"Today News": متابعة
فتح الاتفاق الدفاعي المشترك بين السعودية وباكستان أبواب النقاش العلني حول طبيعة الترتيبات الأمنية الثنائية أو الجماعية التي تحتاجها دول المنطقة لضمان أمنها وحماية استقرارها وردع خصومها. فقد باتت معظم دول الإقليم، صغيرة كانت أم كبيرة، أكثر إدراكاً لمخاطر الركون إلى وهم الاكتفاء بالقوة الذاتية في عالم سريع التحولات، شديد الانحدار نحو أزمات وصراعات متجددة.
إن توقيت الاتفاقية بين الرياض وإسلام آباد يكتسب دلالة استثنائية، ليس للبلدين فحسب، بل للإقليم بأسره. فالتعاون العسكري والأمني بينهما ليس جديداً، إذ لطالما تحدثت تقارير عن وجود قوات خاصة باكستانية في المملكة منذ عقود، وإن ظل الأمر بعيداً عن الإعلان الرسمي. لكن الانتقال إلى صيغة “اتفاق دفاع مشترك” يعكس تحوّلاً استراتيجياً في لحظة إقليمية حرجة. جاء الاتفاق بعد حرب الأيام الأربعة بين الهند وباكستان في أيار الماضي، والتي أثبتت فاعلية الردع النووي في منع التصعيد نحو مواجهة شاملة. كما أعقب حرب الأيام الاثني عشر التي شنتها إسرائيل على إيران، وانتهت من دون تسوية رسمية، بما يوحي بإمكانية تجدّدها في ظل ضغوط غربية – إسرائيلية متزايدة لإغلاق ملف البرنامج النووي الإيراني بالقوة. يضاف إلى ذلك الهجوم الإسرائيلي على قطر، الدولة التي تُعد حليفاً خاصاً للولايات المتحدة وشريكاً مركزياً في الوساطات الدولية، الأمر الذي زاد من قلق العواصم الإقليمية على أمنها.
هنا يبرز سؤال جوهري: ما الذي دفع السعودية وباكستان إلى هذا المستوى من التقارب؟ باكستان لها تاريخ من النزاعات والحروب مع الهند بسبب كشمير، ولطالما كان برنامجها النووي أداة ردع ضد التفوق الهندي. أما السعودية، فرغم علاقاتها المتنامية مع الهند، فهي تدرك أن تحولها الاقتصادي إلى “قاطرة المنطقة” يجعلها بحاجة إلى شبكة أوسع من الضمانات الأمنية. وقد سعت مراراً لعقد اتفاق شامل مع واشنطن، لكن هذا المسار تعثر تحت ضغط الاعتراضات الإسرائيلية واشتراطات أمريكية تتعلق بالتطبيع مع تل أبيب، مقابل إصرار الرياض على ربط ذلك بحل الدولتين.
تجربة العراق خلال العقدين الماضيين أعادت التذكير بأهمية التحالفات في ضمان الأمن الوطني. فقد كان نوري السعيد، في منتصف القرن العشرين، يدرك بحسّ براغماتي أن العراق يحتاج إلى الانخراط في منظومات أمنية مع قوى كبرى لردع الأطماع الإقليمية وموازنة الاندفاعات الثورية الداخلية. غير أن الموجة القومية واليسارية آنذاك كانت ترى في تلك التحالفات تبعية للاستعمار الغربي وقد ادى توهم القوة في العهد البعثي المستمدة من الحقبة الناصرية الى انتهاج سياسة اقليمية ادخلت العراق في كوارث وازمات وكانت خاتمتها الانكسار الكبير . وبعد نصف قرن من التجارب المريرة، تبيّن أن الغرب ما يزال اللاعب الأمني والعسكري الأول في العالم، فيما تسعى القوى الصاعدة مثل الصين والهند وروسيا وتركيا إلى نسج تحالفات مرنة مع هذا الواقع لا لمواجهته كلياً.
إيران مثال حيّ على إكراهات التحالفات: فبعد أن عانت من الهجمات الإسرائيلية والأمريكية على أراضيها، تجد نفسها مضطرة للبحث عن شركاء دوليين وإقليميين لتعويض خسارة الدعم العسكري والتقني. هذا يوضح أن “البحث عن الحلفاء” ليس علامة ضعف، بل ضرورة استراتيجية في بيئة إقليمية مشبعة بالتهديدات.
العراق نفسه لم يتمكن من مواجهة تنظيم داعش إلا عبر التحالف الدولي، رغم أن خصمه لم يكن دولة، بل تنظيماً مسلحاً عابراً للحدود. فهل يمكن للعراق اليوم أن يظل بمنأى عن فكرة الانضمام إلى “ناتو عربي أو إسلامي” يوفر له مظلة ردع سياسية وعسكرية، ويخفف عنه أعباء الأمن والدفاع؟ هذه الأسئلة مشروعة، خصوصاً أن مشاريع الآخرين في المنطقة تتبلور بوضوح، بينما ما تزال الإستراتيجية العراقية في الأمن والدفاع غائمة، محكومة بالشعارات أكثر من الرؤى الواقعية.
إن موقع العراق الجيوسياسي، بما يتيحه من فرص وما يفرضه من تحديات، يتطلب صياغة رؤية هادئة وواقعية للأمن الإقليمي. فالمعادلة الراهنة لا تحتمل الحياد السلبي، بل تحتاج إلى خيارات محسوبة تضمن للعراق مكانة فاعلة في شبكة التحالفات الجديدة، وتحفظ له مصالحه وسط التحولات المتسارعة في ميزان القوى الإقليمي
والدولي.