الرئيسية / موازنات وزارات كاملة .. المرشح الواحد ينفق 1.4 مليار دينار والدعاية تتجاوز 11 تريليونا

موازنات وزارات كاملة .. المرشح الواحد ينفق 1.4 مليار دينار والدعاية تتجاوز 11 تريليونا

"Today News": متابعة 


رغم أن القانون الانتخابي العراقي يحدد سقف الإنفاق الدعائي للمرشح الواحد بـ 250 دينارا عن كل ناخب في دائرته الانتخابية، فإن الواقع يظهر فجوة واسعة بين النص والتطبيق. فالحملات الانتخابية تُدار بموازنات مالية ضخمة تتجاوز هذا السقف بمئات المرات، من دون وجود رقابة مالية حقيقية أو نظام تدقيق يلزم المرشحين بالكشف عن مصادر تمويلهم. هذا الانفلات جعل العراق واحدًا من أكثر الدول إنفاقًا على الدعاية الانتخابية قياسًا بعدد المرشحين والدخل القومي، وأضعف الأنظمة في ضبط المال السياسي أو تتبّع مساراته بعد انتهاء الانتخابات.

الإنفاق الفعلي بالأرقام

استنادا إلى مقاربات سياسيين وتقارير رسمية وتصريحات لمسؤولين، يبلغ متوسط الإنفاق الدعائي للمرشح العراقي نحو مليار و400 مليون دينار، فيما تشير تقديرات ميدانية إلى أن بعض المرشحين أنفقوا ما بين 3 إلى 5 مليارات دينار للحملة الواحدة.

ومع وجود 7,926 مرشحًا في الانتخابات، تُظهر المعادلة الحسابية الفجوة الحقيقية بين النص القانوني والواقع الفعلي:

1,400,000,000 × 7,926 = 11,096,400,000,000 دينار

أي ما يعادل 11 تريليونًا و96 مليارًا و400 مليون دينار ≈ 8.4 مليارات دولار، وفق سعر صرف 1,320 دينارًا للدولار الواحد.

بهذا الحجم من الإنفاق، تتحول العملية الانتخابية إلى أحد أكثر الأنشطة الاقتصادية كلفة في البلاد، متقدمة على قطاعات خدمية كاملة مثل الإسكان أو التربية أو الإعمار.

تُظهر المقارنات الاقتصادية أن مجموع ما يُنفق على الدعاية الانتخابية في العراق يعادل تمويل مشاريع خدمية كبرى يمكن أن تغيّر البنية التحتية للبلاد.

فالمبلغ البالغ نحو 8.4 مليارات دولار يمكن أن يغطي، وفق تقديرات محلية واقعية، تنفيذ مشاريع على النحو الآتي:

-110 آلاف وحدة سكنية اقتصادية، بافتراض كلفة 100 مليون دينار لكل وحدة.

-1,860 مدرسة ابتدائية قياسية، بمتوسط كلفة يبلغ 6 مليارات دينار للمدرسة الواحدة.

-92 مستشفى متوسط السعة (150 سريرًا)، بمتوسط كلفة 120 مليار دينار لكل مستشفى.

-8,400 كيلومتر من الطرق الحضرية، بمتوسط كلفة 1.3 مليار دينار لكل كيلومتر.

هذه المقارنة الحسابية لا تهدف إلى التبسيط، بل إلى إبراز الفجوة بين الموارد المتاحة في الواقع الانتخابي وبين عجز الدولة عن تمويل قطاعاتها الخدمية الأساسية. فهي توضح أن ما يُنفق على صور وشعارات يمكن أن يُستخدم لبناء مدارس ومستشفيات ومساكن يستفيد منها ملايين المواطنين.

المال الانتخابي كأداة سلطة

بحسب مختصين في الشأن الانتخابي، فإن حجم الإنفاق في الحملات العراقية لا يمكن فصله عن البنية السياسية القائمة على النفوذ المالي. فكل مرشح أو كتلة تُنفق مليارات الدنانير خلال الحملة تدخل العملية الانتخابية بعقلية “الاسترداد المالي” بعد الفوز، وليس بعقلية الخدمة العامة.

ويؤكد خبراء في الاقتصاد السياسي أن الإنفاق الانتخابي في العراق تجاوز الطابع الدعائي وأصبح استثمارًا سياسيًا يهدف إلى ضمان موقع داخل منظومة القرار الاقتصادي، سواء عبر المناصب الحكومية أو العقود العامة.

ويرى مراقبون أن هذه الدورة المالية المغلقة — التي تبدأ من تمويل الحملات وتنتهي بالعقود الحكومية — تمثل الحلقة الأولى في سلسلة الفساد الإداري داخل مؤسسات الدولة. ويشير باحثون في الإدارة العامة إلى أن “المرشح الذي ينفق مليار دينار على حملته لا يمكن أن يتعامل مع المال العام بعقلية رقابية، لأنه ينظر إلى موقعه السياسي كوسيلة لاستعادة كلفته الانتخابية مضاعفة”.

وبحسب متابعين للشأن البرلماني، فإن هذه الآلية المالية تفسر ضعف الرقابة داخل مجلس النواب نفسه، إذ يدخل كثير من النواب وهم مرتبطون بشبكات تمويل حزبية أو اقتصادية، ما يجعل محاسبة أي طرف على التجاوزات المالية أمرًا معقدًا وغير ممكن عمليًا.

التجارب الدولية تكشف الفجوة

تُظهر مراجعات نظم التمويل الانتخابي في عدد من الدول أن العراق يقع في أقصى طرف من معادلة الإنفاق مقابل الرقابة. ففي المملكة المتحدة، يحدد القانون سقفًا واضحًا لإنفاق المرشح بنحو £20 ألفًا تقريبًا، مع إلزامه بتقديم كشف مفصل عن مصادر التمويل. وفي فرنسا، لا يُسمح للمرشحين الرئاسيين بتجاوز €22.5 مليونًا في الجولة الثانية، وتخضع جميع المصاريف لتدقيق قضائي مستقل.

في المقابل، وبحسب خبراء في الشأن الانتخابي، لا توجد في العراق جهة رقابية فاعلة ولا نظام إفصاح مالي إلزامي، رغم وجود السقف القانوني البالغ 250 دينارًا لكل ناخب. هذا الوضع يجعل العراق الأعلى في حجم الإنفاق والأضعف في الرقابة المالية مقارنة بالدول الديمقراطية التي تعتمد معايير الشفافية والافصاح المالي كأساس لنزاهة العملية الانتخابية.

الناخب والدولة

تؤكد الأرقام والتحليلات أن التمويل الانتخابي في العراق أصبح مرآة دقيقة لطبيعة النظام السياسي. فالقانون موجود، لكن التنفيذ غائب، والرقابة شكلية، والمال السياسي بات المحرك الفعلي للعملية الديمقراطية.
يرى مراقبون أن استمرار هذا الواقع سيُعمّق أزمة الثقة بين الناخب والدولة، لأن المواطن يدرك أن الأصوات لا تُترجم إلى تمثيل، بل إلى مكاسب تُقاس بحجم الإنفاق الانتخابي.

ويحذر خبراء في الحوكمة من أن غياب الشفافية في تمويل الحملات سيُبقي الانتخابات القادمة أسيرة لرأس المال السياسي، ويمنع أي إصلاح حقيقي في بنية الدولة. فكل دورة انتخابية تُعيد إنتاج الحلقة ذاتها: المال يصنع النفوذ، والنفوذ يعيد إنتاج المال، فيما يبقى النظام القانوني عاجزًا عن ضبط العلاقة بين السلطة والتمويل.

في المحصلة، 11 تريليون دينار ليست مجرد إنفاق انتخابي، بل مؤشر على حجم التشوه المالي في التجربة الديمقراطية العراقية، حيث تتقدم الأموال على البرامج، وتُختزل السياسة في قدرتها على الدفع لا في قدرتها على الإصلاح.

المصدر : وكالات 
اليوم, 12:48
عودة