الرئيسية / شرط الكفاءة في المرجع الأعلى

شرط الكفاءة في المرجع الأعلى



   ذكرنا في بحث سابق بأن السمات الشخصية السلبية المتعلقة بالتكوين النفسي للفقيه؛ ينعكس  تأثيرها على ملكة التقوى والعدالة تلقائياً، وليس على توجيه مسار استنباط الفتوى وحسب، ولاسيما في القضايا المتعلقة بالنظام العام. فمن الصعوبة ـ مثلاً ـ اجتماع شرط العدالة وملكة التقوى مع صفات الجبن والاستبداد وضيق الصدر والبخل والحسد والتعصب، أو التسامح المفرط والسذاجة وقلة التدبير وضعف الشخصية. إذ ستكون العدالة والتقوى حينها مفهومان فضفاضان لا يكبحان جماح التأثيرات النفسية والشخصية للفقيه وانعكاساتها على "عدالة الفتوى" و "تقوى الحكم الشرعي". وبالتالي؛ فإنّ الفقاهة والأعلمية لا تخلقان ملكة التقوى ولا نزعة العدالة، كما أن الأعلمية والعدالة لاتمنحان الفقيه قوة الشخصية وحسن الإدارة والتدبير والحكمة.

    وبمعنى آخر؛ فإن القدرة الفائقة على استنباط الحكم الشرعي من مصادره، و تسامي مستوى العدالة؛ لا تعنيان القدرة على تشخيص مصلحة المجتمع والأمة، و وعي المصالح والمفاسد. وأن الأعلمية في الفقه وأصوله والأعمقية في مقاربة المسائل العقدية والكلامية، وقوة ملكة التقوى والزهد؛ لا تعنيان القدرة على حفظ النظام العام وإدارة الأمور الحسبية العامة؛ فضلاً عن قضايا الدولة. كما أن الأعلمية والعدالة هما ـ بالأساس ـ شرطان نسبيان يصعب قياسهما والتحقق منهما؛ بل لعلهما ينطبقان ـ وفق أهل الخبرة ـ على أكثر من فقيه ومرجع في الزمان والمكان نفسيهما، كما أنهما لايفرزان المرجع الحكيم الشجاع الواعي المدبّر.

 ولذلك لابد من إضافة شرط أساس للمرجع الأعلى المتصدي، هو شرط الكفاءة. وهو الشرط الترجيحي الأهم إطلاقاً؛ بل مرجحاً على الأعلمية النسبية، أو مايمكن تسميته ((شبهة عدم الأعلمية)). فإذا كان هناك ـ مثلاً ـ خمسة مراجع متقاربين في المستوى العلمي، وكان أحدهم مشتهراً بأعلميته، والأخر مشتهراً بكفاءته؛ فمن الأولى هنا ترجيح الأكفأ للتصدي وللمرجعية العليا، مع لحاظ الشرط الرابع: المقبولية العامة.    

    والكفاءة هنا تعني الصفات والمهارات والسمات الشخصية الذاتية التي مرّ ذكرها، والتي تجعل الفقيه أو المرجع المتصدي يمتلك قدرة تشخيص المصالح والمفاسد، والقدرة العملية على الزعامة والتدبير في الشان العام الإجتماعي والسياسي والثقافي والمعيشي، و من بينها القضايا ذات العلاقة بالمجتمعات والدول التي يتواجد فيها الشيعة. ويمكن إجمال هذه السمات والصفات والمهارات بما يلي:
١- الحكمة ورجاحة العقل والإتزان المقترنة بالشجاعة.
٢- الوعي الدقيق بالمحيط الإجتماعي والوطني والدولي، الى مستوى القدرة العميقة على تشخيص المصالح والمفاسد على المستويين المحلي والعام.
٣- قدرة الإدارة والقيادة والتدبير، بدءاً بالحاشية والمكتب الخاص ومؤسسة المرجعية والحوزة العلمية، وانتهاء بالمجتمع والشأن العام.
٤- الثقافة العامة، ولاسيما في العلوم و المعارف المرتبطة بفتاوى الشأن العام وإدارته؛ كعلوم الإجتماع والنفس والانثروبولوجيا والسياسة والقانون والإقتصاد.
٥- نزعة إستشارة أهل الإختصاص الحقيقيين في موضوعات الفتاوى والأحكام والشأن العام، سواء من علماء الحوزة أو غيرهم.  

و تعقيباً على المهارة الخامسة السابقة؛ فإن جزءاً من مظاهر الحكمة وكفاءة الزعامة والتدبير؛ الإستعانة بأصحاب الإختصاص الحقيقي في تشخيص الموضوعات؛ كخبراء الاجتماع والسياسية والاقتصاد والنفس والإعلام والعلاقات الدولية والقانون والتعليم؛ فضلاً عن خبراء استحصال المعلومات وتحليلها، وليس الإقتصار على الخواص وأعضاء المكتب. وهنا تفرض ألية المشورة وجود مجلسين لأهل الخبرة في مؤسسة المرجعية، أحدهما ديني خاص بكبار علماء الحوزة، والمتمثل بمجلس أهل الخبرة الحوزوي الذي سبق أن تحدثنا عنه في بحث سابق، والآخر مجلس مختلط يجمع بين علماء الحوزة والخبراء المدنيين في مختلف الاختصاصات. فضلاً عن وجود مراكز دراسات ومعلومات فائقة التخصص خاصة بمنظومة المرجعية.

  أما شرط المقبولية العامة فهو من الشروط الأساسية والمهمة التي تعمل على تحويل ولاية المرجع في الحسبة العامة أو الحكم من القوة الى الفعل. أي أن قبول الجمهور الشيعي لهذا المرجع أو ذاك بأن يكون هو الراعي والمرشد والزعيم لقضاياه العامة؛ سيعمل على تفعيل هذه الولاية والزعامة. ويتحقيق هذا الشرط من خلال ثلاث وسائل:
١- اختيار المرجع الأعلى من مجلس أهل الخبرة الحوزوي، وهو المجلس الذي يحظى أساساً بالمقبولية العامة وفق آليات تحدثنا عنها في بحث سابق.
٢- حجم المقلدين؛ فتوجه أكثرية الجمهور نحو تقليد مرجع معين؛ يمثل مقبولية عامة. على أن يكون هذا المرجع أحد مرشحي مجلس أهل الخبرة.
٣- التأييد العام الذي يتمظهر في تنفيذ توجيهات المرجع وفتاواه في الشأن العام من الجمهور.

 وفي كل واحدة من هذه الوسائل، وعلاقتها ببعضها؛ تفاصيل كثيرة، سنتناولها في بحوث تكميلية لاحقة.

وبالتالي فإن ملاك الولاية الممنوحة للفقيه المتصدي (المرجع الأعلى) هي أربعة شروط أساسية لاتنفصل عن بعضها:
١- الأجتهاد المطلق
٢- العدالة
٣- الكفاءة
٤- المقبولية العامة.

(البحث القادم: المرجعية النجفية بعد السيستاني)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3-06-2020, 22:40
عودة