• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

سيكولوجيا الفقيه

سيكولوجيا الفقيه

  • 28-05-2020, 22:54
  • مقالات
  • 621 مشاهدة
علي المؤمن

   هناك مداخل علمية كثيرة يمكن من خلالها دراسة العناصر الخارجية المؤثرة في إنشاء الفقيه للفتوى و الحكم الشرعي، أهمها علم نفس الشخصية. وليس المقصود هنا مصادر الإستنباط وأدلته وعناصره الداخلية، وليست الموضوعات أو عناصر تشخيصها؛ بل العناصر التي تساهم في التوجيه النفسي للفقيه خلال عملية الإستنباط أو اتخاذ القرار العام، والتي تشكل "شخصية الفقيه". و أهم ثلاثة عناصر مكونة لهذه الشخصية:
1- التكوين النفسي للفقيه، والذي تصنعه صفاته الوراثية البيولوجية وتربيته الأسرية.
2- التكوين الإجتماعي للفقيه، والذي تصنعه بيئته الإجتماعية وزمانه ومكانه.
3- القبليات المعرفية الأساسية، والتي تعبر عن النزعات الإداركية الذاتية

   وفي شخصية الفقيه  تتمظهر السمات الخاصة التي تميز كل فقيه عن غيره من الفقهاء،  وانعكاس هذا التميز على فتوى كل منهم، أو بكلمة أخرى: الصفات والاتجاهات والميول والمهارات والخبرات والاستجابات الثابتة في الشخصية، وأخلاقها وسلوكها الخارجي ومزاجها، والمؤثرات النفسية والعاطفية والوجدانية في أساليب تفكيرها، والتي تساهم بمجموعها في توجيه الفقيه ذاتياً نحو مضمون الخطاب الشرعي والقرار الإجتماعي والسياسي.

    و أهم فروع علم النفس التي تدرس تأثير العنصرين المكونين لشخصية الفقيه: علم نفس الشخصية وعلم النفس التربوي وعلم النفس المعرفي أو الإدراكي. كما يدرس علم الإجتماع التكوين الإجتماعي للشخصية وتأثير سماتها الإجتماعية على قرارتها وميولها. ومن المخرجات الموضوعية لهذه المداخل العلمية، ما يمكن أن نصطلح عليه " ذاتيات الفقيه"، أو "سيكولوجيا الفقيه" و"سسيولوجيا الفتوى"، أو "علم نفس الفقيه" و"علم اجتماع الفتوى". أما موضوعنا هنا فينحصر في مدخلية علم النفس، أو ما أصطلحنا عليه "سيكولوجيا الفقيه".

   حين يدخل الطالب الى الحوزة العلمية؛ فإنه لايختلف عن أي إنسان آخر  في توصيفات سمات الشخصية وأساليب تكوينها وتمظهراتها. فمن الممكن أن يكون الطالب الحوزوي قوي الشخصية أو يكون ضعيف الشخصية، و قد يتمتع بشخصية جاذبة آسرة أو شخصية منفرة طاردة، وقد يكون فعالاً منظماً  أو لامبالياً، منفتحاً حيوياً أو إنطوائياً منعزلاً متحفظاً، حساساً قلقاً أو مطمئناً واثقاً، نبيهاً فطناً أو بسيط التفكير ساذجاً، حكيماً عاقلاُ متزناً كيساً أو أرعناً أحمقاً متسرعاً، كريماً جواداً أو بخيلاً، شجاعاً جريئاً أو جباناً متردداً، مديراً مدبِّراً ذا نزوع قيادي أو فاقداً لملكة التدبير والإدارة والقيادة، يتمتع بالوعي العام و الذكاء الإجتماعي أو غبياً اجتماعياً، حسوداً حقوداً لئيماً فضاً غليضاً أو طيب القلب كريم النفس جميل الاخلاق، مستبداً برأيه ومتعصباً أو يؤمن بالمشورة ومتسامحاً، حسن الظن بالآخرين أو شكاكاً سيء الظن، معافى من أي مرض نفسي أو يعاني من التوتر والعصابية والكآبة و غيرها.

    هذه الملكات والمهارات والخصوصيات الشخصية والنفسية للإنسان، لا علاقة لها بالموقع الإجتماعي والسياسي أو القدرة المالية أو المستوى العلمي، ولا يمكن للموقع أياً كان أن يعيد تركيب الملكات الشخصية والنفسية؛ إلّا ماندر؛ فقد يبلغ الإنسان أعلى مراتب العلم والمعرفة؛ لكنه لايتمتع بالوعي والذكاء الإجتماعي، ولا يكون كريماً، ولا شجاعاً، ولا حكيماً، ولا يمتلك القدرة على الإدارة والتدبير والزعامة، ولا يكون قوي الشخصية.

   وتزداد أهمية هذا الملكات ومدخليتها وخطورتها؛ كلما اقترب الشخص من المواقع ذات العلاقة بالشأن العام، كرئيس الدولة أو رئيس أحد سلطاتها، والزعيم الديني والسياسي والحزبي والإجتماعي. وبالتالي تنعكس هذه الملكات على أحكامه وقراراته وسلوكه، وتجعل من نجاحه نجاحاً للجميع، ومن فشله انتكاسة للجميع.

    ويدخل موقع الفقيه، وتحديداً الفقيه المتصدي والولي الفقيه والمرجع الأعلى ضمن هذه المواقع التي تلعب الملكات الشخصية والتكوين النفسي لمن يشغلها، دوراً أساسياً في صناعة الواقع العام؛ لأن المرجع ليس مجرد مفتي يقدم الحلول الشرعية النظرية المحضة للأفراد في مجال العبادات والعقود والإيقاعات والمعاملات؛ بل هو زعيم ديني إجتماعي، يمتلك الولاية على الحسبة العامة والنظام المجتمعي.      

    وينعكس التكوين الشخصي والنفسي للفقيه ـ بشكل وآخر ـ على مسارات توصله الى الفتوى والحكم الشرعي والقرار ذي العلاقة بالشأن العام. ولا أقول أنه العنصر الأساس؛ بل هو أحد العناصر الدافعة باتجاه مضمون الفتوى والحكم الشرعي. ولهذه الفتوى أو الحكم أو القرار ـ كما أسلفنا ـ علاقة مباشرة بمصير مجموع المكلفين وأعراضهم ودمائهم وأموالهم؛ بل بمصير الأمة. أي أن خطورة سايكولوجيا الفقيه تتكرس في القرارات ذات العلاقة بقضايا الأمة والمجتمعات الشيعية في مختلف البلدان وأمور الحسبة العامة؛ كأساليب مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية، والتعامل مع التحديات الفكرية والثقافية والسياسية والإجتماعية والمعيشية وغيرها. أما انعكاساتها على جوانب العبادات والمعاملات الفردية وعموم الشؤون الشخصية للمكلفين؛ فإنه ليس بالأمر المهم أو المصيري.

  و لايتوقف انعكاس السمات الشخصية السلبية المتعلقة بالتكوين النفسي للفقيه؛ على توجيه مسار استنباط الفتوى وحسب؛ بل ينعكس تأثيرها على ملكة التقوى و العدالة أيضاً. ومن هذه السمات ـ مثلاً ـ الجبن والاستبداد وضيق الصدر والبخل والحسد والتعصب، أو التسامح المفرط والسذاجة وقلة التدبير وضعف الشخصية؛ إذ من الصعوبة أن تجتمع العدالة مع هذه الصفات في شخص واحد؛ فتكون العدالة حينها مفهوماً فضفاضاً لا يكبح جماح التأثيرات النفسية والشخصية للفقيه وانعكاساتها على عدالة الفتوى. وبالتالي؛ فإنّ الفقاهة والأعلمية لا تخلقان عند الفقيه ملكة التقوى ولا نزعة العدالة، كما أن الأعلمية والتقوى لا تخلقان عنده قوة الشخصية و حسن الإدارة والتدبير والحكمة.

   أما إذا كان الفقيه شجاعاً مجبولاً بشكل ذاتي على مجابهة التحديات؛ إتّجه تعاطيه مع القواعد والأدلة الشرعية نحو انتاج فتوى شجاعة؛ أي أنه يكون ميالاً تلقائياً وفي عقله الباطن نحو الأدلة التي تنتج هذا اللون من الفتوى؛ فيسخرها في خدمة الفتوى التي يستبطنها عقله الباطن، وإذا اتصف الفقيه بالحكمة ورجاحة العقل والإتزان؛ أضيفت الى الفتوى الشجاعة جرعات أساسية من الحكمة والعقلانية والتوازن، وإذا كان هذا الفقيه يتمتع أيضاً بالوعي الدقيق بالمحيط الإجتماعي وبالفهم العميق بالوضع العام والقدرة على تشخيص المصالح والمفاسد؛ فستكون الفتوى الشجاعة الحكيمة مستوعبةً لمصالح المذهب والطائفة والبلاد بدقة، وإذا كان الفقيه المتصدي يتمتع بكل تلك الصفات؛ إضافة الى صفة التدبير والقيادة؛ فستتحول الفتوى الشجاعة الحكيمة الواعية المستوعبة للمصلحة العامة الى خارطة طريق عملية يشرف المرجع على حسن تنفيذها. وتصل الفتوى الى ذروة تمتعها بعناصر الصحة والإنطباق مع مقاصد الشريعة ومصالح الناس؛ عندما يكون الفقيه مؤمناً بإستشارة أهل الإختصاص الحقيقيين في موضوع الفتوى.

(المقال القادم:  شرط الكفاءة في المرجع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أخر الأخبار