤسسات والدوائر العراقية، واختيار الساسة العراقيين لتولي المهام الحكومية.
 
ثم وُضِع مستشار إنجليزي بجانب كل وزير. وأعلنت بريطانيا عن رغبتها في إقامة ملكية عراقية حيث رشح العراقيون من خلال مجلسهم التأسيسي الأمير فيصل بن الشريف حسين ملكًا على العراق، في 23 آب 1921م بعد إجراء الانتخابات في المجلس كانت نتيجتها 96% لصالح فيصل. وأجبرت بريطانيا فيصلاً على توقيع معاهدة معها في 10 تشرين الأول 1922م، تضمنت بعض أسس الانتداب البريطاني.
 
اختارت الإدارة البريطانية عبد الرحمن النقيب  ليرأس حكومة وطنية عراقية انتقالية.  وكان من مهامه تأسيس الدوائر والوزارات العراقية ، وإدارة المجلس التأسيسي الذي تولى اختيار الأمير فيصل والاشراف على إجراءات تتويجه ملكاً على للعراق. وقد تولى رئاسة الوزراء من ٢ مايس ١٩٢٠ لغاية ٢٧ حزيران ١٩٢٢ . تألفت حكومته من أحد عشر وزيراً كلهم من السنة عدا واحد شيعي والآخر يهودي.
عملت حكومة النقيب منذ تشكيلها على وضع الأسس الأولى لنواة الدولة العراقية الحديثة، وإبراز معالمها من خلال إجراءات وقرارات عديدة.
ومن أهم أعمال حكومة النقيب، تقسيم مناطق البلاد إلى وحدات إدارية، وألوية وأقضية ونواحٍ لتسهيل إدارتها من قبل الدولة.
كما أطلقت الحكومة سراح الوطنيين المبعدين إلى الهند وإصدار عفو عام، واستدعاء الضباط العراقيين الذين عملوا بالحجاز وسوريا خلال الثورة العربية الكبرى عام 1916 تمهيدا لتأسيس الجيش الوطني
وأنشأت حكومة النقيب العديد من الدواوين والوزارات والدوائر الرسمية في الدولة، ورُبط العراق بمنظومة حسن جوار للدول المجاورة قائمة على احترام العراق كبلد مستقل.
ولعل أهم إنجازات حكومة النقيب هو إقامة مراسم تتويج الملك فيصل بكل انتظام وترتيب.

مشاركته في تتويج فيصل
أقيم احتفال التتويج في حدائق القشلة. كانت القشلة تشهد احتفالات الحكومة في المناسبات الوطنية والدينية. إذ كانت مسرحاً لتجمع الناس وكبار الموظفين وغيرهم للاستماع إلى قراءة الفرمان بتعيين الوالي الجديد أو قانون سلطاني أو أية أوامر أخرى يراد إبلاغها للناس. وذلك كان الأسلوب الشائع في الحكومات القديمة في أنحاء العالم لعدم توفر وسائل إعلام تستطيع نقل الخبر إلى أكبر عدد من الناس.
كما كانت القشلة تشهد الاحتفالات ومراسم استقبال كبار ضيوف الحكومة ، إضافة إلى قدوم المهنئين في الأعياد وغيرها. كما كانت تشهد تظاهرات ضد قرار أو إجراء أو سياسة حيث يعبر الناس عن آرائهم وحسب ما تسمح به الأوضاع.
تم تهيئة منصة خشبية بارتفاع قرابة 70 سم، وفرشت بالسجاد. كما تم إعداد كرسي العرش للملك، وصفت عدة كراسي للشخصيات العسكرية والمدنية ولمرافقي الملك. وتم إعداد مكان للجمهور المدعو عبارة عن كراسي رصت على أرضية فرشت بالسجاد والبسط العراقية. وزينت جدران القشلة بالأعلام العراقية . تم اختيار المكان في وسط الفناء وقرب برج الساعة.
غص المكان بالضيوف وهم من كبار الشخصيات السياسية والعسكرية والقناصل الأجانب والضباط الإنكليز مرتدين بزاتهم العسكرية وخوذهم برفقة عائلاتهم، وكذلك المس بيل. كما حضر الحفل مشايخ بغداد وعلماؤها وشيوخ العشائر والوجهاء والتجار ووفود مهنئة قدمت من المدن العراقية ورؤساء الدوائر الحكومية والمستشارون. لم يحضر السيد عبد الرحمن النقيب لكبر سنه لكنه أرسل ولده محمود ليمثله ويلقي كلمته نيابة عنه والتي كانت عبارة عن دعاء للملك. الغريب أن مرجعية النجف الأشرف التي اختارت الأمير فيصل ودعمت ترشيحه على عرش العراق لم تحضر وربما لم تُدع من قبل الإدارة البريطانية نظراً لموقفها العدائي من الانكليز الذي تجلى في العمليات الحربية في ثورة العشرين التي كلفت بريطانيا مئات الضباط والجنود. والأنكى من ذلك هو حضور الجنرال هالدين الذي قاد عمليات القتل والقصف بالطائرات وإحراق المدن والقرى الشيعية التي مضى عليها عام واحد فقط.

تم توزيع منشور يتضمن برنامج الاحتفال على الجمهور. كما اصطف جمهور آخر على شرفات مبنى القشلة لمشاهدة الحدث التاريخي. كما تم توزيع بطاقات الدعوة مطبوعة وعليها اسم الشخص المدعو:

(( القسم .. (رقم القسم)
صف .. (رقم الصف)
مقعد .. (رقم المقعد )
يدعو رئيس الوزراء ونقيب أشراف بغداد
حضرة الوجيه .... (اسم المدعو)
إلى حضور مراسم تبوء سمو الأمير فيصل المعظم عرش العراق يوم الثلاثاء الساعة السادسة زوالية صباحاً في ٢٣ آب ١٩٢١ المصادف لـ ٢٨ ذي الحجة ١٣٣٩ هـ ))

وتوزعت مجاميع مهمتها ترديد الهتافات والشعارات الخاصة بالحدث السعيد. وتوزعت رايات رؤساء الوفود أمثل الشيخ صالح باش أعيان متصرف لواء العمارة، الشيخ عبد القادر أفندي باش وبقية أعضاء وفد العمارة ، ثامر السعدون، يوسف بك السعدون، عبد العزيز بك فالح السعدون من المنتفك ، عمر بك المنصور، الشيخ عجيل الياور من الموصل، السيد نور الياسري، السيد محمد الصدر، السيد هادي المكوطر من السماوة ورايات العشائر العراقية التي حضرت المؤتمر(١٠). وكانت الوفود قد قدمت إلى بغداد قبل أيام من الحفل يقودهم الزعماء والفضلاء والأدباء والشعراء. وكما حضر مجموعة من الصحفيين والمصورين الذي قدموا تغطية لوقائع التتويج.
 
اصطف مائتي جندي بريطاني على جانبي الطريق الذي سيسلكه الملك ، وهم يرتدون الزي العسكري السائد آنذاك ، وهو زي مشابه لزي جنود (فوج الدورسيت Dorset Regiment) من مشاة الجيش البريطاني للفترة (١٨٨١-١٩٥٨) أو من حرس الشرف من جنود (كتيبة بيركشاير الملكية Royal Berkshire Regiment) للفترة ١٨٨١-١٩٥٩. كما تم إعداد جوق موسيقي لعزف النشيد الملكي (ليحم الله الملك).

بداية المراسم
في الساعة السادسة صباحاً خرج الأمير فيصل (١٨٨٣-١٩٣٣) من مقره الرسمي في قصر شعشوع الذي سكنه للفترة ١٩٢١ إلى ١٩٢٦. يرافقه المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس (١٨٦٤-١٩٣٧) Percy Cox وقائد الجيش البريطاني في العراق الجنرال أيلمر هالدين (1862-1950) Sir James Aylmer Lowthorpe. Haldane (١١) ، ويتبعه مترجم وسكرتير مجلس الوزراء الفلسطيني البهائي حسين أفنان (١٨٨٩- ١٩٤٠)، واثنان من المرافقين هما مرافق الملك فيصل السوري الأصل تحسين قدري (١٨٩٢- ١٩٩٠)  وأمين الكسباني.
 اتجه الموكب الملكي نحو المنصة ماشياً على طريق مفروش بالسجاد. جلس الملك على عرشه الذي يرتفع عن بقية الكراسي، مرتدياً بدلة عسكرية (خاكية اللون) مع قبعة عسكرية يحيط بها عقال مذهب ، وعلى صدره وسامين . وجلس السير كوكس عن يمين الملك، وهو يرتدي بدلة عسكرية بيضاء مغلقة عند الرقبة، مرتدياً وشاحاً يلتف من كتفه الأيمن باتجاه الخصر الأيسر، وعلق نياشينه على صدره. وجلس عن شمال الملك الجنرال هالدين الذي ارتدى بدلة عسكرية خاكية وقميصاً وربطة عنق بيضاء وجزمة وقبعة عسكرية وممسك بعصا القيادة. والتف سير جلدي من كتفه باتجاه الخصر مع محفظة المسدس. وإلى شمال هالدين جلس السيد محمود النقيب نجل نقيب بغداد ورئيس الوزراء عبد الرحمن النقيب، مرتدياً زيه الديني .
تصف المس بيل الملك في تلك اللحظات : كان فيصل وقوراً ولكنه متوتر جداً، فهي لحظة مثيرة. وأخذ ينظر إلى الصف الأمامي فوقع نظره عليّ ، فأعطيته تحية صغيرة للتشجيع (١٢).

بيان السير بيرسي كوكس
بدأ كوكس الحفل عندما سلّم سكرتير مجلس الوزراء حسين أفنان بلاغاً ليقرأه على الجمهور، جاء في المنشور :
((                            المنشور
من فخامة السير برسي كوكس
الحامل للوسام الأكبر للإمبراطورية الهندية
ووسام نجمة الهند العالية من درجة فارس
ووسام القديس ميخائيل من درجة فارس
والقديس جرجس السامي من درجة فارس
المندوب السامي لجلالة ملك بريطانيا
إلى الأمة العراقية بواسطة ممثليها الحاضرين.
لقد قرر مجلس الوزراء باتفاق الآراء بناء على اقتراح سمو رئيس الوزراء المناداة بسمو الأمير فيصل ملكاً على العراق في جلسته المنعقدة في اليوم الرابع من شهر ذي القعدة سنة 1339 هجرية الموافق 11 تموز 1921 الميلادية على أن تكون حكومة سموه حكومة دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون وبصفتي مندوباً سامياً لجلالة ملك بريطانيا رأيت أن أقف على رضا الشعب العراقي البات قبل موافقتي على ذلك القرار ، فأجري التصويت العام بموافقة مني ، وأسفرت نتيجة التصويت عن أكثرية كلية ممثلة لستة وتسعين في المائة من مجموع المنتخبين المتفقين على المناداة بسمو الأمير فيصل ملكاً على العراق . وعليه أعلن أنن أن سمو الأمير فيصل نجل جلالة الملك حسين قد انتخب ملكاً على العراق . وأن حكومة جلالة ملك بريطانيا قد اعترفت بجلالة الملك فيصل ملكاً على العراق. فليحيا الملك)). (١٣)  

دعاء نقيب بغداد
بعد ذلك تقدم السيد محمود أفندي النقيب بقراءة دعاء بالنيابة عن والده رئيس الوزراء عبد الرحمن النقيب يمتدح فيه الملك فيصل جاء فيه:
(( بسم الله الرحمن الرحيم
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير ، إنك على كل شيء قدير.
نحمدك اللهم حمداً بوافي نعمك، ويكافئ مزيد فضلك وكرمك حمد الشاكرين لسوابغ آلائك وشكر المخلصين لترادف نعمائك سبحانك لا نحصي ثناء عليك . أنت كما أثنيت على نفسك ، ونعوذ بك من شرور الأنفس وسيئات الأعمال . ونستعين بك من تسديد الأقوال وتأييد الأفعال. ونصلى ونسلم على خيرة خلقك وصفوة أنبيائك سيد المرسلين وشفيع المذنبين المبعوث رحمة للعالمين الذي تمت به مكارم الأخلاق ، وأشرقت بشمس معارفه جميع الآفاق، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأصحابه الذين آزروه في السراء والضراء ، فكان كل منهم ناصراً وظهيراً.
اللهم نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تؤيد بتأييداتك السرمدية وتوفق بتوفيقاتك الأبدية عبدك وابن عبدك، الناصر لدينك ، والخاضع لسلطانك ومجدك الذي عظمت شأنه ورفعت مكانه، وعززت سلطانه ، واخترته ملكاً على الخطة العراقية من الأقطار العربية، لإصلاح العباد وإسعادهم، وعمار البلاد بإسعافهم ودرء الفساد من بينهم. وإقامة العدل بينهم بالسوية . إذ بوأته سرير المملكة العراقية لئلا ييأس الضعيف من الحصول على حقه، وليخش كل ظالم من سطوته وبطشه أعني به المولى الأجل. والملك الأفضل صاحب العظمة والجلالة حضرة جلالة الملك (فيصل الأول) ابن حضرة سيدنا الأفخم والمليك المعظم جلالة ملك الحجاز الأعظم سيد السادة الأشراف ودرة تاج بني عبد مناف ، فرع دوحة الفتوة ، نور شجرة النبوة ، ونور بيت الرسالة أيد الله دولته بتوفيقاته وجعلها عوناً له في مهماته.
اللهم أره الحق حقاً ووفقه لاتباعه ، وأره الباطل باطلاً وأعنه على اجتنابه، وحبّبه للرعية، وحبّب الرعية إليه. ويسّر له صعاب الأمور ، واشرح بحبه الصدور بمنّك وكرمك وحولك وطولك ، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير ، سبحانك ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين)). (١٤)

خطاب العرش
تصف المس بيل حديث فيصل فتقول : كان فيصل له قدرة على اجتذاب قلوب العراقيين إليه . وكانت له لهجة في الحديث حجازية، وهي لهجة محببة إلى العراقيين. وإذا تكلم في اجتماع كان كلامه مباشراً لا حذلقة فيه ولا تصنّع. أضف إلى ذلك إنه كان يحدث كل فئة من الناس بما يلائمها. (١٥)
 
وقف الملك فيصل متحدثاً بلغة عربية رصينة وألقى خطابه الذي جاء فيه:
(( أتقدم إلى الشعب العراقي بالشكر الخالص على مبايعته إياي مبايعة حرة دلت على محبته لي وثقته بي. فأسأل الله عز وجل أن يوفقني لإعلاء شأن هذا الوطن العزيز وهذه الأمة النجيبة، لتستعيد مجدها الغابر ، وتنال منزلتها الرفيعة بين الأمم الناهضة الراقية.
وإنه ليجدر بي في مثل هذه الساعة التاريخية التي برهنت فيها الأمة العراقية على خالص ودها نحو أسرتنا الهاشمية ، أن أذكر ما لجلالة والدي الملك حسين الأول (١٦) من الأيادي البيضاء. فلقد رفع لواء الحرب منضماً إلى الحلفاء ، ونهض بالعرب لا غاية له سوى تحريرهم ، وتأييد استقلالهم القومي الذي كانوا ينشدونه منذ قرون.
كما أنني أرى من الواجب المتحتم في مثل هذا اليوم أن أذكر محيياً تلك النفوس الطاهرة الأبية من أبناء النهضة العربية الذين استبسلوا مع أبطال الحلفاء (١٧) ، وذهبوا ضحية أوطانهم العزيزة. أولئك هم أصحاب الذكرى الخالدة. فسلام عليهم وألف تحية . وهنا واجب آخر يدعوني لأن أرتل آيات الشكر للأمة البريطانية إذ أخذت تناصر العرب في أوقات الحرب الحرجة فجادت بأموالها ، وضحّت بأبنائها في سبيل تحريرهم واستقلالهم . وإنني اعتماداً على صداقتها ومؤازرتها التي أظهرتها ، وتعهدت بها لنا أقدمت على القيام بشؤون هذه البلاد شاكراً للحكومة الموقنة همتها ، ولفخامة المندوب السامي محبته، وللحكومة البريطانية العظمى (١٨) اعترافها بي ملكاً للدولة العراقية المستقلة التي دعيت لملكيتها بإرادة الشعب مباشرة.
أيها العراقيون الأعزاء
لقد كانت هذه البلاد في القرون الخالية ، مهد المدنية والعمران ، ومركز العلم والعرفان. فأصبحت بما نابها من الخطوب والحوادث خالية من جميع أسباب الراحة والسعادة ، فقد فيها الأمن ، وسادت الفوضى ، وقلّ العمل ، وتغلبت الطبيعة، وغارت مياه الرافدين في بطون البحار. فأقفرت الأرض بعد أن كانت يانعة نضرة ، وطفت القفار على المعمور. وأضحت المدن التي قويت على مقاومة النائبات أشبه شيء بواحة واسعة. فنحن الآن تجاه هذه الحقيقة المؤلمة. ولا يجدر بشعب يود النهوض إلا أن يعترف بهذه الحقائق.
إننا لم ننهض إلا لمكافحة هذه العقبات. ولم تخض غمار الحرب الكبرى إلا لإحياء هذه المعالم الدارسة. وإذا كان الناس على دين ملوكهم فديني إنما هو تحقيق أماني هذا الشعب ، وتشييد أركان دولته على المبادئ القويمة ، وتأسيس حضارته على أساس العلوم الصحيحة والأخلاق الشريفة متوكلاً على الله ، مستنداً على روحانية أنبيائه العظام، ومعتمداً عليكم أنتم أيها العراقيون . وقد صرحت مراراً بأن ما نحتاج إليه لترقية هذه البلاد يتوقف على معاونة أمة تمدنا بأموالها ورجالها. وبما أن الأمة البريطانية أقرب الأمم لنا ، وأكثرها غيرة على مصالحنا. فإننا سنستمد منها ونستعين بها وحدها على الوصول إلى غايتنا المنشودة في أسرع وقت.
ولا يغرب عن الأذهان إنه إذا كان الناس على دين ملوكهم ، فالملوك على دين شعوبهم. فعلى قدر التضامن يكون النهوض . ونحن الآن أحوج الأمم إلى التضامن والتعاضد، والعمل بجد ونشاط ضمن دائرة السلم والنظام. وإني لا ألو جهدا بأن أستعين برجال الأمة على اختلاف مواهبهم، وتباين طبقاتهم وتفاوت معتقداتهم، فالكل عندي سواء. لا فرق بين حاضرهم وباديهم ، ولا ميزة لأحد عندي إلا بالعلم والمقدرة. والأمة بمجموعها هي حزبي، ولا حزب لي سواها، ومصلحة البلاد العامة هي مصلحتي لا مصلحة غيرها.
ألا وإن أول عمل أقوم به هو مباشرة الانتخابات وجمع المجلس التأسيسي . ولتعلم الأمة أن مجلسها هذا هو الذي سيضع بمشاورتي دستور استقلالها على قواعد الحكومات النيابية الديمقراطية ، ويعيّن أسس حياتها السياسية والاجتماعية ، ويصادق نهائياً على المعاهدة التي سأودعها له في ما يتعلق بالصلات بين حكومتنا والحكومة البريطانية العظمى ، ويقرر حرية الأديان والعبادات بشرط أن لا تخل بالأمن والأخلاق العمومية. وبسنّ قوانين عدلية تضمن منافع الأجانب ومصالحها ، وتمنع كل تعرض بالدين والجنس واللغة، وتكفل التساوي في المعاملات التجارية مع كافة البلاد الأجنبية.
وإني لواثق تمام الوثوق بأني بالاستشارة مع فخامة المندوب السامي جناب السير برسي كوكس (١٩) الذي برهن على صداقته للعرب. خلدت له الذكر الجميل سنصل إلى غايتنا هذه بأسرع وقت إن شاء الله.
 إلى الاتحاد والتعاضد ... إلى الروية والتبصر ... إلى العلم والعمل،
أدعو أمتي والله هو الموفق والمعين)). (٢٠)

   بعد أن أنهى الملك فيصل خطابه ، أطلقت المدافع بالاحتفال السعيد. لم تستغرق الحفلة وقتاً طويلاً ، خاصة وأنها بدأت في الصباح المبكر بسبب حرارة الجو ظهراً أو عصراً. بعد انتهاء الحفلة قدم المندوب السامي للملك فيصل برقية من الملك جورج الخامس فيها الكلام المألوف في التهنئة ثم ما يلي: ( وإن المعاهدة التي ستعقد قريباً بيننا فتثبت التحالف الذي تحالفناه في أيام الحرب المظلمة ستمكني ولا ريب من القيام بواجباتي المقدسة لإدخال العراق في عهد جديد من السلم والأرض). فأجابه الملك فيصل بعد كلام الشكر المألوف بما يلي: (لا أشك بأن المعاهدة التي ستعقد قريباً بيننا ستمكن عرى التحالف الذي قدسه في ساحة الحرب العظمى دم الانكليز والعرب، وإنها ستقام على أساس متين ). (٢١)
تقول المس بيل (٢٢) أنه بعد انتهاء الحفلة ذهبت إلى دائرتها ، وأخذ الزوار يتقاطرون عليها . وهم في الغالب من المدعوين الذين حضروا الحفلة. وكان علي السليمان أحدهم، فصار يحدثنا عن انطباعاته في الحفلة، وقال لها: والله، لقد كان السير برسي كوكس كالقمر بينهم، وكان وجهه كالجنة. (٢٣)

مؤلفات النقيب
من مؤلفات النقيب كتاب  (الفتح المبين) وهو كتاب في ترجمة جدّه الشّيخ عبد القادر الجيلانيّ، ولحفيده الدّاعية عفيف الدّين الجيلانيّ تعليقات مهمّة، فيها معلومات وثائقية عنه وعن أولاده وطريقته الصّوفيّة والرّد على مخالفيه، وحقق الكتاب جمال الدّين فالح الكيلانيّ.  وله كتاب( المجالس في المواعظ) حيث كان يلقيه على طلّابه في شهر رمضان في الحضرة القادريّة، وله تفصيل طويل في كتاب نقباء بغداد لمؤلّفه إبراهيم عبد الغنيّ الدّروبيّ.

وفاته
من الملاحظ بأن عبد الرحمن النقيب بعد تقديم استقالته ترك السياسة وانزوى في بيته لا يبرحها حتى وافاه الأجل في 13 حزيران 1927 م المصادف 12 ذي الحجة 1345 هجرية . واقيم له تشييع رسمي حضره نائب الملك علي والامير غازي والمعتمد السامي وحضره كبار رجال الدولة البريطانية والعراقية . دفن داخل الحضرة القادرية بالقرب من مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني . وقد زرت قبره هناك.


بيت الكيلاني في السنك

في يوم الثلاثاء الموافق ٢٠ شباط ٢٠٢٣ زرت قصر عبد الرحمن الكيلاني ، وكان باستقبالنا مدير المسرح التجريبي السيد بهاء خيون. وقد علمت أن منزل النقيب كان في التسعينيات مركز البحوث التابع لمعهد الموسيقى. كان التيار الكهربائي مقطوعاً ولذلك لم نتمكن من تصوير الغرف والطابقين.

لقد شهد هذا القصر مناسبات واجتماعات تاريخية. إذ كان السيد عبد الرحمن النقيب قبل عام ١٩١٧ عندما كان رئيساً لبلدية بغداد يستقبل الباشوات ووالي بغداد والقضاة والوجهاء والسياسيين. وقد عقد اجتماع هام في نهاية عام ١٩١٥ ضم عدداً من السياسيين السنة للتباحث حول الموقف من الغزو البريطاني للعراق.

بعد سقوط الحكم العثماني وتأسيس الإدارة البريطانية الجديدة في العراق صار القصر يستقبل طبقة جديدة من الزوار تتمثل بكبار الضباط والمستشارين الانكليز ومنهم المس بيل والسير برسي كوكس وأرنولد ولسن وغيرهم للتشاور ومناقشة مختلف الأمور السياسية تبداً باختيار وزراء الحكومة الجديدة أو بتشكيل الدوائر الحكومية الحديثة. كما كان البيت يستقبل الملك فيصل وحاشيته والوزراء والنواب وأعضاء المجلس التأسيسي العراقي ، إضافة إلى وفود المحافظات ورؤساء العشائر ورجال الدين.

يقع البيت في منطقة السنك على ضفة النهر من الجهة الخلفية ، وعلى شارع الرشيد من الجهة الأمامية. البناء مشيد من الطابوق الأصفر ، وفي المدخل باب ذو مصراعين من الخشب ، يليه ممر (دهليز) يؤدي إلى باحة داخلية (حوش) واسعة تحيط بها غرف الدار بطابقيه. وعلى يمين الداخل توجد غرفة للضيوف وأخرى للمرافقين. وقد أصبحت إحداها مكتباً لإدارة المسرح والأخرى كافتيريا رصت فيها المناضد والكراسي. وتمتاز هذه الغرف بأن أسقفها على شكل قوس مبنية بالطابوق ، تتخللها تشكيلات هندسية من الطابوق. وتطل بعض نوافذها على نهر دجلة . كما توجد رازونات داخل الجدران السميكة.
وتفتح على الباحة العديد من الأبواب والشبابيك الخشبية يعلوها زجاج ملون على شكل قوس. كما يوجد سلم يؤدي إلى الطابق العلوي. وتوجد طارمة واسعة ، ورواق علوي يطل على الباحة ، يحميه محجّر من الحديد وإطار من الخشب. وقد قام منتدى المسرح التجريبي الذي يشغل البيت بتسقيف الباحة الوسطية وتحويلها إلى مسرح مغلق مجهر بالمنصة وأماكن جلوس المشاهدين. مع تجهيزه بالإنارة والديكورات والصوتيات.

البيت من الطراز البغدادي التقليدي بنمطه المعماري الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فأعمال الخشب والشناشيل تحيط بالدار من كل الجهات ، فهي جزء رئيس من الغرف العلوية كما توجد شرفات مفتوحة وأخرى مسقفة. وتعلو الشبابيك أقواس من الطابوق. وهنك شبابيك في الطابق العلوي في الجهة الخلفية على الطراز الباروكي الفرنسي حيث تعلوها مثلثات من الطابوق بدلاً من الأقواس. أما الواجهة الجانبية فشبابيكها تعلوها أقواس من الطابوق.
وتمتد شرفة طويلة في الواجهة الخلفية المطلة على نهر دجلة ، قسم منها مسقف بالخشب مع أعمدة خشبية ، والقسم الآخر مفتوح على الهواء الطلق.
 في الجهة الخلفية من الدار توجد مسناة كانت تابعة للدار، قبل أن يفتح شارع بين الدار والمسناة. وفي الحديقة الأمامية يوجد بئر واسع وغير عميق ، يمتاز بكونه بئر ارتوازي ، يرتفع فيه الماء كلما ارتفع منسوب نهر دجلة. وتوجد بجانب البئر شجرة عالية.




الهوامش
١-(حسن العلوي : الشيعة والدولة القومية ، ص ٦٣ )
٢- (حنا بطاطو: الطبقات القديمة والحركات الثورية في العراق ، ص ١٦٢)
٣- Attiyyah, p. 97
٤- Burgoyne, vol. 2 , p 161.
٥- Bell. P 32-33
٦- Burgoyne, vol. 2 , p 178
٧- ( Burgoyne, vol. 2 , p 131
٨-  حنا بطاطو ص ١٧٣ (نقلاً عن مذكرات المس بيل وكتاب (صراع الولاءات) للسير آرنولد ويلسن).
٩-  Burgoyne, vol. 2 , p 231
١٠-  مظفر النقيب ( تتويج الملك فيصل الأول) ، سيناريو أعد لعرض مسرحي يمثل احتفال التتويج.
١١- الجنرال السير جيمس أيلمر هالدين قائد الفيلق البريطاني السادس في الحرب العالمية الأولى في معارك دارت في ألمانيا وفرنسا. عيّن قائداً عاماً للقوات البريطانية في العراق في كانون الأول 1919 . تولى قمع ثورة العشرين عام 1920 وكتب (التمرد في بلاد النهرين) عن وقائع الثورة.
١٢- علي الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) / ج 6 / ص 119
١٣- جريدة الفلاح ، العدد: 26 ، الصادر في 23/8/1921 وجريدة دجلة / العدد: 49 الصادر في 24/ 8/ 1921
١٤- جريدة الفلاح ، العدد: 26 ، الصادر في 23/8/1921 وجريدة دجلة / العدد: 49 الصادر في 24/ 8/ 1921
١٥- علي الوردي / ج 6 / ص 107

١٦- الشريف الحسين بن علي ، شريف مكة للفترة (1908-1917) وملك الحجاز  . ولد في اسطنبول عام 1854 أثناء إقامة والده في المنفى. قاد الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية وتحالف مع الانكليز عام 1916 . توفي عام 1934 في عمان بالأردن. اعترافاً بدوره منحته بريطانيا شرف تعيين أولاده ملوكاً وهم فيصل على العراق وعبدالله على الأردن.
١٧- الحلفاء هو الاسم الذي سمي به التحالف بين بريطانيا وفرنسا ضد ألمانيا وتركيا في الحرب العالمية الأولى 1914-1917 .
١٨- كان رئيس الوزراء البريطاني عام 1921 هو ديفيد لويد جورج (1863-1945) تولى الوزارة للفترة (1916-1922) وهو أحد زعماء حزب الأحرار.
١٩- هو السير برسي زكريا كوكس Percy Cox (1864-1937) عسكري بريطاني شارك في محاربة الدولة العثمانية في الشرق الأوسط. ذهب إلى العراق لأول مرة مع الجنرال مود بوظيفة حاكم سياسي من قبل القائد العام في العراق عام 1917 ، ثم انتقل إلى طهران ليتولى منصب الوزير المفوض في السفارة البريطانية. وعاد ثانية إلى العراق عام 1920 لتهدئة الأوضاع التي اضطربت بعد قيام ثورة العشرين وتشكيل الحكومة المؤقتة، فألفها برئاسة عبد الرحمن النقيب. ثم قام بإجراء التصويت العام والمناداة بفيصل ملكاً على العراق.
٢٠- جريدة الفلاح ، العدد: 26 ، الصادر في 23/8/1921 وجريدة دجلة / العدد: 49 الصادر في 24/ 8/ 1921
٢١- أمين الريحاني ( ملوك العرب ) ، ص 836
٢٢- غيرترود بيل Gertrude Bel كاتبة ورحالة ومصورة وعالمة آثار انكليزية. ولدت عام 1868 ، وتوفيت عام 1926 في بغداد. في بداية الحرب العالمية الأولى انضمت للمخابرات البريطانية. في عام 1915 عينت في المكتب العربي بالقاهرة. كانت معنية بجمع المعلومات عن العرب وتحريضهم ضد الأتراك. في عام 1920 أصبحت سكرتيرة للسير برسي كوكس. ولعبت دوراً بارزاً في تنصيب فيصل ملكاً على العراق. كانت لها علاقات قوية مع السياسيين العراقيين وزعماء القبائل وشيوخ العشائر والوجهاء. عام 1923 أسست المتحف العراقي وكانت أول مدير للمتحف.
٢٣- علي الوردي / ج 6 / ص 121


المصادر
-Attiyyah, R. IRAQ, 1908- 1921, A Political Study, Institute for Research and Publishing, Beirut: 1973
-Batatu, Hanna, The Old Classes and Revolutionary Movements of Iraq, Princeton University Press, New Jersey: 1978.
-Bell, Gertrude, Review of Civil Administration of Mesopotamia, London: 1920
-Burgyne, Elizabeth, Gertrude Bell, From her Personal Papers 1914- 1926, Ernest Benn, London; 1961

-أمين الريحاني (ملوك العرب )
-جريدة الفلاح ، العدد: 26 ، الصادر في 23/8/1921 وجريدة دجلة / العدد: 49 الصادر في 24/ 8/ 1921
-حسن العلوي (الشيعة والدولة القومية في العراق ١٩١٤- ١٩٩٠) ، لندن: ١٩٩٠
-(حنا بطاطو: الطبقات القديمة والحركات الثورية في العراق ).
-علي الوردي ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث )

أخر الأخبار