الرئيسية / الإصلاح الحقيقي بين القيم الحقة وزيف التنفيذ

الإصلاح الحقيقي بين القيم الحقة وزيف التنفيذ

"Today News": بغداد 

في زمن اختلطت فيه المعايير، وغابت البصيرة عن كثير من الناس، تسلّل الجهل إلى مواقع التأثير، وتقدّم من لا يحمل أدوات الإصلاح ليتصدّر المشهد، فيما أُقصي أهل الوعي والعلم والدراية. والنتيجة: تخبّطٌ وانحراف، وتراجع في مسيرة الأمة نحو الإصلاح الحقيقي.

أمام هذا الواقع، تتجلّى أهمية العودة إلى مدرسة الإمام محمد الجواد (عليه السلام)، تلك المدرسة التي لم تكن دعوة أخلاقية فحسب، بل مشروعا متكاملا لبناء مجتمع يحمل قيم الإسلام، ويستنير بنور العلم والعقل.

1- الحلم والعلم.. قوام شخصية المصلح:
قال الإمام الجواد (ع): “الحِلْمُ لباسُ العالِم”، وهي عبارة تختصر منهج التعامل مع التحديات. فالحلم ليس ضعفا، بل دليل على اتزان العالم وتمكّنه من نفسه، بحيث لا يستفزّه الجاهلون ولا تجرّه الخصومة إلى السقوط في المهاترات. لكنه في الوقت ذاته لا يسكت عن الحق، بل يتقي الله في موقفه، ويدافع عن المبادئ بالحكمة والبصيرة.

وأكد الإمام أن الإصلاح لا يتم إلا بالعلم، وحذّر من عواقب العمل بغير بصيرة، قائلاً: “من عمل على غير علم، كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح”. فالمجتمع الذي يقوده الجهلاء، ويتبع فيه الناس أهواءهم، يصبح فريسة لأعدائه، كما قال (ع): “من أطاع هواه، أعطى عدوّه مناه”.

2- الوعي بالمصادر.. شرط النجاة:
في حكمة موجزة وعميقة، قال الإمام الجواد (ع): “من لم يعرف الموارد أعيته المصادر”. فمن لم يُحسن التمييز بين منابع المعرفة الأصيلة، وتشوّش عليه الأصوات والآراء، لن يُفلح في اتخاذ القرار الرشيد عند الحاجة، وسيتخبّط في مواجهة الأزمات. ولهذا دعا الإمام إلى الاعتماد على العلم، والتروّي، وعدم الاستعجال: “لا تُعالجوا الأمر قبل بلوغه فتندموا، ولا يطولن عليكم الأمل فتقسوا قلوبكم”.

3- العدالة أساس الحكم.. والراعي الصالح أساس الإصلاح:
شدّد الإمام على أن إصلاح الرعية يبدأ بإصلاح الراعي: “وبالراعي تصلح الرعية، وبالدعاء تصرف البلية”. ومن هنا، فإن الفساد في القيادة ينعكس على المجتمع كله. بل اعتبر أن السكوت عن الظلم مشاركة فيه، فقال: “العامل بالظلم، والمعين عليه، والراضي به، شركاء ثلاثتهم”.

4- العلم والدين.. عزّ الفرد والمجتمع:
في مجتمع تتلاطم فيه أمواج الشبهات، يغدو الدين حصنا، والعلم كنزا، والصمت نورا، كما قال الإمام (ع): “الدين عز، والعلم كنز، والصمت نور”. فالفرد الذي يتسلح بالعلم، ويضبط انفعالاته، ويعمل بدينه، يُصبح قدوة في مجتمعه، ويُساهم في نهضة الأمة من خلال سلوكه ومواقفه.

وأكد (ع) أن التوفيق لا يتحقق إلا بثلاث: “المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه”. وهذه القاعدة التربوية ترسم منهجًا لتكوين الشخصية الواعية، القائمة على محاسبة الذات والانفتاح على النصح والبناء.

5- مواجهة الجهل.. مسؤولية العلماء:
كان الإمام الجواد (ع) يدرك غربته كعالم وسط كثرة الجهّال، فقال: “العُلماء غُرباءٌ لكثرةِ الجُهّال بينهم”. وهو بذلك لا يعبّر عن تذمّر، بل يحمّل العلماء مسؤولية المواجهة، وتبيين الحق، والقيام بدورهم في التوجيه.

فالتصدي للباطل واجب، والنهوض بوعي الأمة لا يُنجز إلا بإرادة صادقة وصبر طويل: “من ركب مركب الصبر اهتدى إلى مضمار النصر”.

6- القدوة.. علمٌ رباني وقيادة إلهية:
وُلد الإمام محمد بن علي بن موسى الرضا الجواد (عليه السلام) في 10 رجب سنة 195 هـ ( 8-4-811م) ، وتسلّم الإمامة وهو لم يبلغ الحلم. لكنه بزغ كالنور، فخاض المناظرات مع كبار الفقهاء، وأثبت علميته أمام قضاة الدولة العباسية، وربّى وكلاءه على الفهم العميق للإسلام.

لم يكن إمامًا صوريًا، بل مشروع نهضة، جمع بين العقل والقلب والدين، وبين الرحمة والحزم، وبين البيان والموقف.

وقد وقف بوجه الفرق المنحرفة، والبدع، والغلو، فواجه الزيدية، والواقفة، وأهل الحديث، وبيّن العقيدة الصحيحة، وربط الناس بالقرآن والسنة.

هكذا قدّم الإمام الجواد (ع) مشروعا حضاريا لبناء مجتمع مؤمن، عادل، واعٍ، قائم على العلم والتقوى، نقي من التكلّف والتظاهر، صلب في مواجهة الباطل، رحيم بالضعفاء، واضح في مواقفه، ثابت على نهج الرسالة.

7- اغتيال الإمام الجواد (ع):
لما شعرت السلطة العباسية بخطورة سقوط سلطتهم لقوة  تأثير شخصية الإمام محمد الجواد (ع) على المجتمع الإسلامي، قرر المعتصم العباسي
أخو المأمون اغتيال الإمام  عبر زوجته أم الفضل بنت المأمون بدس السم له، فاستشهد الإمام الجواد (ع) على أثرها في 29  ذو القعدة سنة 220 هـ ( 24-11-835م وعمر 25 سنة ومدة إمامته 17 سنة) .

حمل الجثمان العظيم من قبل عشرات الآلاف من الناس في مواكب حزينة وهي تردد فضل الإمام وتندبه، وتذكر الخسارة العظمى التي مني بها المسلمون في فقدهم للإمام محمد الجواد (ع)، ودفن جنب جده  الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في الكاظمية ببغداد.
فسلام عليه يوم ولد ويوم تقلّد الإمامة وجاهد في سبيل ربّه صابرا محتسبا ويوم استشهد ويوم يبعث حيّا.

8- السير على خطاه لإنجاز رسالته:
وفي ذكرى شهادته لا نكتفي بالرثاء فحسب، فالاقتداء به هو المعيار، والوفاء له لا يكون إلا بمتابعة دربه في الإصلاح والبناء وإستحضار وصاياه ونعمل لإنجازها في مواجهة الظلم، ونبذ البدع، وتعظيم دور العلماء، وصناعة الإنسان الواعي  الملتزم، ولتكون سيرته نبراسًا تهدي الأمة إلى ما فيه عزها وسلامها.

             وليد الحلي  
         26-5-2025
26-05-2025, 13:47
عودة