الرئيسية / الاستبداد (١)

الاستبداد (١)

"Today News": بغداد 
الاستبداد هو اعتداء مقصود على مركز الانسان في الكون، والقبول به هو تنازل طوعي من قبل الانسان عن هذا المركز الذي منحه الله له في الارض، وهو الخلافة، بموجب الاية التالية من القران الكريم: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". وبموجب هذه الاية فان الانسان كائن حر مسؤول يملك حق تقرير مصيره ولا يحق لاي كان ان يتسلط عليه، ابتداءً. فالانسان يملك حق حكم نفسه بنفسه.
وهذا المركز قانون طبيعي، بمعنى انه ليس جعلا  تشريعيا يستند الى ارادة المشرع فقط (وان كان هذا صحيحا بنفسه)، انما هو مستمد من طبيعة الانسان وقدراته الذاتية، كما يُفهم من الاية التالية: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الاحزاب 72). ويقول السيد محمد باقر الصدر في تفسير هذه الاية ان عرض الامانة (اي الخلافة)، على السماوات والارض والانسان انما عرض تكويني، كما ان رفضها من قبل السماوات والارض، وقبولها من قبل الانسان، تكوينيان. وهذا هو معنى القانون الطبيعي المستمد من طبيعة وتكوين الانسان، المتميز به عن تكوين السماوات والارض. ان الانسان بطبيعته او بفطرته مزود (من عقل وارادة وحرية الاختيار) بما يجعله قادرا على ان يتبوأ مركز الخلافة في الارض: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم 30) ويتأكد هذا المركز من خلال "التوحيد" الذي يعني اتباع الانسان للقيم العليا الحافة بعناصر المركب الحضاري والمستمدة اساسا من صفات الله.
المستبد يصادر هذا كله ويسحق الطبيعة الفطرية للانسان ويحرمه من سيادته على نفسه وعلى الارض. وينصب نفسه مكان الانسان في السيادة والحكم، ولذا فهو "طاغية"، اي تجاوز على ما ليس له. والسيادة ليست له وحده، انما هي لكل انسان.
القبول بالاستبداد تنازل من قبل الانسان السيد عن سيادته وحريته وارادته. انه قبول بعبودية الانسان لاخيه الانسان ، او هو "العبودية الطوعية"، كما يسميها الفرنسي ايتيان دو لا بويسي (١٥٣٠-١٥٦٣). والعبودية الطوعية او الاختيارية تمثل خللا حادا في المركب الحضاري للمجتمع وقيمه العليا. لان منظومة القيم العليا السليمة تقرر، بعد تثبيت مبدأ خلافة الانسان وسيادته وحقه في تقرير مصيره، ان افراد المجتمع متساوون فيما بينهم، ولا سلطة لاحد على احد الا بموجب القانون والاختيار. فالولاية العامة تسري بين الناس فردا فردا كما يقرر العلامة محمد حسين الطباطبائي والسيد محمد باقر الصدر استنادا الى الاية القرانية: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ". وهذا ما اقره جان جاك روسو  ( 1712 - 1778) في كتابه "العقد الاجتماعي" الصادر في عام ١٧٦٢ حيث يقول "ليس لانسان سلطة طبيعية على اقرانه." لكن الانسان، الحر الخليفة صاحب السيادة، قد يتنازل عن سيادته تحت ضغط الفقر والجهل والخرافة، وهي العناصر التي تصوغ "سيكولوجية الإنسان المقهور" بمصطلح الباحث اللبناني  مصطفى حجازي في كتابه "التخلف الاجتماعي" المنشور  عام 2001. الانسان المقهور مهزوم داخليا، ضعيف الشخصية، مسلوب الارادة، محكوم بالخوف، لم يذق طعم الحرية، وبالتالي يفقد الحساسية المضادة للاستبداد والممانعة الذاتية النفسية له. يفهم المتطلعون الى الاستبداد والاعلاميون الذين يعملون بخدمتهم هذه الحقيقة المرة فيعمدون الى اغراق المجتمع بصور الحاكم السائر في طريق الاستبداد، ويخفضون القدرة الشرائية للمواطنين، ويشيعون ثقافة التملق والخنوع، ويضيقون على اصحاب الفكر والرأي الحر، وتدريجيا يحجرون على عقول الناس لكي يطلقوا ايديهم في الحكم، مصداقا للاية: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ".
10-01-2021, 13:34
عودة