التعرف على بنية الإجتماع الديني النجفي وظواهره العامة والخاصة؛ تسهل على الباحث والقارئ معرفة خصوصيات المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية؛ لأن الحضور المركزي المتجذر لرأس المنظومة (المرجعية الدينية) وجهازها الديني العلمي (الحوزة العلمية) في البيئة الجغرافية السكانية للنجف الأشرف؛ حوّل ظواهر الإجتماع النجفي المتراكمة الى جزء لايتجزء من المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية بصياغتها التاريخية والعالمية، كما جعل سيسيولوجيا النجف واحدة من أعقد السيسيولوجيات في العالم؛ إن لم تكن الأعقد.
إن الإجتماع الديني النجفي هو اجتماع عالمي بعناصره الإنسانية والفكرية والمثيولوجية وبثفافته الإجتماعية؛ أي أن تكوينه الإنساني تكوينٌ عالمي؛ لأن النجف تحوّل تلقائياً الى أرض هجرة مكثفة؛ منذ تمركز الحوزة العلمية فيه قبل حوالي ألف سنة، والتي حوّلت جغرافيا النجف الى مركز جذب واستقطاب قوي للشيعة من كل أنحاء العالم لدراسة العلوم الدينية، بفضل مؤسسها الشيخ الطوسي، القادم من مدينة مشهد الإيرانية. فضلاً عن أن وجود مرقد الإمام علي ظل محور استقطاب للشيعة أيضاً، لا سيما مع ظهور العمارة الأولى للمرقد على يد آل شهريار، الأسرة العلمية القادمة من مدينة قم الإيرانية، والتي أسست لنظام السدانة للمرقد، وظل أفرادها سدنة له طيلة قرنين تقريباً.
وفي الوقت نفسه كانت هناك أسر عربية عراقية، ولا سيما تلك التي تعود جذورها الى عشائر الكوفة والحيرة، وكذا البغدادية التي انتقلت مع الشيخ الطوسي، تمارس دورها في المساهمة بتأسيس حاضرة النجف. ثم أعقبها هجرة أفراد من القبائل النجدية والحجازية، والذين تحوّلوا الى أسر نجفية كبيرة. وهكذا كان للأسر الإيرانية والعراقية والنجدية والحجازية الفضل في تأسيس الإجتماع الديني النجفي. و برغم أن الانتماء الإجتماعي لهذه الأسر كان حضرياً وريفياً و بدوياً، إلّا أن طابع الإجتماع البدوي تكرّس في النجف بمرور الزمن وبتكاثر هجرة القبائل النجدية والحجازية؛ بسبب وقوع النجف على حافة مجموعة بوادي شاسعة، هي بادية النجف الممتدة الى بادية السماوة، وبادية الأردن الممتدة الى بادية كربلاء وغرب العراق والشام، وبادية نجد الممتدة الى بادية الحجاز.
وقد كانت القبائل البدوية العربية التي سكن بعض أبئائها النجف قبائل نجدية سنية غالباً، ثم تحولت الى التشيع بفعل قناعتها الدينية بالمذهب، وليس بالوراثة؛ ما جعلها أسراً شيعية متدينة. وظلت هذه الأسر ذات الأصول البدوية تشكل الحماية المسلحة للنجف، بعد أن تركت الترحال واستقرت، واشتغل أبناؤها في التجارة والكسب، مع احتفاظهم بكثير من عادات البدو وتقاليدهم، ولم يدخلوا الحوزة العلمية إلّا نادراً. ولعل أغلب أسر طرف "المشراق" وطرف "العمارة" تعود جذورهم الى هذه القبائل.
في حين كانت الأسر الإيرانية الشيعية أساساً؛ تهاجر الى النجف لطلب العلم الديني ودخول الحوزة العلمية غالباً، وليس من أجل الإستقرار المعيشي؛ أي أنها أسر متدينة بالأساس. أما العشائر و الأسر العراقية، سواء المدنية أو الريفية، والشيعية أصلاً أو السنية المتشيعة؛ فإن هجرتها الى النجف كان دينية غالباً؛ أي طلباً للعلم أو مجاورة مرقد الإمام علي. وهذا لايعني أن بعض أبناء الأسر ذات الأصول البدوية لم يدخلوا سلك طلبة العلوم الدينية، أو أن بعض أبناء الأسر الإيرانية لم يدخلوا معترك التجارة والكسب والمهن.
واستمر الإجتماع الديني والثقافي النجفي في حالة مخاض طيلة خمسة قرون؛ حتى أخذ يتبلور خلال القرون السادس عشر الى الثامن عشر الميلادي.
الذي أريد قوله؛ أن الطابع الديني التأسيسي للنجف بفعل هجرة المتدينين الشيعة إليها؛ بهدف مجاورة مرقد الإمام علي أو دراسة العلوم الدينية، أو بفعل هجرة السنة المتحولين الى التشيع عن قناعة دينية؛ جعل مظهره الإجتماعي مظهراً دينياً، وليكون مجتمعه هو مجتمع الحوزة العلمية و المرجعية الدينية.
هذه المعطيات تقود الى مجموعة نتائج:
1 - إن الأسر المؤسسة للنجف هي أسر عراقية وإيرانية ونجدية غالباً. أما المهاجرون الآخرون من باقي بلدان العالم؛ كالبحرين ولبنان والحجاز وأفغانستان والهند وتركيا والقفقاز؛ فقد هاجروا في مراحل لاحقة، و كان دورهم في تشكيل المجتمع النجفي محدوداً.
2 - قام الإجتماع الديني النجفي العالمي على قاعدة إذابة القوميات والوطنيات لمصلحة المذهب ومجتمع المذهب (الطائفة)؛ فالمهاجرون الذين ينتمون الى عشرات القوميات والوطنيات؛ تضامنوا إبتداءً، ثم تجانسوا، ثم ذابوا ببعضهم؛ ليشكلوا نسيجاً اجتماعياً واحداً لايمكن التمييز فيه بين العربي النجدي البدوي و الفارسي الخراساني المتمدن والعراقي الجناجي الريفي. ولذلك؛ تتفرد النجف في القابلية على إذابة عادات المهاجرين وتقاليدهم بعد مرور فترة على استقرارهم في النجف.
3 - إن الأسر التي شكّلت المجتمع النجفي هي أسر متدينة أساساً، أو تزامن تدينها مع استقراها في النجف. ولذلك؛ ظلت جزءاً من الحوزة العلمية والمرجعية النجفية، أو أنها حليفة للحوزة والمرجعية وحامية لهما.
4 - إن الأسر الفاعلة اجتماعياً كانت الأسر ذات الأصول البدوية غالباً؛ لذلك ظل طابع البداوة هو الغالب في النجف؛ لكنها بداوة من نوع خاص، بمظهر حضري وثفافة مذهبية و سطية، وهو ما انعكس أيضاً على طبيعة الشخصية النجفية.. العاطفية، الطيبة، الكريمة، الصاخبة، المتهورة في شجاعتها، المسكونة بنزعة التفوق والتميز. ويمكن تلمس هذه المواصفات بشكل جلي في طبيعة طقوس عزاء الإمام الحسين في النجف.
5 - إن أضلاع مثلث الرمزية في المجتمع النجفي، هم:
أ- الرمز الديني إبن الحوزة، و هو المنتمي الى (البيوتات) الدينية، أو ما يصفه بعض المتخصصين بالأرستقراطية الدينية.
ب- الغني إبن السوق، و هو المنتمي الى (البيوتات) التجارية والمالية، أو ما يسمى الأرستقراطية المالية.
ت- الوجيه إبن الطرف، و هو المنتمي الى (البيوتات) الاجتماعية، أو ما يسمى بالأرستقراطية الإجتماعية.
وقد ظل الوجيه (ابن الطرف) والغني (ابن السوق) يحميان الرمز الديني (ابن الحوزة)، ويحافظان على وجود الحوزة، ولايسمحان بالتجاوز على الحوزويين القادمين من خارج العراق أو من خارج النجف (المهاجرين)؛ سواء بدافع المصلحة الدنيوية أو دافع العاطفة الدينية أو دافع مشاعر البداوة.
6 - إن الإندماج بين أفراد الأسر النجفية من الكسبة و التجار و علماء الدين، والمصاهرات والشراكات الإجتماعية بينهم؛ تجعلهم يعرفون خصوصيات بعضهم الآخر، ويتعاملون على أساسها تلقائياً؛ فهم ينشأون معاً ويلعبون معاً ويكبرون معاً؛ لذلك تظل نظرة الكاسب النجفي الى الفقيه النجفي هي نظرة الصديق والند والنظير، بعيداً عن حالة القداسة للزي الديني غالباً، على عكس أبناء المجتمعات الشيعية الأخرى. وقد استثمر الشيوعيون والبعثيون الوجه السلبي لهذا الواقع؛ لضرب وحدة المجتمع النجفي؛ إذ كان الشيوعيون النجفيون أول من جرّأ الناس على العلماء وطلبة الحوزة في النجف، ثم سار البعثيون النجفيون على خطاهم، ولكن بقسوة أكبر ومساحة أوسع.
وينبغي هنا الإشارة الى حقيقة مفصلية تتمثل في مخاضات الإستحالة الإجتماعية التي لا يزال النجف يعاني منها منذ العام 1968؛ بفعل سياسات حكم البعث في فرض وقائع اجتماعية قسرية جديدة عليه؛ بهدف ضرب المجتمع النجفي في صميم تركيبته التاريخية الموروثة، والتي ظلت تشكل الحماية الإجتماعية للمنظومة الدينية الشيعية طيلة عشرة قرون.
ومن المناسب أن نذكر أيضاً مفارقة تاريخية عجيبة؛ فإذا كانت حاضرة النجف الأشرف قد أسسها الشيخ الطوسي المشهدي الإيراني في العام 449 هـ (1057م)، وكان سدنتها ورؤساؤها آل شهريار القميين الإيرانيين؛ فإن حاضرة قم أسسها آل الأشعري الكوفيين العراقيين في العام 73 هـ (693 م)، وحوّلوها من قرية فارسية سنية الى حاضرة عربية شيعية، وكان جميع علمائها الأوائل من الكوفيين العراقيين، وأبرزهم: الشيخ أحمد بن اسحق الأشعري الكوفي، الذي كان يسمى شيخ القميين.