سلسلة أبنية تراثية بغدادية .. بيوت تراثية ٥

سلسلة أبنية تراثية بغدادية .. بيوت تراثية ٥

• 10-09-2023, 11:35
• مقالات
• 229 مشاهدة

مشاركة عبر :

د. صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 

قصر إقبال الدولة .. من المعتمدية البريطانية إلى معهد الدراسات الموسيقية

يضم شارع الرشيد مجموعة من الأبنية التراثية التي لعب أدواراً في تاريخ العراق الحديث.
ومن هذه الأبنية دار المعتمدية البريطانية التي تقع في منطقة السنك مقابل بناية الاتصالات وقريباً من جسر السنك .

معهد الدراسات الموسيقية
أُسس المعهد سنة 1970 م، بحسب القانون رقم(61) عام 1970 بتاريخ 29-12-1970 تحت اسم معهد الغناء العراقي ويتبع لوزارة الاعلام في حينها[1] ونشر في جريدة الوقائع العراقية في العدد 1955 في 13-1-1971. غير اسم المعهد في العام 1971 من معهد الغناء العراقي إلى معهد الدراسات النغمية العراقي بالقانون رقم(19) لسنة 1971 والصادر بتاريخ 29-3-1971، ونشر في جريدة الوقائع العراقية في العدد 1986 في 11-4-1971 [2] بعد ذلك وفي العام 1987 اصدرت الحكومة العراقية قانوناً جديداً لمعاهد الدراسات الموسيقية هو القانون رقم (10) لسنة 1987 والصادر بتاريخ 1-1-1987 حيث الغى في المادة (34) القانون رقم (61) لسنة 1970 وتعديلاته وعدل القانون ارتباط المعهد إلى وزارة الثقافة والاعلام – دائرة الفنون الموسيقية من جميع النواحي الادارية والمالية والفنية



الأمير إقبال الدولة

يشغل المعد الآن بناية تراثية كبيرة . تعود إلى الأمير إقبال الدولة النواب واسمه محسن عبد الرحمن شمس الدين الملقب بـ (إقبال الدولة) وهو حفيد معين الدولة سعادة علي خان النواب. والأخير هو مؤسس دولة أوده في الهند التي استمرت للفترة من عام ١٧٢٢ إلى ١٨٥٨، ويعود نسبه إلى الإمام الكاظم (ع). وزوجته هي ابنة الملك تيبو سلطان ملك مليبار ، وابنه جلال الدين توفي صغيرا بعمر لا يتجاوز العشر سنوات.

إقبال الدولة النواب إحدى الشخصيات الهندية الشهيرة التي جاءت من الهند واستقرت في بغداد عام ١٨٣٦ . وكانت له مشكلة مع الانكليز هناك ، فغادر الهند ومعه ثروة عظيمة ، فسكن الكاظمية أولا ، ثم بنى قصراً كبيراً في منطقة السنك عام ١٨٦٠. وكان القصر مكوناً من ثلاثة بيوت ، الأول المطل على دجلة كان من طابقين كبيرين، والثاني بيت العائلة وهو الأوسط ، والثالث كان يمتد ٥٠ متراً شرقاً حتى كان يضم الأرض التي شيدت عليها دائرة البريد المركزي في بغداد. وقد هدم القسم الأخير عند فتح شارع الرشيد في عهد الوالي ناظم باشا عام ١٩١٠، وأكمل العمل الوالي خليل باشا عام ١٩١٦.

وكان اقبال الدولة لما شعر بدنو أجله انتقل الى بلدة الكاظمية وله فيها املاك واسعة واستقر في بيت له في محلة القطانة وتوفي فيها يوم الاثنين 21 كانون الاول 1887. ودفن في احدى دوره التي ضمت ضريحه لاحقا ،  و تحول قصره في الكرخ الى فندق ثم الى مدرسة باسم متوسطة الملك فيصل ومن ثم هدم و شيدت على ارضه مستشفى الكرخ للولادة في بداية الستينات. وقد ترك إقبال الدولة وصيته المكتوبة بخط يده بتاريخ ٩ ربيع الأول ١٣٠٠ هـ الموافق ١٨ كانون الثاني ١٨٨٣. وقد تضمنت الوصية أهمية إنفاق أمواله وأوقافه على إقامة الشعائر الحسينية والصدقات وصيانة قبره وأجور الحراسة وغيرها.

الانكليز يستولون على ميراثه
بعد وفاته سيطرت بريطانيا على ممتلكاته وما يجري عليه، وأصبح المقيم البريطاني في بغداد قيماً عليها، لتبعية اقبال الدولة البريطانية. ويجدر الذكر ان اقبال الدولة هو رأس الاسرة البغدادية الكريمة (اسرة النواب) التي برز منها عدد من الشخصيات المرموقة.
في اوائل القرن العشرين عرضت البناية كاملة للبيع، وتقدم عدد من اثرياء بغداد الى مزايدة البيع الا ان المقيم البريطاني ببغداد طعن في شرعية البيع واحتج بان البناية عائدة للممتلكات الانكليزية فتوقفت المزايدة التي كادت ترسو عند التاجر الكبير عبد القادر دلة بمبلغ 8 الاف ليرة. ومع هذا فقد ذكرت بعض المدونات ان الحكومة البريطانية اشترت دار النواب سنة 1903 وجعلتها مقرا للمقيمية البريطانية في بغداد التي كانت تسمى الباليوز Balio وهي كلمة إيطالية تعني السفير أو القنصل . وهي بدورها مستمدة من اللاتينية Bajulus التي شاع استخدامها في العهد العثماني. وهكذا حملت أوراق المكاتبات الرسمية للمقيم البريطاني في الخليج اسم (باليوز دولة بريطانيا في الخليج).
 (وكانت المقيمية البريطانية قبل هذا في بيت يقع قبالة جامع الخاصكي ثم في بناية اصبحت اوتيل عبد الاحد في اوائل العشرينيات ثم انتقلت الى قصر النواب سنة 1904). اصبحت البناية في القرن العشرين من اشهر البنايات المطلة على دجلة، وكان العلم البريطاني يرفرف عاليا عليها، ويقف امامها زورق بريطاني جميل يدعى (كوميت  Comet) أي المذنّب .
 ولما اندلعت الحرب العالمية الاولى واحتلت القوات البريطانية بغداد في اذار 1917، اصبحت البناية مقرا للقيادة البريطانية في العراق (القيادة السياسية والعسكرية الجنرال ستانلي مود (١٨٦٤- ١٩١٧).
 واستمر الوضع الى سنة 1919 حين اشترت الحكومة البريطانية المحتلة بيت كاظم باشا في الجانب الاخر من النهر في محلة الكريمات بمنطقة الشواكة وجعلته مقرا لها، وأصبح مقر المندوب السامي البريطاني في العراق السير بيرسي كوكس Percy Cox  ، ثم اصبح السفارة البريطانية ولم يزل.

في مكتب المس بيل
وكان مكتب المس بيل في دار الاعتماد البريطاني. تصف المس هاريسن Harrison مكتب المس بيل فتقول: حينما حللت في بغداد لأول مرة في سنة ١٩٢٣ حصلت الفرصة بلقاء غيرترود بيل (١٨٦٨- ١٩٢٦) Gertrude Bell في عدة مناسبات، وأتحدث إليها بأحاديث طويلة. وكان تعرفي عليها في مكتبها بقسم الإدارة من بناية دار الاعتماد البريطانية علي ضفة دجلة. وبعد انتظار عدة دقائق أدخلت إلى غرفة ذات سقف عال وشبابيك فرنسية طويلة تطل على النهر . وكانت أسوأ غرفة رأيتها من حيث الترتيب والتنسيق. إذ كانت الكراسي والمناضد والأرائك مشحونة بالوثائق والمستندات والخرائط والأوراق المكتوبة بالانكليزية والفرنسية والعربية. وكانت المس بيل تجلس وراء منضدة تكدست عليها الأوراق والملفات عالياً حتى فاضت . كانت نحيفة البنية بفستان سبورت صنع من حرير محبوك ذي لون أصفر غامق. وقد لاحظتُ حين قامت أن قوامها ما زال رشيقاً. ولم أجد في هيئتها أو قيافتها ما يستدل منه على كونها رحالة أثّرت فيها عناصر الجو وعوامله وسلبت عودها.
 وقد سكنت المس بيل في بيت مجاور للمقيمية هو بيت موسى الباججي الذي كان صديقاً مقرباً لها لكن وافته المنية عام ١٩١٩. وقد ذكرت في إحدى رسائلها أنه أحد الذين كانت تعتمد عليهم في معرفة اتجاهات الرأي العام في القضايا المختلفة.
معهد الدراسات الموسيقية
اما بيت النواب فقد عرضته الحكومة البريطانية للبيع عام 1920، فاشترته الحكومة العراقية المؤقتة واتخذته لدائرة الكمارك والمكوس التي كانت تشغل قبل هذا موقعا في بقايا المدرسة المستنصرية، واستمر الامر بهذا الشكل الى منتصف الستينيات حيث انتقلت ملكيته الى الدوائر الأثارية، وشغلته بعد هذا دائرة المصايف والسياحة. وكان امام هذه الدائرة زورق سياحي جميل للغاية يرسو امامها ويقوم بجولات سياحية في نهر دجلة لكبار الشخصيات في مناسبات مختلفة. وفي عام 1972 جعلت منه وزارة الثقافة متحفا للأزياء والمأثورات الشعبية ومتحفا لمخلفات العائلة المالكة في العراق. في عام ١٩٨٦ أصبح مقرا لمعهد الدراسات الموسيقية.
والبناية الحالية لمعهد الدراسات الموسيقية، هي القسم الاوسط من دار اقبال الدولة، خليط لعدة توجهات معمارية كانت سائدة في اواخر القرن التاسع عشر، فالبناية حافظت على مرتكزات البيت البغدادي التقليدي. وقد تم في القصر تصوير مشاهد من فلم المسألة الكبرى خاصة في الشرفة والباحة الداخلية.


جولة في دار المعتمدية البريطانية سابقاً

في ٢٠ شباط ٢٠٢٣ قمت بزيارة بناية المعتمدية البريطانية في بغداد التي يشغلها معهد الدراسات الموسيقية. استقبلنا مدير المعهد السيد أحمد سليم غني بحفاوة ، واستضافنا في مكتبه ، وأعطانا نبذة عن المبنى وعن المعهد والدراسة فيه. وذكر أن المعهد كان في منطقة الوزيرية ثم انتقل إلى هذا المبنى. وأن الدراسة فيه تستغرق خمس سنوات بعد الشهادة المتوسطة يحصل بعدها الطالب علي دبلوم فن.
ويتعلم الطلاب على العزف على الآلات الموسيقية كالعود والسنطور والطبل والجوزة. وأن المقام العراقي عمره ٥٠٠ عاما ، وهو يختلف عن أداء المقامات في الدول المجاورة. ثم كلّف السيد هندرين حكمت معاون فني ومدرس آلة السنطور بمرافقتنا أثناء التجول في المبنى.

تم تشييد المبنى على الطراز البغدادي التقليدي حيث توجد في الوسط باحة مفتوحة على الهواء الطلق تحيطها الغرف من كل أركانها. وتوجد طارمة بأعمدة من خشب تشكل رواقاً أرضياً وآخر علوياً. وأعمدة الرواق الأرضي أكثر سمكاً من أعمدة الطابق العلوي. تم استخدام الطابوق الأصفر في البناء وفي تزيين واجهات الجدران. وتعلو الأبواب والشبابيك أقواس من الطابوق أيضاً ، فتمنح المشهد فناً متناسقاً وجمالاٍ هادئاً . أما الأرضية فهي من الكاشي المزخرف والملون بثلاثة ألوان. في وسط الباحة توجد نافورة تم إلغاؤها ووضع في حوضها تمثال لسيدة تعزف على قيثارة صغيرة. يربط بين الطابقين سلم معلق يبدو مستحدثاً وليس من أصل البناء.
يلاحظ أن أعمال الديكور في الجدران والسقوف بسيطة وقليلة مقارنة ببيت النواب في الكاظمية الذي تزدحم غرفه وأروقته بالزخرفات الخشبية والزجاجية والمرايا .

أما المدخل فهو عبارة باب ذو مصراعين من الخشب يعلوه قوس من الطابوق. وفوق القوس توجد لوحة من الطابوق المنجور تشير إلى إحدى فترات استخدام المبنى وهو (متحف الأزياء والمأثورات الشعبية) ، ولا توجد سنة وضع اللوحة. أما المسافة بين القاوس والباب فقد ملئت بزخرفة من الطابوق وهي على نوعين ، العلوي يمثل تشكيلة الأرابيسك حيث تتوسطها وردة بعشر أوراق. والجزء السفلي على شكل طابوق بارز وآخر داخل في الجدار ، فيعطي تبايناً في اللون والضوء.

الغرف عبارة عن قاعات كبيرة تستخدم كصفوف للطلاب وتم تسميتها على أسماء موسيقيين مثل قاعة (روحي خماش). وتم أغلاق الجزء السفلي من الشبابيك بالطابوق المزخرف ، وأبقي الجزء العلوي تحت القوس مزيناً بالزجاج الملون. أما سقوف القاعات فقد تم تغليفها بخشب الچام البني اللون، وتتوسط السقف زخرفة بارزة مصنوعة من الجص. أما أرضية القاعات فهي من الكاشي الموزائيك.

في إحدى قاعات الدرس تم تزيين أحد أضلاعها بزخرفة إسلامية بديعة على شكل محاريب مزينة بالكاشي الكربلائي الملون ، وبينها أعمدة مستطيلة عليها زخارف نباتية رائعة. وفوق المحاريب توجد كتيبة بالخط الكوفي للآية الكريمة (بسم الله الرحمن الرحيم وإن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى) صدق الله العظيم. وتعلو الكتابة مقرنصات بارزة ومزينة بالكاشي الملون والزخارف الجميلة.

على واجهة النهر توجد شرفة واسعة يحمل سقفها مجموعة من الأعمدة الدائرية السميكة والمبنية من الطابوق. وتعلوها أقواس من الطابوق أيضاً.
وهناك قسم ملحق بالمبنى يختلف طراز بنائه ، فهو يتألف من طابقين لكل طابق رواق يستند سقفه على أعمدة مربعة من الطابوق ، القسم الأرضي توجد أعمدة سميكة وبارتفاع قليل. أما أعمدة الطابق العلوي فهي بسمك أقل وأكثر ارتفاعاً. وبين عمود وآخر يوجد سقف من الطابوق أيضاً. وتم تزيين الجدران بتشكيلات من الطابوق البارز والغائر. هذا الملحق على شكل حرف U حيث تتوزع الغرف على ثلاثة أضلاع ، والضلع الرابع المفتوح تم بناء رواق مفتوح مع أعمدة من الطابق تناظر أعمدة الأضلاع الثلاثة الأخرى. أما شبابيك هذا القسم فتبدو ذات طراز فرنسي حيث لا تعلوها أقواس بل تعلوها قطعة خرسانة صبّت بقالب معين تحمي الشباك من الشمس قليلاً ،  وفوقها واقية مطر على شكل مثلث . ربما كان أحدها مكتب المس بيل على حد وصف المس هاريسن.
ما زال المبنى يعاني من بعض الأضرار وبحاجة إلى صيانة وإعمار وخاصة السياج المواجه لنهر دجلة والحدائق المجاورة للسياج.  


المصادر
-رفعت عبد الرزاق محمد (من تاريخ معهد الدراسات الشرقية ) في ملاحق المدى في ١٢ نيسان ٢٠٢٣. وقد استفدت كثيراً من المعلومات التي انفرد بها كاتب المقال.
-رفعت عبد الرزاق (المس بيل في بغداد .. حقائق مطوية وذكريات طريف) في ملاحق المدى بتاريخ ١٥ آذار ٢٠١٥
-موقع (النواب إقبال الدولة) حيث ينشر ورثة إقبال الدولة معلومات وقضايا ووثائق تخصه. Alnawab Iqbal aldaula

• طباعة