• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

الشيخ محمد مهدي الآصفي .. المفكر المجاهد والزاهد والانسان

الشيخ محمد مهدي الآصفي .. المفكر المجاهد والزاهد والانسان

  • 16-04-2023, 19:43
  • مقالات
  • 433 مشاهدة
د. صلاح عبد الرزاق

"Today News": بغداد 
ولد آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي في النجف الأشرف عام ١٩٣٩ لأسرة دينية. إذ كان جده مرجعاً دينياً في إيران، ووالده آية الله الشيخ علي محمد الآصفي من مجتهدي الحوزة العلمية في النجف الأشرف. ووالدته هي السيدة فاطمة ابنة آية الله الشيخ محمد تقي البروجردي الذي كان من كبار علماء النجف الأشرف ، وكان الشيخ البروجردي قد شارك في ثورة العشرين ومواجهة القوات البريطانية. وقد ترك الشيخ البروجردي مؤلفات مثل (نهاية الأفكار) في الأصول، وكتاب (نهج الهدى) تعليقاً على كتاب (العروة الوثقى).
أكمل الشيخ محمد مهدي الدراسة الابتدائية والثانوية في النجف الأشرف. دخل كلية الفقه التي أسسها الشيخ محمد رضا المظفر في نهاية الخمسينيات، وكذلك منتدى النشر عام ١٩٣٥. في الكلية تعلم الدراسات الأكاديمية والكتب التعليمية وفق المناهج الحديثة إضافة العلوم الإسلامية والفقه والتاريخ والأدب والنحو. وقد تخرج منها مشاهير العلماء أمثال الشيخ عبد الهادي الفضلي ، الشيخ أحمد الوائلي ، الشيخ محمد مهدي شمس الدين ، السيد محمد الصدر ، الشيخ محمد علي التسخيري، السيد عبد الله الغريفي ، الشيخ مهدي العطار ، السيد عبد الرحيم الشوكي وأخرون.

وكان من أبرز أساتذته: الشيخ محمد رضا المظفر ، السيد أبو القاسم الخوئي ، السيد محسن الحكيم ، الشيخ مرتضى آل ياسين ، الشيخ حسين الحلي ، السيد محمد الروحاني ، السيد محمد رضا الكلبايكاني والأمام الخميني. وكان الأصفي أول من ترجم كتاب (الحكومة الإسلامية) الذي كان على شكل محاضرات ألقاها الامام الخميني في النجف الأشرف.
لقد كان الآصفي مدرساً في كلية أصول الدين ببغداد لمدة ١٥ عاماً التي أسسها العلامة السيد مرتضى العسكري لتخريج أكاديميين يمتلكون العمق والثقافة الإسلامية والحوزوية، وكانت في منطقة الكرادة خارج ، وما تزال بنايتها لحد الآن. كما أكمل دراسة الماجستير في جامعة بغداد.

هجرته إلى الكويت
بعد وصول حزب البعث للسلطة عام ١٩٦٨ وسعيه لتصفية وتهجير طلاب الحوزة العلمية غير العراقيين، وتحرشه بمرجعية السيد محسن الحكيم عام ١٩٦٩ واتهام ولده السيد مهدي الحكيم بالتجسس، وتهجير أعداد كبيرة من طلاب الحوزة والكرد الفيلية عام ١٩٧٠ ، واستشهاد القيادي في حزب الدعوة السيد عبد الصاحب دخيل ، أصبح الوضع خانقاً لحركة الآصفي فاضطر إلى الهجرة إلى الكويت البلد المجاور للعراق.

منذ السبعينيات كانت الكويت المحطة الرئيسة للإسلاميين العراقيين أمثال: السيد عز الدين سليم ، السيد هاشم الموسوي (أبو عقيل) ، السيد طالب جواد (أبو مجاهد) والشريف شريف القحطاني (أبو عادل) وآخرين. بعضهم عمل في الصحافة الكويتية ، وأخرون تفرغوا للعمل الإسلامي والتأليف والكتابة. وفي الكويت تأسست (دار التوحيد) التي أسسها الشيخ الآصفي بمعية بعض التجار والمثقفين. وكانت دار التوحيد أشهر مؤسسة شيعية قدمت مئات الإصدارات وخاصة كراسات الجيب التي يسهل حملها وقراءتها. فبلغت المسلمين في أكثر من مائة دولة حول العالم. وكانت إصداراتها تحمل سمة الاعتدال والوسطية بعيداً عن التعصب والخلافات المذهبية والتاريخي. وبعد نجاح الثورة الإسلامية في ايران عام ١٩٧٩ انتقلت دار التوحيد إلى طهران ، وبعد سقوط نظام صدام عام ٢٠٠٣ انتقلت إلى النجف الأشرف.
وخلال إقامته في الكويت كان الشيخ الآصفي يشرف على (مسجد النقي) في منطقة الدسمة حيث كان إماماً ومرشداً ومربياً وموجهاً. وكان يلقي محاضرات ودروساً في العقائد والتفسير والمفاهيم الإسلامية العميقة والجديدة على الساحة الايمانية. وكان يجذب الشباب بأسلوبه وصوته الهادئ مع الاستدلال بالآيات القرآنية وأحاديث المعصومين (ع) وكتب التفسير الشهيرة.

دور الآصفي حزب الدعوة
في عام ١٩٦٢ انتمى الشيخ الآصفي لحزب الدعوة الإسلامية وله من العمر ٢٣ عاماً، وأصبح من كوادره المتقدمة ومسؤولاً عن تنظيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف. في تلك الفترة شارك مع قيادة الدعوة في البناء الفكري والتربوي والتنظيمي للدعاة. وكان لوعيه المبكر وعقليته المبدعة أثر في تعميق الخط الرسالي وهو في طور النمو والانتشار.

وحتي عندما كان في الكويت كان يتابع الأوضاع الصعبة التي يعيشها حزب الدعوة في العراق وحملة الاعتقالات والاعدامات التي طالت بعض كوادر الدعوة المتقدمة. ففي عام ١٩٧٤ أقدم نظام البعث على إعدام خمسة من قيادة الدعوة وكوادرها مثل الشهيد الشيخ عارف البصري وصحبه الأبرار الشهداء الذين عرفوا باسم (قبضة الهدى).

انتقل الشيخ الآصفي إلى إيران عام ١٩٧٩ بعد سقوط الشاه ، وسرعان ما التحق بقيادة الدعوة مع بقية الدعاة الذين جاؤا من سوريا كالسيد حسن شبر أو من العراق كالسيد نوري المالكي أو من كان في إيران. فكانت إيران ملاذاً آمناً لقيادة وكوادر وأعضاء حزب الدعوة حيث توزعوا بين مختلف المدن الإيرانية وانشغلوا في مؤسسات ودوائر ومراكز إعلامية وثقافية وتربوية.

في عام ١٩٨١تم اختيار الآصفي ناطقاً رسمياً لحزب الدعوة الإسلامية بعد إقامة أول مؤتمر عام لحزب الدعوة باسم (مؤتمر الشهيد الصدر)، حيث تم انتخاب قيادة جديدة وناطق باسم الحزب وإقرار نظام داخلي لأول مرة في تاريخ الحزب.

بقي الآصفي يشغل هذا المنصب حتى خروجه من الحزب عام ١٩٩٨. وقد اتسم بالعمق والوضوح واللغة العالية وإجادته اللغتين العربية والفارسية. وكان له حضور واضح في وسائل الاعلام العراقية المعارضة والإيرانية والأجنبية لأنه يعبّر عن الموقف الرسمي لحزب الدعوة. وكانت تصريحاته تتناقلها وكالات الأنباء والصحف المعارضة والخليجية واللبنانية ، إضافة إلى المقابلات التي يجريها المراسلون والوكالات معه. كما كان حاضراً في الاحتفالات التي يقيمها حزب الدعوة بالمناسبات الوطنية والإسلامية ويلقي كلمة الحزب فيها. ويشارك في الاحتفالات التي تقيمها أحزاب عراقية ومؤسسات إيرانية وغيرها ممثلاً لحزب الدعوة.

الآصفي في جماعة العلماء
في بداية الثمانينيات اجتمع في إيران عدد من العلماء البارزين المجاهدين والذين لديهم مواقع متميزة في الحوزة العلمية والفضلاء المعارضين لنظام صدام. وصار التفكير لإيجاد تشكيل علمائي سياسي يشابه إلى حد كبير (جماعة العلماء في النجف الأشرف) التي أشرف على تأسيسها المرجع السيد محسن الحكيم ومجموعة من العلماء أبرزهم الشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد مهدي الحسيني الشيرازي ، والسيد عبد الهادي الشيرازي ، والشيخ عبد الكريم الجزائري ، والسيد محمد البغدادي في نهاية الخمسينيات.
 كان السيد محسن الحكيم مؤسس جماعة العلماء ، ويعطيها الغطاء الشرعي ، و كذلك كان قد عمل على إصدار إجازة رسمية من قبل الدولة. وكان هناك مجموعة من العلماء الشباب تحت إشراف آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين. كان هناك مجموعة من العلماء يشرفون على عمل الجماعة ، مثل : الشيخ مرتضى آل ياسين ، والسيد محمد تقي بحر العلوم ، والسيد موسى بحر العلوم ، ومحمد جواد آل شيخ راضي ، والسيد إسماعيل الصدر ، وكان لهؤلاء العلماء الدور في تطوير عمل الجماعة.

في عام ١٩٨٢ أعلن تشكيل (جماعة العلماء المجاهدين في العراق) التي ضمت السيد كاظم الحائري ، السيد محمود الهاشمي ، الشيخ محمد باقر الناصري ، الشيخ محمد مهدي الآصفي ، السيد محمد باقر الحكيم ، السيد حسين هادي الصدر ، الشيخ حسن فرج الله ، السيد عبد الرحيم الشوكي والسيد محمد تقي المدرسي والشيخ حسين البشيري والشيخ محمد تقي المولى وآخرين.  وكان الشيخ الآصفي قد انتخب عضواً في الهيئة الإدارية للجماعة. وصارت الجماعة تصدر بيانات في المناسبات والأحداث العراقية والإقليمية والدولية وخاصة ما يتعلق بتطورات الحرب العراقية – الإيرانية.

وكان هناك (مكتب الثورة الإسلامية في العراق) وهو تشكيل إيراني لتسهيل معاملات وأمور اللاجئين العراقيين في إيران ويرأسه السيد محمد باقر الحكيم ومدير مكتبه الدكتور وليد الحلي. وكان هناك مئات الآلاف من اللاجئين والمهجرين العراقيين قد تدفقوا على إيران بسبب الحرب أو تهجير نظام صدام لهم ولعائلاتهم.  

تأسيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق
بعد ذلك ارتؤي دمج التشكيلين أي جماعة العلماء و مكتب الثورة الإسلامية بتشكيل واحد هو (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) في ١٧ تشرين الثاني ١٩٨٢  ليكون مظلة تضم الأحزاب السياسية العراقية المعارضة لنظام صدام. وانضم إليه حزب الدعوة الإسلامية ، منظمة المجاهدين العراقيين (عبد العزيز الحكيم) ، منظمة العمل الإسلامي ، منظمة الدعوة الإسلامية (أبو ياسين ) ، الكتلة الإسلامية ، الجماعة الإسلامية في كردستان ،غيرها. وضم المجلس العرب والكرد والتركمان والسنة والشيعة.
كان الآصفي من الذين تفاعلوا مع أطروحة المجلس الأعلى ، ويعمل بجد ونشاط فيه ، ويحضر اجتماعاته ، ويشارك في برامجه الثقافية والسياسية والاجتماعية. وكان الشيخ الآصفي يمثل حزب الدعوة الإسلامية في الهيئة القيادية  ، حيث شغل منصب نائب رئيس المجلس لمدة سنتين ثم استقال منه، إضافة إلى بعض قادة الدعوة كالسيد حسن شبر والدكتور إبراهيم الجعفري.

ترأس المجلس الأعلى السيد محمود الهاشمي لأربع دورات (الأولى والثانية والرابعة والخامسة). وترأسه في الدورة الثالثة السيد علي الحائري، ثم استلم الرئاسة السيد محمد باقر الحكيم من الدورة السادسة وحتى استشهاده في آب ٢٠٠٣ بحادث إرهابي في النجف الأشرف. ثم تولى الرئاسة شقيقه السيد عبد العزيز الحكيم حتى وفاته عام ٢٠٠٩ ثم تولاها ولده السيد عمار الحكيم حتى انفصل عن المجلس الأعلى وتأسيسه تيار الحكمة الوطني في ٢٤ تموز ٢٠١٧.
منذ تأسيسه كان المجلس تحت إشراف المخابرات الإيرانية (إطلاعات)، ويستلم ميزانية خاصة من الحكومة الإيرانية. كما يحظى بدعم لوجستي وتسليحي من ايران. وصار رئيسه يتحرك ويلتقي بكبار المسؤولين الإيرانيين كالسيد الخامنئي والشيخ رفسنجاني وقادة الجيش والحرس الثوري.

وقد أنشأ المجلس الأعلى ممثليات له في الخارج ، في دمشق ولندن وفيينا . كما يلتقي رئيس المجلس وممثلوه بالبعثات الدبلوماسية ، ويقومون بزيارة الدولة الأجنبية ويحضرون اجتماعات دولية بحضور رؤساء دول. في عام ١٩٩٨ في عهد الرئيس بيل كلنتون أصدر الكونغرس الأمريكي (قانون تحرير العراق) الذي نص على أنه (ينبغي أن تكون سياسة الولايات المتحدة دعم الجهود الرامية إلى إزالة النظام الذي يرأسه صدام حسين من السلطة في العراق). وقد قامت أمريكا بتسمية أربعة أحزاب من المعارضة العراقية مشمولة بالدعم المالي والتدريبي لقانون تحرير العراق وهي: المؤتمر الوطني العراقي (أحمد الجلبي) ، الحزب الديمقراطي الكردستاني (مسعود البارزاني) ، الاتحاد الوطني الكردستاني (جلال الطالباني)، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (السيد محمد باقر الحكيم).
في البداية أعلن المجلس الأعلى ترحيبه بالقرار ، لكن بسبب العداء الشديد بين واشنطن وطهران ، اضطر المجلس إلى رفض العرض الأمريكي.

تم توزيع مكاتب المجلس الأعلى على الأحزاب السياسية الداخلة في المجلس فكان الدكتور إبراهيم الجعفري (حزب الدعوة) يرأس المكتب التنفيذي ،  والمكتب العسكري (منظمة بدر) يرأسه هادي العامري وهكذا.
وبسبب وجود اختلافات في الرأي حول إدارة دوائر المجلس وتعيين الموظفين فيه والنفقات والسفرات والايفادات ، قامت بعض الشخصيات المعروفة بالانسحاب من المجلس كالسيد كاظم الحائري والشيخ محمد باقر الناصري. ومنذ نهاية الثمانينيات لم يعد المجلس الأعلى مظلة للأحزاب المعارضة بل صار مؤسسة تابعة للسيد محمد باقر الحكيم.

الشيخ الآصفي والعمل الجهادي
لم يكن الاصفي يتوان في دعم جبهات القتال ضد نظام صدام. فكان يزور معسكرات المجاهدين العراقيين في الأهواز وكردستان وفي أعماق الأهوار ، يخطب فيهم ، يبث روح الحماسة والمقاومة ، ويذكي شعلة الايمان فيهم، ويؤمهم في الصلاة. وكان لخطاباته وكلماته تأثيرها العميق في نفوس المجاهدين وهم يواجهون النظام الذي هجرهم واعتقل أبناءهم وأعدم آباءهم وإخوانهم. وكان يجلس بتواضع وينام في خيامهم ومعسكراتهم، ويركب وسائل نقلهم  كالزوارق في الأهوار والعربات العسكرية وغيرها. كان أحياناً يحمل رشاشتهم مع إخوانه المجاهدين أثناء تنقلهم حذراً من مراقبة العدو.

وبعد تأسيس الحشد الشعبي عام ٢٠١٤ كان الشيخ الآصفي من الداعمين والمؤيدين له. وكان يزور المقاتلين في معسكراتهم وخاصة جبهات القتال في سامراء وبلد والدجيل وتكريت وديالى يبث فيهم روح الصمود والبسالة والمواجهة مع داعش.

مشاريع الآصفي الإنسانية والتعليمية
كان الشيخ الآصفي يولي اهتماماً كبيراً لرعاية المهجرين والمهاجرين والأرامل والايتام وذوي الحاجة. وكان ينفق الكثير من الأموال عليهم ، ويوزعها عليها في أماكن إقامتهم سواء في معسكرات اللاجئين أو في مساكنهم المتواضعة في القرى البائسة. وكان لا يتردد في نقل المواد الغذائية والسلع المنزلية بسيارته لتوزيعها على المحتاجين في بيوتهم.
 قبل ٢٠٠٣ أنشأ الشيخ الآصفي مجمعات سكنية في قم ومشهد لإسكان الأرامل والايتام. وأنشأ صندوق مالي خيري لتزويج الأيتام واليتيمات . وأنشأ صندوق مالي للقرضة الحسنة بالتنسيق مع بعض البنوك الأهلية لمساعدة الفقراء وسد احتياجاتها في حل قضايا السكن والزواج والعلاج وكسب العيش. وقد أسس مؤسسة الامام الباقر (ع) لرعاية الفقراء والمحتاجين والأيتام. وقام ببناء مجمعات سكنية للأيتام والمحتاجين في عدة مدن العراق
أما المشاريع التعليمية فأبرزها مدرسة الامام الرضا العلمية في قم لتخريج علماء وأكاديميين وخطباء. وأسس مدرسة الشهيدة بنت الهدى العلمية في قم المقدسة لإعداد النساء الخطيبات والمبلغات في قضايا الفقه والعقائد والقرآن الكريم. وأنشأ عام ٢٠٠٧ مدرسة بنت الهدى للدراسات الدينية في النجف الأشرف. كما أنشأ خمسة آلاف مكتبة في المدن والقرى العراقية وتجهيزها بالأثاث والكتب.


الآصفي يغادر حزب الدعوة
بقي الشيخ الآصفي عضو قيادة حزب الدعوة قرابة ٣٦ عاماً ، أي منذ انتمائه عام ١٩٦٢ وحتى خروجه منه عام ١٩٩٨ . في ذلك العام طرح الشيخ الآصفي رؤيته وقناعته في كتيب بعنوان (علاقة الحركة الإسلامية بولاية الأمر). كان الشيخ الآصفي يرى وجوب ارتباط الحركة الإسلامية بالولي الفقيه أي السيد الخامنئي. وأن على حزب الدعوة الإسلامية أن يكون خاضعاً كلياً في توجهاته ومواقفه للولي القائد، ولا يجوز لحزب الدعوة أن يتقاطع مع الولي في كل الأحوال بل يخضع ويطيع أوامره وتوجيهاته كي يحقق الحزب شرعية عمله وبالتالي وجوده.  وأنه (ليس أمام الحركة الإسلامية من خيار غير البيعة والارتباط بالولاية). ويرى سماحته (أن الولاية حكم وليس بعقد) بين الحاكم والمحكوم، أو بين الولي الفقيه والشعب. ويرى (أن هناك خطين فقط : خط نازل وهو الولاية ، وخط صاعد هو الطاعة).

أما قيادة حزب الدعوة فكانت ترى أن هناك نقاش طويل في استدلالات الآصفي الفقهية والتفسيرية والتاريخية وعدم دقتها. إن العلاقة يجب أن لا تحجب حق الرعية على الوالي أو الحاكم الإسلامي. وأن المسلمين غير الإيرانيين المقيمين في إيران محرومون من حقوقهم المدنية كالعمل والتملك والعلاج الطبي والاعفاء الضريبي والتنقل واكتساب الجنسية والمشاركة في الانتخابات. وهذا مخالف لما كان الامام علي (ع) يتناوله في خطبه بالتركيز على حقوق الرعية وأهمية العمل معها بالانصاف والمساواة وليس بمعايير قومية مثل بقية الدول المعاصرة. فالإيراني سواء المسلم وغير المسلم له حقوق وحريات كاملة لا يتمتع بها المسلم غير الإيراني المقيم في هذه الدولة. ولا يمكن الطلب من المسلمين الإيفاء بالتزاماتهم تجاه الدولة الإيرانية فقط دون المطالبة بحقوقهم منها. فهذا يعني أن الارتباط بالولي الفقيه وحكومته يسير باتجاه واحد فقط. وقد أصدر حزب الدعوة كراساً بعنوان (رؤيتان في كراس سماحة الشيخ الآصفي) باسم مستعار هو مهدي ناصر.

من جانب آخر فإن ارتباط الحركة الإسلامية بالولي الفقيه ستفسر سياسياً وإعلامياً ودولياً عند الآخر بأنها علاقة عمالة للأجنبي، وخيانة للشعب العراقي. وهذا أمر لن يخدم الحركة الإسلامية ولا يخدم إيران أيضاً.
ذلك الجدل كان قبل سقوط النظام عام ٢٠٠٣ وعودة قيادة وكوادر حزب الدعوة وأغلب المهاجرين والهجرين إلى العراق. وخلال الأعوام ٢٠٠٣ إلى ٢٠٠٨ كانت طهران تنظر بريب تجاه حزب الدعوة حتى تم توقيع اتفاقية انسحاب القوات الأمريكية من العراق في كانون الأول ٢٠٠٨ عندها أدركت القيادة الإيرانية أن موقفها لم يكن صائباً تجاه حكومة المالكي.
في النهاية لم يستطع الشيخ الآصفي إقناع قيادة الدعوة ، ولا القيادة أفلحت في إقناعه بالتراجع عن هذه الفكرة. الأمر الذي جعله يغادر حزب الدعوة الإسلامية، وبقيت علاقته طيبة مع الحزب حتى وفاته. وكان يسعى لتقريب وجهات النظر بعد مؤامرة ٢٠١٤ والغدر بالسيد نوري المالكي . وكان الآصفي ينقل رسائل المرجعية إلى قيادة حزب الدعوة. وكان آخر اجتماع له مع قيادة الدعوة قبل شهر من وفاته في حزيران ٢٠١٥.


عودته إلى العراق
 وبعد سقوط نظام صدام عاد الشيخ الآصفي إلى النجف الأشرف ، وواصل تدريس الفقه والأصول في الحوزة العلمية. وعاد إلى نشاطه الإسلامي وصار ممثلاً للخامنئي في النجف الأشرف. وكان الشيخ الآصفي يحظى باحترام الشخصيات الدينية والمرجعيات ولديه وكالة من المرجع السيد السيستاني.

كان يؤكد على قدرة فصائل الحشد الشعبي، على دحر "داعش"، قائلا: "الحشد الشعبي قد أستقطب حشوداً واسعة من شباب العراق والجماعات الجهادية تحت لواء واحد, وأصبح قوة ضاربة في العراق, وهزم داعش في مواقع عديدة, وهذا امر يخيف امريكا والعربية السعودية وقطر بطبيعة الحال. وتحاول امريكا وحلفاؤها في الغرب, وعملاؤها في المنطقة حلّ هذا التجمع الشبابي الجهادي الذي بات يؤرقهم بالقوة العسكرية والتدخل الامريكي السافر في العراق. إن شعبنا في العراق يتخوف من هذا المشروع الذي تتزعمه أمريكا ويتحفظ ويرتاب منه".

مؤلفاته
كان فكر الآصفي الذي دونه في مؤلفاته قد وجدت طريقها بين المثقفين والحركيين. وكان لها دور في النهضة الإسلامية في العراق منذ منتصف الستينيات. وكثير من كتبه كان يُعاد طباعته عدة مرات لانتشارها السريع ونفاذ نسخها. واتسمت أفكار الآصفي بالسعة والعمق والأصالة حتى باتت لا يستغني عنها الشباب الحركي الواعي. وقد أصدر العشرات من الدراسات والكتب منها :
1.الإمامة في التشريع الإسلامي .
2.المدخل إلى دراسة التشريع الإسلامي .
3.دور الدين في حياة الإنسان .
4.ملكية الأرض ( رسالته في الماجستير)
5.تداول الثروة .
6.ولاية الأمر .
7.تاريخ الفقه الإسلامي .
8.آية التطهير .
9.نظرية الإمام الخميني في دور الزمان و المكان في الإجتهاد .
10.أثر العلوم التجريبية في الإيمان بالله .
11.الدعاء عند أهل البيت (ع).
12. بحوث في الحضارة الإسلامية
13.مع ذي النون في رحلة العودة إلى الله.
14.في رحاب الامام الحسين ، يوم عاشوراء
15.الانتظار الموجّه ، دراسة في علاقة الانتظار بالحركة وفي علاقته بها
16.الاجتهاد والتقليد وسلطات الفقيه وصلاحياته
17.العلاقة الجنسية في القرآن الكريم

ذكرياتي مع الشيخ الآصفي
في الثمانينيات كنت أرى الشيخ الآصفي في بعض المناسبات الدينية والاحتفالات والاجتماعات الحزبية. وكنت أستمع لمحاضراته وخطاباته في المواسم الدينية وخاصة في شهري محرم وصفر. كما كان يلقي كلمة حزب الدعوة في الاحتفالات والاجتماعات التي يحضر فيها ممثلون عن بقية الأحزاب السياسية العراقية المعارضة. وكان الشيخ ملتزماً بقرارات قيادة الدعوة بدرجة كبيرة، ففي أحد المرات كان القرار نحضر ولا نشارك في أحد المؤتمرات في صلاح الدين ، فحضر الشيخ لكنه رفض إلقاء كلمة لأنها تعني المشاركة.
وكان سماحته يزور المركز الإعلامي لحزب الدعوة الإسلامية كناطق باسم الحزب والادلاء بتصريحات تجاه حدث ما أو قضية مثارة في حينها. كما كان يتواصل مع المركز تلفونياً أو عبر الفاكس لمناقشة بعض التفاصيل قبل إصدار بيان أو توضيح من الحزب. وكنت ألتقي بسماحته في بعض مواسم الحج عندما كان يأتي لزيارتنا في حملة الحج.

محاولة اغتيال الشيخ الآصفي
في عام ١٩٩٦ تعرض الشيخ الآصفي لمحاولة اغتيال عندما قام شاب عراقي بالتعرض لسماحته باستخدام آلة حادة بعد أن دخل بيت الشيخ بحجة مقابلته بشأن ما، وكان الشيخ لوحده في غرف الضيوف والزوار. وحالما شهر المعتدي سلاحه ناوياً قتله صرخ الشيخ بوجهه فارتبك وفر نحو الباب لكن الشيخ لاحقه وأمسك به حتى تجمع حراس الشيخ وأوثقوه وسلموه للشرطة. وكان الشيخ قد أصيب بجرح في جبينه نقل بعدها إلى المستشفى للعلاج. وقد عفا سماحته عن الشاب المعتدي ورفض تقديم شكوى ضده.  
أثارت محاولة الاغتيال صدى كبيراً في وسائل الاعلام المحلية والإقليمية وخاصة في إعلام المعارضة العراقية التي اعتبرت المحاولة انهياراً للقيم الأخلاقية وأسلوبا لا إسلامياً في التعامل مع الآخر. وقيل أن الشاب المعتدي قد غرر به من قبل جماعة متطرفة ومعادية للشيخ الآصفي وتوجهه السياسي قيل أنها (جماعة أبو هدى الغزي).

كنت آنذاك مقيماً في هولندا فأرسلت لسماحته برقية مواساة وتضامن في ١٢ حزيران ١٩٩٦ الموافق ٢٥ محرم ١٤١٧ هج جاء فيها:
( سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي (دام ظله)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ببالغ الأسى والألم وصنا نبأ الاعتداء الآثم على سماحتكم. ونحمد الله سبحانه وتعالى على سلامتكم ونجاتكم من فعل تلك اليد الآثمة ، التي أرادت بعالم من علماء الإسلام الشر والسوء وسيجازي الله المجرمين. نسأله تعالى أنن ينعم عليكم بالصحة والشفاء ، وأن تبقوا ذخراً للاسلام والمسلمين.
كنت قد أرسلت لكم رسالة بالفاكس تضمنت بعض السئلة التي تتطلبها الدراسة في جامعة ليدن. أرجو أن تكون قد وصلتكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أبو جعفر المهندس ))

وقد أجاب سماحته برسالة عبر الفاكس بتاريخ ٢٣ تموز ١٩٩٦ الموافق ١ ربيع الأول ١٤١٧ جاء فيها:
( أخي في الله الأستاذ أبو جعفر المهندس حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ببالغ الاعتزاز والشكر استلمت رسالتكم الكريمة ، وقاكم الله كل مكروه وسوء ، وجمع شملكم بأهلكم وذويكم تحت راية الإسلام في العراق.
أرجوا أن تتفضلوا بإعادة إرسال الأسئلة ، ولكم الشكر ولمن معكم منن المؤمنين.
محمد مهدي الآصفي )

واستجابة لما طلبه سماحته أعدت إرسال الأسئلة الأربعة عشر والتي تضمنت أسئلة تتعلق بعلاقات الدولة الإسلامية مع دول العالم الحديث، ومدى التزام الدولة الإسلامية بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية ومنها ميثاق الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية ، ومدى تنفيذ بنودها داخل الدول الإسلامية.

المشاركة في تشييع الآصفي
توفي العلامة الشيخ الآصفي بعد أدائه صلاة الفجر مباشرة في مدينة قم المقدسة صبيحة يوم الخميس ٤ حزيران ٢٠١٥ الموافق ١٦ شعبان ١٤٣٦ هج ، عن عمر ناهز ٧٦ عاماً. وكان سماحته يخضع لعلاج كيمياوي. وكان قد زار لندن للعلاج عدة مرات من مرض في الكبد آخرها في شهر مايس ٢٠١٤ نقل إلى لندن بعد تعرضه لأزمة صحية.
تمّ تشييعه أولاً في مدينة قم المقدسة ثم صلّى عليه آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي. وشاركت في التشييع شخصيات دينية وسياسية إيرانية وعراقية بارزة والعديد من علماء الحوزة العلمية ومراجع الدين، تقدمها نائب رئيس مجلس خبراء القيادة السيد محمود الهاشمي الشاهرودي والعلامة الشيخ جوادي آملي، فضلا عن عدد كبير من علماء الدين وطلبة الحوزة العلمية.
 ثمّ نقل جثمانه بالطائرة إلى مدينة النجف حيث صلّى عليه آية الله العظمى الشيخ محمد إسحاق الفياض ، و دفن في مقبرة وادي السلام .
عندما بلغني خبر إجراء التشييع في النجف الأشرف أسرعت بالسفر للمشاركة في التشييع الذي جرى في ٦ حزيران ٢٠١٥. دخلنا أولاً المسجد الذي سجي فيه الجثمان، وقرأت سورة الفاتحة على التابوت ، ثم جلست في حلقة صغيرة على الأرض إلى جانب بعض المشيعين منن بينهم السيد نوري المالكي والشيخ محمد سعيد النعماني والشيخ محسن الأراكي وشخصيات دينية وسياسية عراقية وايرانية.  بعد ذلك حمل النعش وسار المشيعون خلفه باتجاه العتبة العلوية أولاً ثم مراسم الدفن. رحم الله الشيخ الآصفي فقد عاش طالباً مثابرا وعالماً جليلاً وفقيهاً معزوفاِ وخطيباً متكلما ومجاهداً بالكلمة والنصيحة والكتابة ومفكراً قدم العديد من الكتب والدراسات للفكر الاسلامي. عاش زاهداً متواضعاً في كل شؤونه ومعيشته وملابسه. وكل من عاشره يعرف ذلك عنها وتروى عن زهده قصص كثيرة.

بيانات نعي ورثاء الشيخ الآصفي
نظراً لمكانته الكبيرة فإن كثير من المؤسسات الدينية والأحزاب السياسية والأوساط الحوزوية قد أصدرت بيانات تعزية بوفاة الشيخ محمد مهدي الآصفي.
ففي بيان أصدره المرجع الأعلى السيد السيستاني جاء فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
تلقّى سماحة السيد السيستاني (دام ظله) ببالغ الأسى والأسف نبأ وفاة آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي (طاب ثراه) الذي كان نموذجاً للعالم العامل بعلمه ، الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، المتمسّك بسنة النبي وأهل بيته الأطهار عليهم الصلاة والسلام.
وإن سماحة السيد (دام ظله) إذ يعزّي الحوزات العلمية وذوي الفقيد الغالي وجميع محبّيه وعارفي فضله في هذا المصاب الجلل، فإنه يسأله الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته ويحشره مع أوليائه محمد وآله الطاهرين، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان ويجزل لهم الأجر والثواب. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مكتب السيد السيستاني في ١٦ شعبان ١٤٣٦ )

ونعى قائد الثورة الاسلامية في ايران السيد علي الخامنئي رحيل العلامة الفقيد اية الله الشيخ محمد مهدي الاصفي ببيان جاء فيه :
( بسمه تعالى
ببالغ الحزن والاسى تلقيت خبر رحيل العالم المحقق والمجاهد المرحوم اية الله الحاج الشيخ محمد مهدي الاصفي .
لقد كان سماحته فقيهاً مجدداً ومتكلماٍ ماهراٍ ومؤلفاٍ كثير العمل والتأثير، وكانت عشرات الكتب المفيدة والمثمرة في مجال العقيدة والكلام والفقه من ثمرة وبركة عمره الشريف.
خلف رحمه الله تاريخاً مضيئاً في ميادين النضال السياسي والاجتماعي في العراق ، وتمتع بفكر ثاقب وتحليل عميق حول القضايا الاقليمية ، ويعد ذلك من خصائص شخصيته الجامعة.
الزهد وعدم الرغبة بمتاع الدنيا المادي ، والقبول بعيش الطلبة الفقراء كانت من الصفات البارزة لهذا الروحاني الجليل.
تمثيله لي في النجف الاشرف ،يضع على كاهلي حقا كبيراً له، وآمل ان لطف الله ورحمته هو من يجازي خدمات سماحته العلمية والدينية والاجتماعية .
اتقدم الى عائله المرحوم واصدقائه ومريديه بالتعزية والمواساة ، وأسأل الله الاحد له علو الدرجات والرحمة والمغفرة .
السيد علي الخامنئي
١٤ خرداد 1394
١٦ شعبان المعظم 1436 )


كما أصدر أمين عام حزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي، بيان تعزية الى الشعب العراقي والامة الاسلامية بوفاة العلامة الشيخ محمد مهدي الآصفي، مؤكدا ان رحيله خسارة لخط الجهاد والمقاومة.
جاء في البيان:
( "أقدم التعازي الى الشعب العراقي والامة الاسلامية لرحيل المفكر الاسلامي المجاهد أية الله الشيخ محمد مهدي الأصفي. لقد كان المغفور له من بناة الحركة الاسلامية ومن طليعة الذين واجهوا النظام البعثي المقبور، وكان عالماً مهذباً وطاهراً ورعاً، متصفاً بالسجايا الأخلاقية الرفيعة والصلاح والسداد العلمي وخدمة الفقراء، وكانت حياته الطاهرة وسلوكه الانساني مثالاً للتقوى والورع.
إن رحيل العلامة أية الله الشيخ محمد مهدي الأصفي بمثابة خسارة للحركة الاسلامية في العراق وخط الجهاد والمقاومة. وبهذه المناسبة الأليمة، أعزي العلماء الأعلام والمراجع العظام، سائلاً المولى العلي القدير الرحمة والغفران لفقيدنا الغالي).

أخر الأخبار