الرئيسية / هوية الشيعي.. بين المذهب والقومية والوطن

هوية الشيعي.. بين المذهب والقومية والوطن

التساؤلات حول موقف المسلم الشيعي من انتمائاته المتنوعة، لا سيما مايتعلق بإشكالية التوازن بين انتمائه القومي وانتمائه الوطني وانتمائه لمنظومته الدينية الاجتماعية؛ هي من أكثر التساؤلات واقعيةً وأهميةً وحساسيةً، والتي ظل الباحثون والسياسيون والإعلاميون والمثقفون؛ المتدينون وغير المتدينين؛ يتداولونها منذ العام 1979 وحتى الآن. وهذا لا يعني أن الموضوع لم يكن متداولاً قبل هذا التاريخ؛ ولكنه ازداد أهمية وواقعية خلال العقود الأربعة الأخيرة.

إن الإسلام في عقيدته وشريعته وأحكامه دينٌ إلهي عابرٌ للحدود والقوميات. هذا على المستوى العقدي النظري. أما على المستوى الواقعي، فإن المنظومة الدينية الاجتماعية الشيعية تتميز ـ عن المنظومات الدينية الأخرى ـ بكونها منظومة عالمية لاتحدها الإنتماءات الجغرافية والوطنية والقومية؛ وهو ماتعبِّر عنه قيادة المرجع الديني الأعلى أو الولي الفقيه لها، و هيكلية الحوزة العلمية وتقاليدها، وسياقات عمل وكلاء المرجعية الدينية، وتداول المال الشرعي.
     وهذه المنظومة الدينية الاجتماعية ليست وليدة اليوم؛ بل أنها متجذرة في الواقع الشيعي، ولم تصنعها مرجعية السيستاني ولا ولاية الخامنئي. ولذلك؛ لا يمتلك أحدٌ خياراً لتغيير هذا الواقع؛ لأنه سر حفاظ المذهب الشيعي والمجتمع الشيعي على بقائهما واستمرارهما، في ظل مساعي الإقصاء والاجتثاث التي ظل الشيعة يتعرضون لها منذ نهاية دولة الإمام علي (ع) وحتى الآن.

 وحقيقة عالمية المنظومة الدينية الاجتماعية الشيعية هي حقيقة ثابتة، و يستحيل على أي خصم أو صديق؛ مهما بلغ من القوة والتأثير؛ تغيير معادلاتها، سواء كان هذا الخصم طائفياً، أو كان ذلك الصديق من داخل الواقع الشيعي نفسه. وقد جرّب الأمويون والعباسيون والسلجوقيون والأيوبيون والعثمانيون والمماليك والوهابيون والانجليز والبعثيون تغيير هذا الثابت بكل الوسائل، كما جرّبها بعض المنتسبين للواقع الشيعي. لكن واقعية عالمية المنظومة الدينية الاجتماعية الشيعية ظلّت تتجذر بقوة كلما ازدادت هذه الضغوطات وتصاعدت محاولات تمزيق المنظومة. أي أن ضغوطات السلطات الطائفية على الشيعة وقمعها لهم، كانت تزيد من قوة منظومتهم الاجتماعية العالمية، و تضاعف تماسكها وتلاحم أبنائها خارج حدودهم القومية والوطنية؛ لأن الشيعي سيزيد من احتمائه بمنظومته الاجتماعية الدينية العالمية، كلما تصاعدت ضده عمليات القمع والإقصاء والاجتثاث والإرهاب. وهو رد فعل واقعي طبيعي؛ يضاف الى أصل عالمية المنظومة الدينية الشيعية.
     ولكن؛ حين يعيش الشيعي في ظل دولة العدالة والمواطنة والإنسان والحريات والتعددية الدينية والمذهبية والفكرية، والبعيدة عن القمع المذهبي والتمييز والتهميش والعزل الطائفي والقومي، ولو بشكل نسبي؛ فإن رد الفعل المذكور سيتلاشى، وسيكون إنتماء الشيعي الحقيقي لوطنه، في حين سيبقى انتماؤه لمنظومته الدينية الإجتماعية العالمية في حدوده المتعارفة والمقبولة من الناحيتين السياسية القانونية.

ولذلك نرى أن تجارب الشيعة في بعض البلدان ناجحة ـ نسبياً ـ في التوازن بين الانتماء للمذهب والانتماء للوطن، وهو الحال مع العراق (بعد العام 2003) والكويت و عمان وايران والهند واذربيجان ولبنان، والتي لا يعدّ فيها التشيع خروجاً على مذهب الدولة. بينما تأخذ حالة التوازن هذه شكلاً مأساوياً ومعقداً في البلدان التي يتعرض فيها الشيعة الى التهديد المجتمعي والسياسي الطائفي والإرهابي؛ كالعراق (قبل العام 2003) والبحرين والسعودية ولبنان وسوريا واليمن ومصر والمغرب وافغانستان وباكستان.
وفي ظل تأسيس الدولة القومية و الدولة القطرية خلال القرون الأخيرة، بدءاً من أوربا، وتحوّل هذا الشكل من الدولة الى أمرٍ واقع في بلاد المسلمين؛ فقد بات لزاماً على الشيعة ـ في البلدان التي يتواجدون فيها ـ مراعاة ضوابط القانون الدولي والقانون الدستوري؛ إذ أنهم يعيشون في ظل منظومة قانونية وسياسية محلية واقعية، وفي ظل سلطات محلية ضاغطة، لا يمكن تجاوزها أو العبور علىها.

ولذلك؛ ليس من الواقعية أن يعمل الشيعي على تجاوز انتمائه الوطني، وإلزامات هذا الانتماء سياسياً وقانونياً، وأيضاً ليس من الواقعية أن يتجرد عن الانتماء لمنظومته الدينية الشيعية العالمية؛ فلا إفراط ولا تفريط حيال الإنتمائين. ولا يبدو صعباً التوفيق بين عالمية انتماء الشيعي لمنظومته الدينية الاجتماعية، وبين محلية انتمائه لمنظومته الوطنية القانونية والسياسية، في ظل توافر الظروف الموضوعية المحلية لذلك. كما يمكن حل كل الاشكالات في هذا المجال، بما يحفظ للشيعي كل الوان انتماءاته، للدين والمذهب والمرجعية والولاية والوطن والحزب والقومية والعشيرة والأسرة؛ فهي انتماءات في طول بعضها عادة؛ بل تكمل بعضها إذا أراد المواطن الشيعي والدولة ذلك. فلا تعارض بين كل هذه الانتماءات؛ فهي بمجموعها تكرس صفات التدين والالتزام والوطنية في المجتمع الشيعي.
     ولايعني انتماء الشيعي لمنظومته الاجتماعية الدينية العالمية أنه طائفي أو أنه غير وطني أو أنه غير انساني؛ بل يعني أن الشيعي لصيق بواقعه الذي يفرض عليه انتماءات متنوعة، وأن يكون لكل انتماء دوره في حياة المسلم الشيعي، سواء كان عراقياً أو بحرينياً أو لبنانياً أو ايرانياً أو مصرياً أو هندياً.

20-01-2020, 10:13
عودة