ولاية الفقيه عند الميرزا النائيني
القسم الأول
علي المؤمن
يعد المرجع الديني الشيخ محمد حسين النائيني المعروف بـ "الميرزا النائيني"(1) أحد أبرز الرموز الفكرية والفقهية المعبرة عن توجهات مدرسة النجف في القرن العشرين الميلادي. وقد اشتهر ببحثه "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" الذي كتبته باللغة الفارسية في العام 1908 خلال ثورة المشروطة في ايران، وهو بحث مهم في الفكر السياسي الإسلامي، واستند عليه التيار الديني في ثورة المشروطة للتأسيس لحكم مقيد بالدستور، ومجلس تشريعي منتخب مقيد بأحكام الشريعة.
ويعتقد بعض الباحثين والمهتمين بأن هذا البحث يمثل الرأي الفقهي للميرزا النائيني في الدولة والولاية عليها، وهذا الاعتقاد ناشيء من عدم اطلاعهم على الأبحاث الفقهية للشيخ النائيني في موضوع ولاية الفقيه، ولتصورهم بأن بحث "تنبيه الأمة" هو بحث فقهي استدلالي.
وأصوّب النقطتين المذكورتين بمايلي:
1- لم يكن هدف الشيخ النائيني من بحث "تنبيه الأمة وتنزيه الملّة" طرح نظرية فقهية في الدولة الإسلامية وولاية الفقيه، أو يقول بأن الحكم الملكي الدستوري يمثل الموقف العقدي والفقهي لمدرسة الإمامة، بل أنه تعامل مع الممكن ومع الواقع؛ فقد عدّ النظام السياسي الدستوري أكثر أنظمة الحكم عقلانية، وملاءمة للواقع وللظروف الموضوعية؛ فالحكومة الدستورية هي خيار الأمة في مقابل الاستبداد والنظام الشمولي، من باب دفع الأفسد بالفاسد، على اعتبار أن النظام الملكي الدستوري هو أهون الشرين، وليس باعتباره الخيار الشرعي للأمة؛ لأن الملكية الورائية، سواء كانت دستورية أو غير دستورية، لا تستند في شرعيتها الى الشريعة والأمة، فهي فاقدة للشرعية وفق المعيارين(2). أي أن الميرزا النائيني، ومن ورائه مرجع النجف الشيخ الآخوند الخراساني وقائد ثورة المشروطة السيد عبد الله البهبهاني الغريغي، كانوا يبحثون عن مخرج لإنقاذ المشروطة من ثلاثة تهديدات كانوا يتصورونها:
أ- تهديد تيار الإستبداد الذي كان يرمز اليه الشاه القاجاري وحكومته، وخاصة بعد قيامه بالغاء دستور العام 1906 وحل مجلس الشورى وممارسة العنف الشديد مع الثوار.
ب- تهديد التيار العلماني، والممثل بالبيت الماسوني وعملاء السفارة البريطانية في طهران، والذي كان يعمل على مصادرة الثورة وجهود علماء الدين، وإقامة حكم علماني يستبعد أي مدخلية للشريعة وأحكامها.
ت- تهديد تيار المشروعة، وهو الشق المحافظ في التيار الديني، وكان يتزعمه الشيخ فضل الله نوري ويدعمه مرجع النجف الشيخ كاظم اليزدي. وهو التيار الذي يرفض الدستور، ويعد تدخل الأمة في التشريع هو شراكة مع الشريعة، وهو بالتالي شرك بالله.
وكتابة النائيني لبحث "تنبيه الأمة" باللغة الفارسية ومنعه المشدد لترجمته الى اللغة العربية، هو دليل واضح على الهدف السياسي للبحث، وكونه خاص بحلحلة مشكلة ثورة المشروطة في إيران، وهو واضح من العنوان الأصلي للبحث: "تنبيه الأمة وتنزيه الملة در لزوم مشروطيت". ثم أن الميرزا النائيني رجع عن آرائه المدونة في هذا البحث، بدليل أنه أفتى باتلاف نسخ البحث وحرمة تداوله، حين آلت اليه المرجعية بعد العام 1920، ووصل الأمر الى أن يدفع ثلاث ليرات ذهبية لشراء النسخة الواحدة بهدف اتلافها. وحين تمت ترجمة البحث الى العربية وطباعته في لبنان في آخر أيام حياته، فإنه رفض ذلك بشدة، وأمر باتلاف جميع النسخ. ولذلك لم تنتشر النسختان الفارسية والعربية من "تنبيه الأمة" إلا بعد وفاته. وبموزاة ذلك؛ طرح النائيني رؤيته الفقهية في موضوع ولاية الفقيه العامة في دروسه العالية (البحث الخارج) في إطار تعليقه على بحث "مناصب الفقيه" في "كتاب البيع" للشيخ مرتضى الأنصاري.
2- إن المصدر المعتمد الكاشف عن رأي الشيخ الميرزا النائيني في مجال الولاية على الدولة ومساحات ولاية الفقيه، هو دروسه التخصصية العالية (البحث الخارج)، وتحديداً كتاب "البيع"، وهو الجزء الثاني من تقريرات "المكاسب والبيع"(3). ويوجد نصان لهذه التقريرات، الأول حرره الشيخ محمد تقى الآملي(4) والآخر حرره الشيخ موسى الخونساري. وبعد المقارنة بينهما، رجحت تحرير الآملي، لوضوحه واقتصاره على كلام الشيخ النائيني دون مقتطفات من عبارات الشيخ الأنصاري.
وبالتالي؛ كان بحث "تنبيه الأمة" هو المخرج الفكري الإسلامي لثورة المشروطة؛ بهدف إنقاذها من الانهيار، والاحتفاظ بملامحها الدينية والشعبية، وليس بهدف التأصيل الفقهي للدولة الإسلامية في عصر الغيبة. ولذلك جاءت الأبحاث الفقهية التي طرحها الشيخ الميرزا النائيني في كتاب "البيع" ذات منحى فقهي استدلالي تخصصي مختلف.
ومن خلال المقارنة العلمية بين البحثين، لا نجد تعارضاً بينهما، لا في الشكل ولا في المضمون، فمن الناحية الشكلية يمثل بحث "تنبيه الأمة" تكييفاً فكرياً إسلامياً لواقعة سياسية محددة بزمان ومكان وظروف خاصة، بينما يكشف بحث "البيع" عن آراء النائيني الفقهية التخصصية. أما من ناحية المضمون، فإن ولاية الفقيه العامة كما طرحها النائيني في بحث "البيع" لاتتعارض مع وجود مجلس منتخب للأمة يمارس التشريع بما يتفق والشريعة الإسلامية ويراقب السلطة التنفيذية كما طرحها في بحثه "تنبيه الأمة"، بل ولاتتعارض مع انتخاب الأمة للفقيه الحاكم، سواء أسميناه انتخاباً أو كشفاً أو ترجيحاً. والأهم من كل ذلك أن الشيخ النائيني لم يحدد الحكم الشرعي بالشكل الملكي، بل تحدث في "تنبيه الأمة" عن مفردتين أساسيتين: دور الأمة، من خلال مجلس الشورى الذي تنتخبه، في تشريع القوانين وفرز السلطة التنفيذية والرقابة عليها، وضرورة الدستور كضامن لهذا الدور ولمنع استبداد سلطات الدولة، بما فيها السلطة الأولى (الشاه).
وأعتقد أن الذين انتقدوا الشيخ النائيني فيما بدا لهم أنه يشرعن للملكية الوراثية الدستورية، لم يطّلعوا على بحوثه في "المكاسب والبيع"(5)، أو أنهم اطّلعوا عليها وأغفلوها(6). وفي المقابل، ظل آخرون يروجون لبحث "تنبيه الأمة" ليخلقوا منه نظرية فقهية عنوانها "ولاية الأمة" على نفسها، مقابل مبدأ "ولاية الفقيه العامة"، ويعتبرونها النظرية التي تعبر عن توجهات مدرسة النجف، مقابل مدرسة قم. ومنطلق هذا الاختلاق المناكفة السياسية أو الجهل بآراء الميرزا النائيني وبولاية الفقيه وبمدرسة النجف ومدرسة قم أو المناكفة والجهل معاً(7).
__________
إحالات القسم الأول
(1) الشيخ محمد حسين الغروي النائيني، ولد في مدينة نائين بإيران في العام 1860، وهاجر إلى مدينة سامراء وتتلمذ على المرجع الأعلى الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي، ثم استقر النجف الأشرف وحتى وفاته في العام 1936 م. تصدى للمرجعية في النجف بعد وفاة الشيخ فتح الله الاصفهاني (شيخ الشريعة) في العام 1920. من أبرز تلامذته السيد محسن الحكيم والسيد محمود الشاهرودي والسيد أبي القاسم الخوئي.
(2) أنظر: علي المؤمن، الفقه والدستور: التقنين الدستوري الوضعي للفقه السياسي الإسلامي، ص 116.
(3) "المكاسب" كتاب فقهي استدلالي لمرجع النجف الشيخ مرتضى الأنصاري، وقد اعتمده الشيخ الميرزا النائيني منهجاً لدروسه في البحث الخارج. وقد حرر الدروس الشيخ محمد تقى الآملي، وصدرت النسخة الأولى منها في العام 1953 بعنوان "كتاب المكاسب والبيع تقريرات الميرزا الشيخ محمد حسين الغروي النائيني"، وقد اعتمدنا في بحثنا هنا النسخة المطبوعة الصادرة عن مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة مدرسي الحوزة العلمية، قم، 1413 ه. أما كتاب "البيع" فهو الجزء الثاني من التقريرات.
(4) ولد أية الله الشيخ محمد تقى الآملي في مدينة طهران في العام 1884. هاجر إلى النجف الأشرف وتتلمذ على مراجعها الشيخ محمد حسين النائيني والشيخ ضياء الدين العراقي والسيد أبو الحسن الإصفهاني.
(5) شخصياً لم أطلع على التقريرات إلّا قبل أربع سنوات فقط، رغم أن طبعتها الجديدة صدرت قبل حوالي 29 سنة. ولذلك جاءت كتاباتي في تقويم بحث "تنبيه الأمة" للشيخ النائيني غير وافية.
(6) ربما لم يطلع الشيخ حسين علي المنتظري على هذه التقريرات أيضاً، لأنه اعتمد في كتابه "دراسات في فقه الدولة الإسلامية"، بحث "تنبيه الأمة" فقط في تقويم أفكار الميرزا النائيني، وانتقده انتقاداً لاذعاً. أنظر: دراسات في فقه الدولة الإسلامية، ج 2 ص 265.
(7) أنظر في مجال المقارنة: علي المؤمن، "النظام الاجتماعي الديني الشيعي"، ص 184.