الرئيسية / من تطبيقات الفهم الحضاري للقران .. "يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ"

من تطبيقات الفهم الحضاري للقران .. "يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ"

"Today News": بغداد 

في إطار المشروع الحضاري الذي نعمل على بلورته، تُمثّل النصوص القرآنية المرجع الأعلى لقيم المجتمع الحضاري الحديث. من بين هذه النصوص، تبرز آيات من سورة هود (2–3) باعتبارها نموذجًا مكثّفًا للطرح الإلهي الذي يجمع بين التوحيد، والإصلاح الأخلاقي، والمكافأة العادلة، ضمن نظام متكامل لإقامة دولة حضارية حديثة.
يقول تعالى:
"أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ  وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ"
هذه الآية تؤسس لخارطة طريق حضارية تبدأ من العقيدة وتنتهي ببناء مجتمع العدالة التفاضلية. ففي الجملة الأولى: "أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ"، يؤكد النص على أن التوحيد هو الأساس الأول في النظام الحضاري الإسلامي. التوحيد لا يعني فقط رفض تعدد الآلهة، بل يعني أيضًا التحرر من كل أشكال التسلط والهيمنة البشرية (الاستبداد والدكتاتورية والطغيان وتأليه الحكام الخ)، ورفض الطاعة العمياء لغير الحق، مما يجعل من التوحيد مبدأً سياسيًا وأخلاقيًا بقدر ما هو مبدأ ديني.
ثم يأتي الحديث عن الاستغفار والتوبة كخطوتين ضروريتين في التحول السلوكي والاجتماعي. فاستغفار الذنب هو اعتراف داخلي بالخطأ، بينما التوبة تمثل الفعل الخارجي المترجم لهذا الاعتراف في الواقع الاجتماعي والسياسي.
بعد هذا التمهيد، يرد الوعد الإلهي: "يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا"،  وهو وعد دنيوي بحياة طيبة تشمل الأمن، والرزق، والكرامة، والحرية لكن بشرط الالتزام بمنظومة التوحيد والإصلاح. أما "إلى أجل مسمى"، فإشارة إلى الطبيعة المؤقتة لهذا المتاع، مقارنة بمتاع الاخرة الدائم، مما يعكس إدراك الإسلام العميق لدورة الحياة وتغير الأحوال.
وتأتي الخاتمة الذهبية: "وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ". في هذا النص، يتجلى مفهوم العدالة التفاضلية، أي أن النظام الإلهي لا يكتفي بتوزيع عام للخير، بل يقوم على مبدأ الجدارة، حيث يُكافأ كل من يبذل جهدًا إضافيًا أو يمتلك تميزًا في العطاء، أيًا كان شكله، علمًا، عملاً، أو خلقًا.
يعترف هذا المبدأ بالتفاوت بين البشر من حيث الكفاءة اما لاسباب ذاتية متعلقة بالفرد نفسه، او اسباب موضوعية متعلقة بالعائلة والمجتمع.
هذا المبدأ يمثل حجر الزاوية في بناء الدولة الحضارية الحديثة التي نطرحها: دولة تُعلي من قيمة التوحيد، وتفتح أبواب التوبة والإصلاح، وتضمن الرفاه للجميع، لكنها تميز من يستحق بفضل جهده وعطائه. إنها ليست دولة مساواة شكلية، بل دولة عدالة حقيقية.
عبارة "ويؤتِ كلَّ ذي فضلٍ فضلَهُ" تُظهر مبدأ قرآنيًا عميقًا، هو العدالة التفاضلية، اي العدالة القائمة على اساس التفاوت في "الفضل" لا المساواة المطلقة. فهي لا تدعو إلى مساواة شكلية تُساوي بين المجتهد والمتكاسل، بل تُقرّ بأن أصحاب الفضل (أي: العمل، أو المعرفة، أو الأخلاق، أو الابتكار...) يستحقون التميز والمكافأة.
لكن هل يُنتج هذا التفاوت نوعًا من الطبقية الاجتماعية أو الاقتصادية المرفوضة؟ الجواب: لا، إذا كان محكوماً بثلاثة شروط:
1. الاستحقاق الحقيقي: الفضل هنا ليس بالوراثة، ولا بالنفوذ، بل بما يقدّمه الإنسان من جهد وإبداع وعطاء للمجتمع. هو تفاضل ناتج عن السعي، وليس عن موقع طبقي مسبق.
2. العدالة في الفرص: على الدولة الحضارية أن تضمن تكافؤ الفرص لجميع المواطنين، حتى يكون الفضل متاحًا للجميع، ويكون التميز مبنيًا على الجهد، لا على الامتيازات الوراثية أو الفئوية.
3. الدور الأخلاقي للدولة: الفضل لا يعني تراكم الثروات بلا ضوابط، بل يجب أن يُرافق هذا التفاضل توزيعٌ عادل للثروة العامة، ورقابة أخلاقية على استخدامها، ومنع الاحتكار، وضمان كرامة العيش للجميع.
بذلك، يصبح التفاضل مصدرًا لتحفيز الإبداع والتقدم، لا أداةً لتكريس الظلم أو صناعة طبقات مغلقة. وهنا تظهر الحكمة القرآنية: العدالة التي تعترف بالاختلاف في الجهد، لكنها لا تفرّط في حق الجميع بالعيش الكريم.
 جون راولز طرح في كتابه الشهير *"نظرية في العدالة" (A Theory of Justice)* ما يُعرف بـ*مبدأ الفرق (Difference Principle)*، والذي ينص على أن *التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية لا تكون عادلة إلا إذا كانت تصب في مصلحة الأقل حظاً*.
بكلمات أخرى، راولز لا يرفض الفوارق في الدخل أو الوضع الاجتماعي، لكنه يضع لها شرطاً أخلاقياً: يجب أن تُسهم هذه الفوارق في تحسين أوضاع الجميع، لا سيما الطبقات الفقيرة.
و هذا قريب جداً من روح الآية "ويؤت كل ذي فضلٍ فضله" عندما تُفهم ضمن منظومة قيمية وأخلاقية تهدف إلى بناء مجتمع عادل ومتماسك، لا طبقي ومنقسم.
إن عبارة "ويؤت كل ذي فضلٍ فضله" الواردة في الآية تكرّس مبدأ العدالة في التوزيع تبعًا للجهد والكفاءة، لكنها لا تُبيح التفاوت الطبقي على حساب العدالة الاجتماعية أو كرامة الإنسان. فهي، ضمن الرؤية الحضارية القرآنية، تُفهم في إطار مجتمع تتكامل فيه الحوافز الفردية مع المسؤولية الجماعية. وهذا المعنى يقترب كثيرًا من ما طرحه  جون راولز حينما اشترط أن أي تفاوت في الثروة أو السلطة لا يكون مبررًا إلا إذا عاد بالنفع على الأقل حظًا في المجتمع.
ويأتي قوله تعالى: "وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" ليضع أساسًا تشريعيًا أخلاقيًا لمعالجة هذا التفاوت؛ حيث يُقرّ بوجود حقوق مالية واجتماعية للفقراء والمحتاجين في أموال الأغنياء، مما يحول دون تحوّل التفاوت الطبيعي في القدرات والفرص إلى فجوة اجتماعية مزمنة تهدد الاستقرار المجتمعي وتُخل بتوازن الأمة.
إن هذا الفهم ينسجم مع رؤيتنا الحضارية التي ترى في القرآن الكريم كتابًا يؤسس لمنظومة قيم عليا تحيط بالمركب الحضاري الحديث، بجميع عناصره: الإنسان، المجتمع، الدولة، المعرفة، والعمران.
أمس, 17:09
عودة