الرئيسية / المرجعية الشيعية وخيارات ما بعد السيستاني والخامنئي د. علي المؤمن

المرجعية الشيعية وخيارات ما بعد السيستاني والخامنئي د. علي المؤمن


القسم الثالث:
المشتركات والفوارق بين حوزة قم وحوزة النجف
   
    ليس من الضروري أن تكون تجربة التنظيم النسبي في حوزة قم مفيدةً للنجف، وليس من الضروري أن تكون تجربة حوزة النجف المفتوحة نسبياً مفيدةً لقم؛ فلكل حوزةٍ ظروفها وبيئتها وتراثها وخبراتها التراكمية. ولكن من المفيد جداً أن تتبادل التجربتان خبراتهما فيما يشكل مساحات مشتركة تثري البعد العلمي والتبليغي للمذهب؛ بما يليق بالحوزة النجفية الكبرى ذات الألف عام، والحوزة القمية الفتية العائدة بقوة منذ تسعين عاماً.

    لقد تألقت حوزة قم العلمية في عهد مرجعية الشيخ الصدوق بعد أفول حوزة الكوفة في الربع الثاني من القرن الرابع الهجري ( القرن التاسع الميلادي). ثم أفِلت حوزة قم بعد ظهور الحوزة العلمية في بغداد في أواسط القرن الخامس الهجري مع مرجعية الشريف المرتضى ومرجعية الشيخ المفيد. ثم أفلت حوزة بغداد بعد انتقال زعيم الشيعة الشيخ الطوسي الى النجف الأشرف وتأسيس حوزتها من جديد. بعدها انتقل مركز المرجعية من حوزة النجف الى الحوزة العلمية في الحلة بظهور الشيخ ابن إدريس الحلي في أواسط القرن السابع الهجري.

    وبرزت الحوزة العلمية في جبل عامل بلبنان مع مرجعية الشيخ محمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري (القرن الرابع عشر الميلادي). ثم عاد مركز المرجعية الى النجف الأشرف بعد ظهور الشيخ أحمد بن محمد المقدس الأردبيلي في القرن العاشر الهجري (القرن السادس عشر الميلادي). وخلال قرنين تقريباً؛ بقي مركز المرجعية يتنقّل بين النجف وكربلاء؛ فكان آخر مرجع كربلائي هو الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني. وبعده استقرت المرجعية العليا نهائياً في النجف منذ نهايات القرن الثامن عشر الميلادي على يد السيد محمد مهدي بحر العلوم، ثم الشيخ جعفر كاشف الغطاء، وحتى الآن.
 
   بيد أن الحوزة العلمية النجفية تعرّضت الى التدمير التدريجي الشامل بدءاً من العام 1968، بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في العراق، وبلغ ذروته بعد العام 1979. وخلال هذا العام دخلت حوزة قم مرحلة نمو نوعي وكمي غير مسبوق، مع عودة الإمام الخميني وتأسيس الجمهورية الإسلامية، والهجرة الواسعة لعلماء الدين وطلبة العلوم الدينية من حوزة النجف الأشرف وباقي مدن العراق الى قم، وتوافد أعداد هائلة أخرى عليها من بلدان العالم الأخرى، ولا سيما لبنان والبحرين والسعودية والهند وباكستان وأفغانستان وآذربيجان وتركيا وأفريقيا وشرق آسيا.
   
 وإذا كانت حوزة النجف تختلف عن حوزة قم في الجوانب الشكلية ذات العلاقة بالهيكيلية والتنظيم وحجم الإنتاج العلمي؛ فإنهما يتشابهان الى حد التطابق في المضامين والمحتوى، ولا سيما في مراحل الدراسة الثلاثة: المقدمات والسطوح والبحث الخارج، والمناهج الدراسية في المراحل الثلاث، ومصادر البحث والرواية والإستدلال، وشروط الإجتهاد وأساليب الوصول اليه، وشروط المرجعية، ولا سيما الأعلمية والعدالة، وأساليب إدارة المدارس الدينية التقليدية، وغيرها.

    الذي تختلف فيه حوزة النجف عن غيرها من الحوزات العلمية الكبرى في الكوفة وقم وبغداد وجبل عامل والحلة وكربلاء؛ أنها لم تأفل ولم تضمحل خلال (1000) عام، أي منذ أسسها الشيخ الطوسي؛ إذ بقيت قائمة بمدراسها العلمية الفاعلة وإنتاجها العلمي؛ وإن انتقلت المرجعية العليا منها الى حوزات أخرى. بينما أختفت حوزات الكوفة منذ أوائل القرن الرابع الهجري، وقم في أواسط القرن الخامس الهجري، وبغداد في أواسط القرن الخامس، و الحلة في القرن العاشر الهجري، و سامراء في القرن الثالث عشر الهجري، كما أفلت حوزات جبل عامل و كربلاء و الكاظمية في فترات كثيرة. وبالتالي يمكن القول أن جميع الحوزات كانت موسمية غالباً، عدا حوزة النجف.

    والإختلاف الثاني، هو أن النجف خلال (1000) عام متواصلة، لم تخل يوماً من مراجع الصفين الأول والثاني، عندما كانت المرجعية العليا تنتقل الى حوزات أخرى في فترات زمنية محدودة، كما حصل في الحلة في زمان ابن ادريس والعلامة الحلي والمحقق الحلي، و جبل عامل في زمان الشهيد الأول والشهيد الثاني، وكربلاء في عصر الشيخ الوحيد البهبهاني، وسامراء في زمن السيد الميرزا الشيرازي، وقم في زمن السيد حسين البروجردي. و لذلك فإن 80 بالمائة من المرجعيات العليا في التاريخ الشيعي، كان مركزها النجف الأشرف.

الإختلاف الثالث، هو أن أغلب الإنتاج العلمي الديني الشيعي، التفسيري و الحديثي والكلامي والفقهي والأصولي والرجالي، كتبه علماء النجف. أي أن الموروث العلمي الديني الشيعي هو موروث نجفي في غالبيته؛ دون بخس حوزات بغداد و قم وكربلاء والحلة وجبل عامل نتاجها وتراثها العلمي الديني المهم.
27-03-2020, 21:14
عودة