الرئيسية / سياسة الأمن القومي العراقي

سياسة الأمن القومي العراقي

"Today News": بغداد 


تعرف سياسات الأمن القومي بأنها مجموعة الإجراءات والتدابير التي تتخذها الدولة لحماية مصالحها الحيوية، وسلامة أراضيها، واستقرار مجتمعها من التهديدات الداخلية والخارجية. وهي سياسات متعددة الأبعاد، تشمل المجالات العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والبيئية، وتعتمد على رؤية شاملة تدمج بين الحماية والدفع نحو التنمية المستدامة.
في العراق، كُتبت على مدار السنوات التي أعقبت التغيير السياسي في 2003 عدة نسخ لما سُمي بـ”استراتيجية الأمن القومي”، وقد ذهب بعض المتخصصين إلى توسيع المفهوم ليشمل ما يُعرف بـ”نظرية الأمن القومي العراقي”، والتي تتضمن رؤىً ومفاهيم عن الموقع الجيوسياسي للدولة، وطبيعة التهديدات والتحديات التي تواجهها، سواء كانت واقعية أو محتملة، فضلاً عن سبل مواجهتها، وأفق المستقبل وفرص النمو الممكنة. هذه الوثائق غالباً ما تضمنت طموحات ببناء دولة عصرية، تنعم بالاستقرار وتواكب قطار التنمية العالمي.
غير أن ما ظل غائباً أو مهمشاً في معظم هذه الوثائق هو الجانب المتعلق بـ”أيديولوجية الدولة”، بمعنى منظومة القيم والمعتقدات والاتجاهات التي تشكل وعي الرأي العام وتنعكس على السياسة الخارجية. فالسياسة الخارجية، في جوهرها، ليست مجرد قرارات تقنية أو ردود أفعال آنية، بل هي انعكاس مباشر لثقافة المجتمع السياسي وتصوراته الكبرى عن الذات والآخر. إنها تُصاغ عبر ممثلي الشعب، وتضبطها القواعد الدستورية، وتخضع لمساءلة تشريعية ورقابة مجتمعية، وتمتحن في ميدان الإعلام المفتوح.
في الحالة العراقية، يسود مشهد سياسي وإعلامي فوضوي لا يُقارن بما هو قائم في أي دولة أخرى، فوضى ناتجة عن تداخل المصالح، وتضارب المرجعيات القيمية، وتعدد الولاءات داخل الجماعات السياسية والمكونات الحزبية. والمفارقة أن أسباب التنازع والانقسام لا تنحصر في القضايا الداخلية، بل تمتد لتشمل التفاعلات مع الإقليم والعالم. إذ نلاحظ أن العراقيين، بمختلف أطيافهم، يتفاعلون بشكل حاد وعاطفي مع ما يجري خارج حدودهم، بل ويختلفون حوله تبعاً لانتماءاتهم الطائفية والقومية والمذهبية.
طبيعي أن يتأثر الإنسان بما يجري في محيطه، وأن يعبر عن مواقفه انطلاقاً من قناعاته ومدركاته، غير أن التعبير الشعبي أو الفردي يجب ألا يطغى على موقف الدولة الرسمي، الذي يُفترض أن يكون عقلانياً ومحكوماً بالمصلحة العليا. فالدول لا تبني سياساتها على العواطف والانفعالات، بل على مبدأ التوازن بين المصالح والمخاطر، بين الداخل والخارج، بين الواقع والطموح. والتحدي هنا هو أن تحافظ الدولة على انسجام موقفها الداخلي ووحدتها الوطنية، وهي تمضي في صياغة سياستها الخارجية.
ولعل من الملفت أن لحظات نادرة فقط شهدت تبلور موقف وطني موحد تجاه أحداث إقليمية كبرى. وقد حاولت الحكومات المتعاقبة اعتماد قاعدة “دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح” كإطار عام للسياسة الخارجية، لكنها لم تفلح دائماً في ضبط الإيقاع الداخلي، الذي ظل في كثير من الأحيان خاضعاً لانفعالات مذهبية وتحيزات أيديولوجية راسخة.
الإعلام العراقي، في كثير من مظاهره، تحوّل إلى ساحة للجدل والانقسام والتراشق بين تصورات متناقضة، في ظل غياب توجيه استراتيجي أو التزام مهني بمصلحة الدولة. نعاني من فائض حرية لا تضبطه مسؤولية، ومن ثقافة سياسية شعبوية، عاطفية، غير قادرة على إدراك التحولات الجارية في البيئة الدولية. فالعالم يتغير بسرعة، في حين يتمسك العراقيون، في معظمهم، بثوابت فكرية تجاوزها الزمن: من ثوابت الوعي الوطني في العهد الملكي، إلى ثوابت القومية الوحدوية في عهد ما بعد الجمهورية، ثم إلى ثوابت الوعي الديني المتأخر.
هذه الانقسامات ليست مجرد نظريات، بل لها تجليات عملية دامية في السياسة العراقية. فلطالما انقسم العراقيون بين “عروبيين وحدويين”، و”وطنيين عراقيين”، و”أمميين اشتراكيين”، و”إسلاميين” يستقون مواقفهم من مفاهيم الأمة العقدية. وسالت دماء غزيرة في سبيل تجسيد هذه المبادئ المتباينة في السياسة الخارجية والداخلية.
بعد التغيير، كان الأمل أن تُترك هذه الانفعالات لصالح مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة، لكن تبين لاحقاً أن اللاشعور السياسي الطائفي لا يزال هو المحرك الأقوى. فحين تقهقرت الهويات السياسية إلى مستويات الطائفة والعشيرة، صار من الطبيعي أن تُقدم الجماعة على الوطن. فحين اندلعت الأزمة السورية، رأينا انقسامات حادة: فاعلون سياسيون سنة دعموا المعارضة المسلحة بدافع طائفي، وفاعلون شيعة أبدوا قلقهم العميق من صعود جماعات جهادية سنية قد تصل إلى الحكم، محملة بخطاب إقصائي تجاه المكونات الأخرى.
في مثل هذه الحالات، وخصوصاً على الحدود الساخنة للعراق، ظل الموقف الرسمي العراقي متأرجحاً بين سعي الدولة إلى اعتماد سياسة متوازنة تحفظ الأمن وتمنع التداعيات، وبين ضغوط شعبوية وإعلامية وأيديولوجية تُسوق لمواقف انفعالية تضعف من قدرة الدولة على المناورة وتحقيق مصالحها الاستراتيجية.
هذا الانقسام بين “عراق الدولة” و”عراق الجماعات” يمثل التحدي الأكبر أمام سياسة أمن قومي رصينة. ففي الوقت الذي تحاول فيه الدولة رسم سياسة خارجية متوازنة، تنسجم مع مسؤولياتها الإقليمية والدولية، تصر بعض القوى الحزبية والطائفية على التعبير عن مواقفها دون اعتبار للمصلحة الوطنية أو لحسابات المستقبل، مما يهدد الأمن السياسي والاقتصادي، بل وحتى البيئة الفكرية للبلد.
تجلى هذا التناقض بشكل واضح في التعامل مع تطورات الصراع في غزة ولبنان، وفي الحرب الجارية (أو المحتملة) بين إسرائيل وإيران، وكذلك في ما يحدث في الجنوب السوري، وفي الترتيبات الجارية لإعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. كل هذه الأحداث كشفت مدى تباين الرؤى داخل المجتمع السياسي العراقي، وعمق الفجوة في فهم ما يجري، وفي تقدير المصالح والمخاطر.
إننا أمام مشهد يعكس هشاشة الإجماع الوطني، وضعف البنية الفكرية للأمن القومي، وانقسام الولاءات بين الدولة والجماعة، وبين العقل والعاطفة. وتبقى النتيجة واحدة: عدم قدرة العراق على تبني موقف وطني موحد يعبر عن مصالحه الحيوية، ويؤسس لسياسة أمن قومي فاعلة، متماسكة،
اليوم, 10:14
عودة