من مقديشو إلى مدريد، ومن مزارع الشاي في فيتنام إلى القصور المطلة على المتوسط في مدينة "كان" الفرنسية، يمتد شبح ممتلكات عراقية مفقودة تُقدّر قيمتها بما لا يقل عن 90 مليار دولار. لكن هذه الثروة، التي كانت في يوم ما أداة نفوذ واستثمار، أصبحت اليوم كنزًا منسيًا يتوارى في ملفات بلا أرشيف، وعقود بلا وثائق، وممتلكات بلا أسماء.
ففي لحظة نادرة جمعت الدهشة بالدبلوماسية، فجّر الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود مفاجأة في القمة العربية التي استضافتها بغداد في أيار/مايو 2025، حين كشف أن مصفاة نفطية عراقية كبيرة ما تزال قائمة في ضواحي العاصمة مقديشو.
المصفاة، التي أُنشئت في العام 1978 ضمن اتفاق رسمي بين الحكومتين العراقية والصومالية، كانت قد اختفت من الذاكرة الرسمية العراقية منذ سقوط نظام صدام حسين. لكن هذه الواقعة لم تكن سوى قمة جبل الجليد لملف أوسع وأكثر تعقيدًا: ملف الممتلكات العراقية الموزعة حول العالم، التي فقدتها الدولة على مدى عقدين، في صمتٍ يوازي أهميتها الاقتصادية.
أكثر من خمسين أصلاً في ثلاث قارات
تشير المعلومات التي تداولتها وسائل اعلام محلية ، من مصادر دبلوماسية رفيعة إلى أن للعراق ما لا يقل عن 50 عقارًا ومشروعًا استثماريًا موزعًا في أوروبا وآسيا وأفريقيا، تشمل قصورًا فخمة، مزارع، مصارف، مكاتب تجارية، ومصانع استراتيجية.
في أوروبا وحدها، تمتلك بغداد أصولًا عقارية في إسبانيا، فرنسا، بريطانيا، وإيطاليا، بعضها يقع في مواقع فاخرة مثل مدينة "كان" الفرنسية. أما في آسيا، فتشمل الأصول مزارع شاي وأرز ومطاط وتبغ في ماليزيا وسريلانكا وفيتنام. وفي أفريقيا، تبرز أملاك في الصومال ونيجيريا وموزمبيق، من بينها جزر سياحية ومصانع زراعية.
هذه الأصول كانت جزءًا من سياسة اقتصادية توسعية انتهجها العراق خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حين وظّف عائدات النفط في شراء أصول استراتيجية حول العالم لتعزيز مكانته الاقتصادية والدبلوماسية.
لكن بعد سقوط النظام في عام 2003، دخل هذا الملف دوامة من الإهمال والضياع. فقد كشفت لجنة النزاهة البرلمانية لشفق نيوز، أن وثائق ملكية أساسية قد سُرقت أو أُتلفت، وأن بعض العقارات نُقلت إلى أسماء أشخاص أو شركات وهمية تابعة للنظام السابق أو لشبكات مرتبطة به، فيما بقيت أخرى دون متابعة تذكر.
واقعة موزمبيق: الدولة تصطدم بالسلاح
في عام 2012، أرسلت وزارة الخارجية العراقية وفدًا إلى موزمبيق لتفقد أحد الأصول المملوكة للدولة هناك، يُعتقد أنه قصر على جزيرة سياحية كانت مملوكة للعراق. لكن الرحلة لم تكتمل.
بحسب مصدر دبلوماسي قال في تصريح له انه ، تلقى أعضاء الوفد تهديدات مباشرة من جماعة مسلحة تسيطر على الموقع، ما أجبرهم على الانسحاب الفوري من البلاد.
كانت تلك من أولى المحاولات الجدية لاستعادة الأملاك العراقية في الخارج، لكنها انتهت بالفشل، لتظل الأملاك تحت سيطرة أطراف لا تعترف بملكية بغداد.
مصفاة مقديشو.. لحظة اليقظة
لكن الإعلان المفاجئ لمصفاة مقديشو أعاد ترتيب الأوراق. فوفق ما نقلته الرئاسة الصومالية لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، فإن المصفاة لا تزال قائمة وتحتاج فقط إلى تأهيل فني لإعادتها للعمل، في وقت تبدأ فيه الصومال اكتشاف احتياطيات نفطية بحرية.
صدمة بغداد بهذه المعلومة دفعت الحكومة إلى تشكيل لجان متخصصة قانونية وفنية لمتابعة هذا الملف المنسي، ليس فقط في الصومال، بل في كافة الدول التي قد تحتوي على أملاك مفقودة. وتم تكليف وزارات النفط، الخارجية، والعدل بتنسيق الجهود، بما يشمل إعادة تسجيل الملكيات، تسوية أوضاعها الضريبية، والتحقق من صلاحية الوثائق المتبقية.
خبراء القانون الدولي اقترحوا اللجوء إلى محكمة العدل الدولية أو إبرام اتفاقيات ثنائية مع الدول المعنية، لتثبيت الحقوق القانونية للعراق في تلك الممتلكات.
كما شددوا على ضرورة ملاحقة الأفراد والجهات التي ثبت تورطها في نقل أو إخفاء تلك الأملاك، سواء داخل العراق أو خارجه، عبر إصدار مذكرات قضائية دولية، والعمل مع الإنتربول في حال توفر الأدلة الكافية.
ففي بلد يواجه تحديات اقتصادية متزايدة، وتراجعًا في موارد النقد الأجنبي، يعتبر كثير من المختصين هذا الملف فرصة مالية كبيرة تم إهمالها لسنوات.
تقديرات أولية تشير إلى أن قيمة تلك الأصول تتراوح بين 80 إلى 90 مليار دولار. ويعتقد اقتصاديون أن استعادة حتى جزء بسيط منها أو استثمارها بشكل صحيح يمكن أن يدرّ مداخيل مستدامة لدولة تعتمد في موازناتها بشكل شبه حصري على صادرات النفط الخام.
لكن، ورغم المؤشرات الإيجابية الأخيرة، لا تزال التحديات قائمة. فبعض الأصول- بحسب الخبراء القانونيين- قد تكون خضعت لقوانين تقادم في البلدان المضيفة، أو تعرضت لتصرفات قانونية شرّعت ملكية أطراف أخرى بعد غياب العراق عن المشهد لعقدين.
بالإضافة إلى ذلك، هناك خشية من تدخلات سياسية داخلية قد تعرقل جهود الاسترداد، خاصة في حال ارتبطت الأملاك الحالية بمصالح متنفذين أو بعقود قديمة يصعب إلغاؤها دون الدخول في نزاعات قضائية معقدة.