الرئيسية / "إسرائيل الكبرى".. من قاعة بازل ووعد بلفور إلى تميمة نتنياهو: أسطورة توراتية أم تهديد واقعي؟

"إسرائيل الكبرى".. من قاعة بازل ووعد بلفور إلى تميمة نتنياهو: أسطورة توراتية أم تهديد واقعي؟

"Today News": متابعة 

 

في مقابلة تلفزيونية حديثة، جلس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام محاوره في قناة i24، وهو يتلقى "تميمة" على شكل خريطة للأرض الموعودة. لم يتردد اليميني الذي يقود إسرائيل منذ أكثر من عقدين بمراحل متقطعة، في القول إنه "بالتأكيد" متمسك برؤية "إسرائيل الكبرى". وأضاف: "أنا في مهمة تاريخية وروحية… إنها مهمة أجيال".

هذا التصريح، الذي أثار عاصفة من الإدانات العربية والإسلامية شملت 31 دولة والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي، أعاد إلى الواجهة مشروعًا ظل يراوح بين النصوص التوراتية والسياسة الواقعية لأكثر من قرن: مشروع "إسرائيل الكبرى".

لكن خلف هذه العبارة المثيرة للجدل تكمن قصة أطول بكثير من اللحظة التلفزيونية. قصة تبدأ من مؤتمر بازل عام 1897، مرورًا بوعد بلفور عام 1917 وحرب 1967، وتتخللها عقود من الاستيطان والتوسع، وخطابات سياسية جمعت بين الرموز الدينية والأهداف الاستراتيجية.


أصل الحكاية


قبل أكثر من قرن، في قاعة صغيرة بمدينة بازل السويسرية عام 1897، وضع المؤتمر الصهيوني الأول ملامح فكرة ستظل مثار جدل حتى اليوم: وطن قومي لليهود، يتجاوز فلسطين التاريخية، ويستند إلى رواية دينية تتحدث عن أرض تمتد من نهر النيل إلى نهر الفرات.

بعد مرور أكثر من مئة عام، ما زال هذا المشروع المعروف باسم "إسرائيل الكبرى" حاضرًا في خطابات سياسيين إسرائيليين، ورمزًا في شعارات دينية، وتهديدًا في حسابات كثير من العرب. وبينما يرى باحثون أن الفكرة مجرد أسطورة سياسية لا يمكن أن تتحقق، يحذّر آخرون من أن استمرارها في الخطاب الإسرائيلي يعني بقاء المنطقة في حالة قلق دائم، حيث تتحول الحدود إلى مفاهيم متحركة لا تخضع للقانون الدولي.

من رام الله، يقول خبير العلاقات الدولية أشرف عكة ، إن المشروع ليس طارئًا ولا وليد التطرف المعاصر. فالجذور تمتد إلى عام 1917، حين منح وعد بلفور البريطانيين الغطاء لليهود لإقامة وطن قومي في فلسطين. "لكن الوعد لم يكن مجرد التزام محدود الجغرافيا، بل حمل في طياته رؤية أوسع تمتد إلى فلسطين الطبيعية بين النيل والفرات".

هذا التفسير، يضيف، تدعمه كتابات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه، الذي اعتبر أن الدولة التي أنشأها الانتداب البريطاني على جزء من فلسطين لا تعكس "الوعد الكامل"، بل تمثل انحرافًا يجب تصحيحه.

ويشير عكة إلى أن مؤتمر سان ريمو عام 1920 والتفاهمات الاستعمارية، مثل اتفاق سايكس–بيكو، أعطت الصهيونية فسحة أكبر لتخيل جغرافيا جديدة للمنطقة، مقسّمة بما يخدم مصالح القوى الكبرى ويفتح الباب أمام مشروع توسعي إسرائيلي.

في القدس، يلفت المؤرخ حسين الديك ، إلى أن المشروع ليس مجرد ورقة سياسية، بل نص ديني عميق الجذور. ويشرح أن التوراة والتلمود يتحدثان عن "أرض الوعد" الممتدة من النيل إلى الفرات، وأن الرمزية تجلّت لاحقًا في العلم الإسرائيلي بخطَّيه الأزرقين، وفي النشيد الوطني "هتكفا" الذي يستحضر حلم السيطرة على الأرض بين النهرين.

حتى العملة، كما يوضح الديك، حملت خرائط تتجاوز فلسطين إلى العراق والكويت شرقًا، ومصر والسعودية جنوبًا، وسوريا ولبنان شمالًا. "هذه الرموز ليست عبثية، إنها رسالة سياسية–دينية تتوارثها الأجيال"، يقول الديك.

ومع صعود حزب الليكود في سبعينيات القرن الماضي، تحوّل هذا الرمز إلى سياسة فعلية، من خلال التوسع في الاستيطان ورفض التسويات مع العرب. وهنا، يرى الديك، برزت فكرة "إسرائيل الكبرى" كخيار سياسي معلن لا مجرد حلم ديني.

هذا البعد الرمزي تجلّى بصورة أوضح في 23 أيلول/سبتمبر 2023، حيث وقف بنيامين نتنياهو على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78 ليعرض رؤيته لـ"شرق أوسط جديد". وأبرز خلال خطابه خريطة ملوّنة باللون الأخضر الداكن، ضمّت الدول التي تربطها بإسرائيل اتفاقيات سلام أو تخوض مفاوضات للتطبيع، وهي: مصر، السودان، الإمارات، السعودية، البحرين، والأردن. غير أن الخريطة خلت من أي إشارة لوجود دولة فلسطينية، إذ غطّى اللون الأزرق، الذي حمل كلمة "إسرائيل"، الضفة الغربية وقطاع غزة بالكامل.

هذا المشهد أعاد إلى الأذهان موجة الغضب التي أثارها وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش عندما عرض خريطة في باريس تضم الأردن والأراضي الفلسطينية، مقرونًا بتصريحه المثير للجدل: "لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني".

ورأى محللون أن ذلك كله يصب ضمن خطاب "إسرائيل الكبرى" بصيغة دبلوماسية. وبعد الخطاب، غرّد نتنياهو قائلاً: "إن أعظم إنجاز في حياتي هو أن أقاتل من أجلكم ومن أجل بلدنا. شابات شالوم."

بين الأسطورة والتاريخ

لكن ثمة من يرى القصة من زاوية مغايرة. في جامعة الإسكندرية، يقول أستاذ الفكر الصهيوني أحمد فؤاد أنور إن المشروع "أسطوري" أكثر منه واقعيًا. ويضيف أن التاريخ لا يقدم دلائل على وجود دولة يهودية مركزية قوية امتدت يومًا عبر هذه الجغرافيا. "بنو إسرائيل 

 عاشوا في إمارات متفرقة وفترات حكم قصيرة"، يوضح أنور .

ويشير إلى أن حتى داخل الأوساط الدينية اليهودية كان هناك رفض لفكرة إقامة الدولة عام 1948، باعتبارها استعجالًا للخلاص الإلهي، كما أن الصهيونية لم تتفق أصلًا على مكان الدولة، إذ ناقش بعض قادتها إقامة وطن في أفريقيا أو سيناء. "غياب دستور وحدود رسمية لإسرائيل حتى اليوم يعكس حالة من الطموح المفتوح، لكنه أيضًا يفضح محدودية القدرة على تحقيق مشروع 'إسرائيل الكبرى'".

الخطاب الإسرائيلي نفسه مرّ بتحولات لافتة؛ فبينما حرص قادة سابقون على استخدام لغة التسويات والبحث عن الأمن، تتبنى الحكومة الحالية لغة أكثر وضوحًا في استدعاء النصوص الدينية والخرائط التوسعية. هذا التباين بين 'الرمز' و'السياسة' يفسر سبب الانقسام في تقييم مدى جدية مشروع إسرائيل الكبرى."

على الضفة المقابلة تحديداً في بيروت، يتحدث محسن صالح، مدير مركز الزيتونة للدراسات، بلغة حادة. فهو يرى في "إسرائيل الكبرى" انعكاسًا مباشرًا لسياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي وصفها بأنها الأكثر تطرفًا منذ قيام الدولة.

ويشير صالح ، إلى أن الخرائط التي تعود لعقود ماضية تظهر بين الحين والآخر، وتشمل فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، وأجزاء من مصر والعراق والسعودية والكويت. "إنها ليست مجرد رموز، بل تعبير عن أطماع استراتيجية تستهدف الأمة العربية والإسلامية برمتها"، يقول.

ويضيف أن المشروع يقوم على إبقاء المنطقة في حالة تفكك وضعف. "أي مشروع نهضوي موحّد يُعتبر تهديدًا وجوديًا لهذا الكيان"، يضيف صالح. بالنسبة له، القضية ليست قضية فلسطين وحدها، بل صراع حضاري يستهدف الأمة بكاملها.

احدى ابرز الأحداث التي دفعت بفكرة "اسرائيل الكبرى" مجدداً، هو التصعيد الذي رافق الحرب على غزة التي اندلعت عقب هجوم حماس في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حيث فتحت الباب أمام تساؤلات جديدة: هل تسعى إسرائيل فعلًا إلى فرض وقائع توسعية تتجاوز حدود فلسطين، أم أن الهدف ينحصر في السيطرة العسكرية الكاملة على القطاع؟" . 


صوت يهودي- إسرائيلي مخالف


للإجابة على هذا الملف بشكل أعمق، كان لابد من الغور داخل المجتمع اليهودي، وتحديدًا في واشنطن، حيث يشير الكاتب والناشط الإسرائيلي–الأمريكي البارز ميكو بيليد إلى أن مشروع "إسرائيل الكبرى" لا يحمل أي معنى عملي على الأرض: "لو تحقق، لضم ملايين العرب والفلسطينيين، وهذا مستحيل واقعيًا. لا أؤمن للحظة أن هناك نية حقيقية لتوسيع الحدود إلى ما بعد فلسطين التاريخية. إنها مجرد عبارة سياسية يستخدمها نتنياهو لطمأنة قاعدته من المستوطنين واليمين المتطرف."

ويرى بيليد خلال حديث له ، أن جذور الفكرة موجودة في خطاب اليمين الصهيوني المتطرف منذ عقود، لكنها لم تتعدَّ كونها شعارًا أيديولوجيًا. "الواقع أن الحدود التي يطمح إليها القادة الإسرائيليون اليوم لا تتجاوز المسافة بين نهر الأردن والبحر المتوسط. هذا هو السقف الفعلي، وليس النيل والفرات كما يُروَّج."

ويضيف أن النظام الإسرائيلي يسيطر بالفعل على نحو ثمانية ملايين فلسطيني، ما يجعل اليهود أقلية في فلسطين التاريخية، وهو ما ينسف أي منطق في التوسع الإقليمي. ويقول: "من غير المعقول أن يسعى الكيان، وهو يواجه تحديات ديموغرافية داخل حدوده الحالية، إلى ضم ملايين آخرين."

لكن بيليد يرى أن الخطر الحقيقي يكمن في غزة، حيث يجري التخطيط، بحسبه، لعملية عسكرية كبرى تهدف إلى السيطرة الكاملة على القطاع. "إنهم يتحدثون عن إدخال مئة ألف جندي إلى غزة. هذه هي الخطة الفعلية التي تُطبَّق الآن، وليست التوسعات الوهمية نحو العراق أو المغرب."

ويختم بيليد بالقول: "هذه ليست خطة سياسية حقيقية بقدر ما هي رؤية مسيانية متطرفة تُستَخدم لأهداف إعلامية. الخطر الجوهري ليس في خرائط النيل إلى الفرات، بل في ما يحدث كل يوم داخل غزة والضفة الغربية."


اليوم, 19:03
عودة